من آداب الإسلام

منذ 2016-06-21

المسلم في دوحة الإسلام لا يجد نفسه إلا بين السماحة وشكر النعمة، وتلك ميزة لا تجدها في أي منهج أرضي، فما بالنا والإسلام منهج رباني تزيده صلته بالسماء قوة وديمومة جعلت العيش في رحابة رحلة مأمونة العواقب ومضمونة النتائج، بعكس أفكار البشر التي يمكن أن تأخذ من جهد وعمر الفرد الكثير ليكتشف بعد طول ممارسة مقدار زيفها وتهافتها فلا يسعه إلا أن يبدأ مشواراً جديدًا مع فكر آخر لعله يصل إلى السعادة المنشودة وهيهات أن يدركها في غير طريق الله تعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم

عن أبي الأحوص عن أبيه قال: قلت يا رسول الله الرجل أمر به فلا يقريني ولا يضيفني فيمر بي أفأجزيه؟ قال: «لا، أقره»، قال: ورآني رث الثياب، فقال: «هل لك من مال؟» قلت: من كل المال قد أعطاني الله من الإبل والغنم، قال: «فليُرَ عليك» [1].

المسلم في دوحة الإسلام لا يجد نفسه إلا بين السماحة وشكر النعمة، وتلك ميزة لا تجدها في أي منهج أرضي، فما بالنا والإسلام منهج رباني تزيده صلته بالسماء قوة وديمومة جعلت العيش في رحابة رحلة مأمونة العواقب ومضمونة النتائج، بعكس أفكار البشر التي يمكن أن تأخذ من جهد وعمر الفرد الكثير ليكتشف بعد طول ممارسة مقدار زيفها وتهافتها فلا يسعه إلا أن يبدأ مشواراً جديدًا مع فكر آخر لعله يصل إلى السعادة المنشودة وهيهات أن يدركها في غير طريق الله تعالى. 

وقوله في هذا الحديث الجليل (فلا يَقريني) تفسيره (ولا يُضيفني) وقوله (أفأجزيه) أي أكافئه بترك القرى ومنع الطعام كما فعل بي أم أقريه وأضيفه (قال: لا) أي لا تجزه وتكافئه (أقره) أي أضفه، وفي الحديث الحث على القرى الذي هو من مكارم الأخلاق، وفيه دفع السيئة بالحسنة والتي هي من أعظم أخلاق هذا الدين العظيم، قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] 
وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات، وينقلب الهياج إلى وداعة، والغضب إلى سكينة، والتبجح إلى حياء، على كلمة طيبة ونبرة هادئة وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام! ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجاً وغضبًا وتبجحاً ومرودًا، وخلع حياءه نهائياً، وأفلت زمامه وأخذته العزة بالإثم، غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد، وهذه القدرة ضرورية لتؤتى السماحة أثرها، حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفًا، ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقاً، وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها، فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها أو الصبر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولاً [2].

وقال ابن أبي حاتم: "الكريم لا يكون حقوداً، ولا حسوداً، ولا شامتًا، ولا باغيًا، ولا ساهيًا، ولا لاهيًا، ولا فاجرًا، ولا فخورًا، ولا كاذباً، ولا ملولاً، ولا يقطع إلفه، ولا يؤذي إخوانه، ولا يضيع الحفاظ، ولا يجفو في الوداد، يعطي من لا يرجو، ويؤمن من لا يخاف، ويعفو عن قدرة، ويصل عن قطيعة" [3].

أما موقف المسلم تجاه نعم الله تعالى عليه فتكتنفه العديد من الآداب والالتزامات، بداية من شكرها، ثم تسخيرها في مرضاته جل وعلا، فضلا عن التنعم بها في غير إسراف ولا مخيلة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى جميل، يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس» [4].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا آتاك الله مالاً فلير عليك، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنًا [أي بحسن الهيئة والتجمل] ولا يحب البؤس [أي الخضوع والذلة ورثاثة الحال] ولا التباؤس» [5] أي إظهار التمسكن والشكاية لأن ذلك يؤدي لاحتقار الناس له وازدرائهم إياه وشماتة أعدائه، فأما إظهار العجز فيما بينه وبين ربه بلا كراهة لقضائه ولا تضجر فمطلوب.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» [6] قيل المعنى: يرى مزيد الشكر للّه تعالى بالعمل الصالح والثناء والذكر له بما هو أهله، والعطف والترحم والإنفاق من فضل ما عنده في القُرب قال تعالى: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] والخلق كلهم عيال اللّه وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، فيرى في أثر الجدة عليه زياً وإنفاقا وشكراً، هذا في نعمة اللّه، أما في النعمة الدينية فبأن يرى على العبد نحو استعماله للعلم فيما أمر به، وتهذيب الأخلاق، ولين الجانب، والحلم على السفيه، وتعليم الجاهل، ونشر العلم في أهله، ووضعه في محله بتواضع ولين جانب في أبهة واحتشام، وفي ولاة الأمور بالرفق بالرعية، وإقامة نواميس العدل فيهم، ومعاملتهم بالإنصاف وترك الإعتساف، إلى غير ذلك من سائر ما يجب عليهم، ويطرد ذلك في كل نعمة مع أن نعمه تعالى لا تحصى [7].

فإن قليل إن هذا ينافي ما ورد في بعض الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: «البذاذة من الإيمان» [8] أي رثاثة الهيئة وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس، وحديث عائشة رضي الله عنها أنها أخرجت كساء وإزارًا غليظًا وقالت: "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين [9] ونهيه صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غباً [10] أي يوماً بعد يوم.

فالجواب: أن مقصود هذه الآثار الحث على التواضع وعدم الانغماس في زينة الدنيا والانشغال الزائد بها، ولذلك قال البغوي معلقا على قوله صلى الله عليه وسلم: «فليُرَ عليك» هذا في تحسين ثيابه بالتنظيف، والتجديد عند الإمكان من غير مبالغة في النعومة والترفه، ومظاهرة الملبس على الملبس، على ما هو عادة العجم والمترفين [11].

أما حديث «البذاذة من الإيمان» فالمقصود أن البذاذة من أخلاق أهل الإيمان إن قصد به تواضعاً وزهداً وكفاً للنفس عن الفخر والتكبر وإيثار الخمول بين الناس، لا إن قصد إظهار الفقر وصيانة المال، وإلا فليس من الإيمان من عرَّض النعمة للكفران، وأعرض عن شكر المنعم المنان، فالحسن والقبح في أشباه هذا بحسب قصد القائم بها فإنما الأعمال بالنيات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها» [12].

وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غبًا، فالمراد النهي عن المواظبة عليه والاهتمام به، لأنه مبالغة في التزيين وتهالك به، وينسجم هذا التأويل مع قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان له شعر فليكرمه» [13].

وقد يقال إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، ولكل مقام مقال، وقد كان جعفر الصادق رضي الله عنه يلبس الجبة على بدنه، ويلبس الثياب الفاخرة فوقها، فقال له بعض من اطلع على حاله في ذلك، فقال: نلبس الجبة للّه والخز لكم فما كان للّه أخفيناه، وما كان لكم أبديناه.

وقال الغزالي: اعلم أن الثوب الجيد ليس من ضرورته التكبر في حق كل أحد في كل حال، كما أن الثوب الدون قد لا يكون من التواضع، وعلامة المتكبر أن يطلب التجمل إذا رآه الناس ولا يبالي إذا انفرد بنفسه كيف يكون، وعلامة طالب الجمال أن يحب الجمال في كل شيء حتى في خلوته وحتى في ستور داره [14].

 

الهوامش 
[1] رواه الترمذي ــ كتاب البر والصلة / باب ما جاء في الإحسان والعفو رقم 2006، قال أبو عيسى وهذا حديث حسن صحيح وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك بن نضلة الجشمي، وروى الجزء الأخير منه أبو داود ــ كتاب اللباس رقم 3541، والنسائي ــ كتاب الزينة رقم 5129، وأحمد في مسند المكيين رقم 15323 والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي رقم 1632، وصحيح النسائي رقم 4819، وصححه الوادعي في الصحيح المسند رقم 1110 وقال صحيح رجاله رجال الصحيح.

[2] في ظلال القرآن ــ سيد قطب ــ سورة فصلت.

[3] روضة العقلاء / أبي حاتم بن حبان ــ مكتبة السنة المحمدية بمصر ص 173.

[4] رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد (صحيح) انظر حديث رقم: 1742 في صحيح الجامع.

[5] رواه البخاري في التلريخ الكبير والطبراني عن زهير بن أبي علقمة (حسن) انظر حديث رقم: 255 في صحيح الجمع.

[6] رواه الطبراني عن عمران بن حصين (صحيح) انظر حديث رقم: 1712 في صحيح الجامع.

[7] فيض القدير للمناوي 2/498.

[8] رواه أحمد وابن ماجه عن أبي أمامة الحارثي (صحيح) انظر حديث رقم: 2879 في صحيح الجامع.

[9] متفق عليه.

[10] رواه أحمد عن عبد الله بن مغفل (صحيح) انظر حديث رقم: 6870 في صحيح الجامع.

[11] انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ــ كتاب البر والصلة / باب ما جاء في الإحسان والعفو نقلاً عن شرح السنة للبغوي.

[12] رواه الترمذي عن معاذ بن أنس (حسن) انظر حديث رقم: 6145 في صحيح الجامع.

[13] رواه أبو داود عن أبي هريرة (صحيح) انظر حديث رقم: 6493 في صحيح الجامع.‌

[14] نقلاً عن فيض القدير للمناوي 1/456.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 4,110

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً