حال الأتقياء بعد رمضان
فيا مَن ذقتم حلاوة الطاعة والقرب من الله، وخالطت قلوبّكم لذةُ الإيمان، وتبتم وصدقتم مع مولاكم وخالقكم، وتعلَّقت قلوبكم ببيوت الرحمن، الزموا طريق الاستقامة، فهو طريق الوصول إلى مرضات ربكم ودخول الجنان.
الحمد لله رب العالمين، أمتن علينا بنعمة الإسلام، ويسر لنا بلوغ رمضان، وأعاننا على صيامه وقيامه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اصطفى من خلقه من يقوم بحقه وأفاض عليهم من نفحات رحمته، ووعدهم برضوانه وجنته، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا فهي النجاة غدًا لمن أتى بحقها ولزم طريقها {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] جعلنا الله وإياكم من أهلها.
عباد الله: ها هو شهر رمضان قد رحل عنا بعد أن قضى المسلمون أيامه الجميلة بالصيام، وأحيوا ليله بالقيام والدعاء وتلاوة القرآن، رحل عنا شهر الغفران والعتق من النيران.
كان مضمارًا يتنافس فيه المتنافسون، وميدانًا يتسابق فيه المتسابقون، فكم من أكُفٍّ ضارعةٍ رُفعت! ودموعٍ ساخنةٍ ذُرِفت! وعَبَراتٍ حرَّاءَ قد سُكِبَت؟! وحُق لها ذلك في موسم المتاجرة مع الله، موسمِ الرحمة والمغفرة والعتق من النار. فسلام الله على شهر الصيام والقيام.
مضى شهرُ رمضان وقد أحسن فيه أناسٌ وأساء آخرون، مضى وهو شاهدٌ للمشمِّر بصيامه وقيامه، وعلى المقصِّر بغفلته وإعراضه.
فهنيئًا لمن غفر الله ذنبه وستر عيبه وتقبل طاعته وكتبه من عتقائه من النار.
قال ابن رجب في وداع رمضان: "يا شهرَ رمضانَ ترفَّق، دموع المحبين تدفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تشقَّق، عسى وقفةُ الوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعةُ توبة وإقلاع ترقِّع من الصيام ما تخرَّق، عسى منقطعٌ عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسيرُ الأوزار يُطلق، عسى من استوجب النار يُعتق، عسى وعسى من قبل يوم التفرق إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي، فيُجبر مكسور ويُقبل تائب ويُعتق خطَّاء وَيَسعد من شقي" انتهى كلامه رحمه الله.
فيا مَن ذقتم حلاوة الطاعة والقرب من الله، وخالطت قلوبّكم لذةُ الإيمان، وتبتم وصدقتم مع مولاكم وخالقكم، وتعلَّقت قلوبكم ببيوت الرحمن، الزموا طريق الاستقامة، فهو طريق الوصول إلى مرضات ربكم ودخول الجنان.
ويا مَنْ جاهدتَ نفسك بالمحافظة على الصلاة في بيوت الله؛ استمر على الطريق ولا تقصر، فهو طريق الفلاح والنجاح والفوز برضوان الله جل وعلا، وصدق الله العظيم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ . رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ . لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36-38].
ويا مَنْ جاهدتَ نفسك على الصيام في رمضان؛ لا تَحْرمْ نفسَك من الصيام تطوعًا وتقربًا إلى الله بعد رمضان، فبابُه مَفتوح، واعلم أنه وقاية لك من النار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «البخاري [2840]).
» (صحيحولتكنْ بدايتك من شوال، فقد رَغّبَ رسولنا صلى الله عليه وسلم في صيام سِتةِ أيام مِنْ شوال، فقال: «صحيح مسلم [1164]).
» (ويا من ربيتَ نفسك على القيام في رمضان؛ وشعرت بلذة المناجاة لربك جاهد نفسك ولو بركعات قليلة، فقد كَانَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ. كما روت ذلك عائشة رضي الله عنها (متفق عليه)
وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «
» (صحيح مسلم [1163]).ويا من عِشتَ مع القرآن وشعرت بلذيذ خطاب الرحمن في رمضان؛ إياك ثم إياك أن تهجره بعد رمضان، ففيه الهداية والنورُ، وصدق الله العظيم: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة من الآيتين:15-16].
ويا من كنتَ من أهل الإنفاق والسخاء والبذل والعطاء في رمضان؛ إياك أن تحرم نفسك وتغلق ذلك الباب بعد رمضان، واعلم أن ما تنفقه يعود عليك بالخير العظيم في الدنيا والآخرة، وصدق الله العظيم {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل من الآية:20].
عباد الله: داوموا على طاعة ربكم بعد رمضان، فَربُّ رمضان هو ربُّ جميع شهور العام، واعلموا أن المُداوَمة عليها مِنْ أحب الأعمال إلى الله وهي من سِمَاتِ المؤمنين الصادقين، فعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى الله؟ فقال: «صحيح البخاري [6465]).
» (وعنها رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ" أيْ داوَمَ عليه (صحيح مسلم [746]).
ولقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده.
ومِنَ الخطأ الذي يَقعُ فيه بعض المسلمين -هداهم الله- تخْصِيصُ شَهْر رَمضانَ بالطاعةِ والاسْتِقامةِ دُون غيرهِ مِنَ الشهُور؛ ثم يعودون إلى ما كانوا عليه من التقصير والتفريط والوقوع في الذنوب.
سُئِل بشر الحافي رحمه الله عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضانُ تركوا، قال: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان!".
فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، واحرصوا على مرضات ربكم،واستمروا على ما أمركم به تسعدوا في الدنيا وتنالوا الرحمة والرضوان وسكنى الجنان في الدار الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرًا، أما بعد:
فيا أيها المسلمون والمسلمات اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الدين بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
واحذروا من فكر الشبهات والشهوات، واعلموا أن هؤلاء الذين يفجرون أنفسهم ويخيفون المؤمنين يخدمون الأعداء، ولكن نهايتهم بحول الله قربت، فقد جاء في النصوص الصحيحة الصريحة في الوعيد لمن تعرض للمدينة بأذى، قال صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح البخاري [1877]).وقال صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح مسلم [1363]).«
» (السلسلة الصحيحة: [6/373]).عباد الله: اعلموا أنه يجب على من كان عليه قضاء أيام من رمضان أن يبادر بصيامها، ومن أفطر في رمضان بعذر شرعي فعليه القضاء، وهو في ذمته، ويتأكد في حقه التعجيل به لأنه لا يدري ما يعرض له.
- والأولى تقديم القضاء على صيام الست من شوال، ومن أخره فلا حرج عليه لما روت
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ، وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (صحيح البخاري [1950]، وصحيح مسلم [1146]).
- ويحرم الفطر في صيام القضاء من غير عذر.
- ولا يلزم التتابع في صيام القضاء، بل يجوز أن يصومه المسلم متفرقًا.
- ولا بد من تبييت النية من الليل في صيام القضاء، وهكذا كل صيام واجب كالنذر والكفارة.
- ولا يحل للمرأة أن تفطر إذا صامت القضاء وطلب زوجها منها الفطر، لأن هذا معصية عظيمة، ولأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
- وإذا حصلت مناسبة واجتمع أفراد الأسرة، وكان بعضهم صائمًا لقضاء رمضان فلا يجوز لأحد أن يطلب منه أو يجبره على الفطر، لأن هذا الاجتماع لا يبيح له الفطر.
- ولا ينبغي للزوجة أن تصوم القضاء إذا منعها زوجها وكان في الوقت متسعًا، ولكن لو خالفت أمره وصامت فلا يحل له أن يلزمها بالفطر.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
الجمعة: 3/10/1437 هـ
- التصنيف: