أسعد إنسان عرفته

منذ 2016-05-06

لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تسيرَ معه جبالُ الذهبِ والفِضَّة لسارتْ معه، لكنَّه تَنَزَّه وأعرضَ عن هذه الدنيا الفانيةَ، وآثرَ الآخرةَ الباقِيَةَ؛ فوجدَ السَّعَادَة والهناءَ. ومع كلِّ هذا كانَ صلى الله عليه وسلم أسعدَ إنسانٍ عرفَتْهُ الدنيا، كان دائمًا فرحًا مسرورًا، في أحلكِ الظروفِ، وأصعبِ المواقفِ، وأشدِّها فتكًا بالأقوياءَ، لا تفارقُ البسمةُ شَفَتَاه، ولا ُيَجاوزُ الرضا جِبَاه.

دخلَ عمرُ رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مُضَطَّجعٌ على رمالِ حصيرٍ، ليس بينَه وبينه فراشٌ؛ قد أثَّرَتْ بجَنْبِهِ، وكان متَّكئًا على وسادةٍ من أدَمٍ حشْوُها ليفٌ، وعند رجليه قَرَظ مصبُوب [أي: ورق شجر يُدْبَغُ به مسكوبًا].

رفعَ عمر بصره في بيتِ النبي صلى الله عليه وسلم  -خيرِ رجلٍ على هذه الأرض- فما رأى شيئًا يرُدُّ البصر، غير أَهَبةٍ ثلاث [الإهاب: جلد لم يُدْبَغْ].

قال عمر: "فابتدَرت عيناي"، بكى عمر لِمَا يرى من حالِ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال صلى الله عليه وسلم:«ما يبكيك يا ابن الخطاب؟!» فقلت: "يا رسول اللهّ إنَّ كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله"، فقال: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟» (أخرجه البخاري [5191]، ومسلم [1479]).

وفي بعض الروايات قال: "وما لي لا أبكِيّ؟ وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِكَ، وهذه خَزانَتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الأنهارِ والثمارِ، وأنت رسول الله وصفوتُه؟!"

ثم قال عمر: "يا رسول الله! ادْعُ اللهَ فَلْيُوَسِّعْ على أُمَّتِكَ؛ فإن فارسَ والرومَ قد وُسِّعَ عليهم، وأُعْطُوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله".

فجلس النبي صلى الله عليه وسلم  وكان متكئًا، فقال: «أَوَفِي شكٍّ أنتَ يا ابنَ الخطابِ! أولئكَ قومٌ قد عُجِلُوا طيباتِهِم في الحياة الدنيا، أما ترضَى أن تكونَ لهم الدنْيَا ولنا الآخرةُ؟»، فقال: "بلى يا رسول الله! استغفر لي".

قَالَتْ عَائِشَة: "كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَدَمٍ، وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ" (أخرجه البخاري [6456]).

وقالت رضي الله عنها: "مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ، مِنْ طَعَامِ البُرِّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، حَتَّى قُبِضَ" (أخرجه البخاري [5416]، ومسلم [2970]).

وقالت: "مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْلَتَيْنِ يَوْمٍ إِلَّا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ" (أخرجه البخاري [6455]، ومسلم [2971]). 

وقالت: "كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ" (أخرجه البخاري [6458]).

وكَانَتْ تَقُولُ لعُرْوَةَ بن الزبير: "وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ".

قَالَ: قُلْتُ: "يَا خَالَةُ فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟".

قَالَتْ: "الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ [تعني صِلَةٍ يصلُهُم بها الأنصارُ]، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهَا، فَيَسْقِينَاهُ" (أخرجه البخاري [2567]، ومسلم [2972]).

وقَالَتْ: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ" (أخرجه البخاري [3097]، ومسلم [2973]).

لقد كان صلى الله عليه وسلم  في حياتِهِ فرِحًا مبتهجًا، يُضَاحِكُ زوجاتِه ويُمَازِحُهُّنَّ، ويحْنُو علي الصغيرِ ويُنْصِتُ للكبيرِ، ويُسَاعدُ المُحْتَاجَ، ويعفُو عن المسيءِ ويتجاوَزُ عن المخطئِ.

إنْ أطْرَقَ قلبَهُ الحزنَ والهمُّ أَذْهَبَه حبُّ الله له، وأبدَلَه مكانَه رضًي بالقضاءِ وتسليمًا، وهدايةً إلى الخير وتوفيقًا، وإرشادًا إلى الحقِّ وتثبيتًا.

قَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، وَقَالَ: "كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلاَ رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ" (أخرجه البخاري [6457]).

وكان من دعاءه صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» (أخرجه البخاري [6460]، ومسلم [1055]).

يجوع صلى الله عليه وسلم  يومًا ويشبع لآخر، يموتُ وليس في بيتهِ إلا ستةُ دراهمَ، وقال لعائشة: «أخرجيها» .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا الْمَلَكُ مَا نَزَلَ مُنْذُ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ أَمَلَكًا جَعَلَكَ لَهُمْ أَمْ عَبْدًا رَسُولًا؟ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ.  فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا بَلْ عَبْدًا رَسُولًا"» (أخرجه أحمد [2/231]، وغيره).

لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تسيرَ معه جبالُ الذهبِ والفِضَّة لسارتْ معه، لكنَّه تَنَزَّه وأعرضَ عن هذه الدنيا الفانيةَ، وآثرَ الآخرةَ الباقِيَةَ؛ فوجدَ السَّعَادَة والهناءَ.

ومع كلِّ هذا كانَ صلى الله عليه وسلم  أسعدَ إنسانٍ عرفَتْهُ الدنيا، كان دائمًا فرحًا مسرورًا، في أحلكِ الظروفِ، وأصعبِ المواقفِ، وأشدِّها فتكًا بالأقوياءَ، لا تفارقُ البسمةُ شَفَتَاه، ولا ُيَجاوزُ الرضا جِبَاه.

قد جَعَلَ اللهُ قُرَّةَ عيْنِه ومُهْجَةَ قلْبِه وأسعدَ ساعاتِه في صلاتِه لرَبِّه، ووقوفِه بين يديه مُخْبِتًا خاضعًا طالبًا منه المغفرةَ والصَّفْحَ، باكيًا مُتَذَلِلًا له، وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم، الذي غفرَ اللهُ له ما تقدَّمَ من ذَنبْهِ وما تَأَخَّرَ، وأرَاه منزِلَه في الجنَّةِ وهو ما زالَ في الدنيا، وكان يقول لبلال بن رباج: «يَا بِلَالُ! أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا» (أخرجه أبو داود [4985])، بل كان يقول: «جُعِلَت قُرَّة عَيْنِي في الصَّلاةِ» (أخرجه النسائي [3939، 3940]، وأحمد [3/ 128، 199، 285]).

وفي زماننا أقوامٌ يقولون: أَرِحْنَا منها يافلانُ؛ ولذا حَلَّ الشقاءُ بِقُلُوبِهم، وولَّتِ السَّعَادَة مُدْبِرَةً عنهم؛ فليسوا أهلًا لها، ولا جَدِيرِينَ خَلِيقِينَ بها، ولو عادُوا إلى الصلاة وتلذَّذُوا بها لوجدوا السَّعَادَة والسرورَ، وإن شئت فَسَلِ العبادَ يجيبُوك.

لقد كانَ صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمرٌ فزع إلى الصلاة (أخرجه أبو داود [1319])، فيجِدُ فيه كَشْفًا لِلْغُمَّةِ، ونورًا للظلمَةِ، وفَرَجًا بعد شدَّةٍ، ويسرًا بعدَ عسرٍ، وانشراحَ صَدْرٍ، وانجلاءَ همٍّ، وزوال غمٍّ، وكان صلى الله عليه وسلم  يقول: «الصَّلاةُ نُورٌ» (أخرجه مسلم [223]).

لقد أسْعَدَ اللهُ تعالي نبيَّه صلى الله عليه وسلم  ومنحَه من السرورِ ما لم يَمْنَحْه لأحدٍ، قال الله جلَّ شأنه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ . وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ . الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ . وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1-4].

فأسعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم  بأمورٍ منها:

الأول: شرَح صدْرَه صلى الله عليه وسلم  بالإيمان، فكان من أشرحِ الناسِ صدرًا، وأوسعِهم قلبًا، وأقرِّهم عينًا، وأكملِهم حياةً صلى الله عليه وسلم، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام:125].

وكان صلى الله عليه وسلم في أشد الظروف محنة، وأعظمها بلاءً، يزداد إيمانًا، وثقةً في الله تعالى ووعده، ففي غزوة الأحزاب.

في قمة المحنة {إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] ما تزعزع إيمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ضعف يقينه في الله، بل ازداد؛ فكان يقول: إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله.

فكان صلى الله عليه وسلم أسعد الناس بإيمانه بالله؛ يرى بنور الله، ويعيش في كَنَفِ رعايته.

والثاني: خفَّفَ اللهُ عن رسوله صلى الله عليه وسلم  الآثامَ والأوزارَ، بل وغفرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وما تَأخَّرَ، فلم يكن مُحمَّلاً بما يُحَمَّلُه كثيرٌ من الناس من الأوزارِ التي هي من أعظمِ أسبابِ ضِيْقِ الصَّدْرِ وقِلَّةِ السَّعَادَة، بل هي من آكدِ أسبابِ زوالِهَا؛ فإنَّ السَّعَادَة تَذْهَبُ عند مُقَارَعَةِ السَّيِّئَاتِ؛ ولذلك ذكر الله تعالَى بعد شَرْحِ الصَّدْرِ تخْفِيفَ الأوزارِ عن رسوله صلى الله عليه وسلم.

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟" قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا» (أخرجه البخاري [4837]، ومسلم [2820]).

وقد رأى صلى الله عليه وسلم مقعده في الجنة وهو في الدنيا، فهو صلى الله عليه وسلم المعصوم، المغفور له، ما تلبس بمعصية قط؛ فكان بذلك أسعد الناس وأسرهم.

والثالث: رَفْعُ الذِّكْرِ له صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرةِ، ولا شك أن رفع الذكرِ بالخيرِ من سعادةِ العبدِ؛ ولذلك خصَّه الله جلَّ وعلا بالذكر، فلا يُذْكَر صلى الله عليه وسلم إلا بخير وبر، ولا يلفظ اسمه مسلمٌ إلا ويصلي عليه الصلاة والسلام.

بل وشهد له أعلام الكفرة بأنه صلى الله عليه وسلم كان أعظم رجلٍ في العالم، فلم يجعل الله ذكرًا بالخير بين المسلمين، وإنما جعل له ذكرًا بالخير بين أعدائه لمَّا عرفوا حياته، وما شتمه صلى الله عليه وسلم ولا انتقصه إلا جاهل ما قرأ عن سيرته العظيمة.

وقد كان نبيًا عظيمًا كخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يدعو الله تعالى أن يجعل له فِي النَّاسِ ذِكْرًا جَمِيلًا، وَثَنَاءً حَسَنًا بَاقِيًا فِيمَنْ يَجِيءُ مِنَ الْقُرُونِ من بَعْده عليه السلام، فيقول: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84].

بهذه الأمور الثلاثة كمُلَتْ لرسوله صلى الله عليه وسلم  أسبابُ السَّعَادَة، شَرَحَ اللهُ له صدْرَه، ووضَعَ عنه وِزْرَه، فغفَرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه وما تأخَّرَ، ورَفَعَ ذِكْرَه في الأوَّلين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلي يوم الدين.

إِنَّمَا السَّعَادَة لِمَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ بِهدايتِه وتوفِيقِه وعَوْنِه ونَصْرِه، وكانَ هو معَ اللهِ بطَاعَتِهِ واقْتِفَاءِ خُطَا نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم.

أبو حاتم سعيد القاضي

طالب علم وباحث ماجستير في الشريعة الإسلامية دار العلوم - جامعة القاهرة

  • 2
  • 0
  • 7,264

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً