نقاش استراتيجى حول فتح الله كولن وأردوغان وانقلاب تركيا وعصر الجماهير

منذ 2016-08-05

رأينا كيف أن أردوغان وحزب والعدالة والتنمية لم يقف مكتوف اليد أمام الانقلاب ولا اكتفى بالخطب الحماسية ودفع الجماهير للهتاف ضد الانقلاب فقط، بل استخدم جميع الأوراق السياسية والاستراتيجية والأمنية التى يملكها وجمعها وحشدها فى مواجهة الانقلاب (لاحظ أن تجميع القوى وحشدها من أبرز مبادئ الاستراتيجية) كما قام بتحويل الأوراق السياسية الى أوراق استراتيجية وأمنية ليعوض نقص قواه الأمنية والعسكرية فاستخدم موارد الحكم المحلي المدنية من مركبات ليسد بها الطرق أمام تحرك الانقلابيين وليحتل بها مدارج المطارات، كما استخدم الحشود الجماهيرية لتحرير المواقع الحيوية من قوات الانقلاب واعتقالها، واستخدم المساجد لحشد الجماهير واستخدم دار الافتاء لاعلان تحريم الانقلاب وحث الشعب على مساندة الشرعية..الخ.

هناك بعض البيئات السياسية تتسم بالحيوية فترى كل يوم فيها جديدًا سواء فى الأحداث التى يصنعها اللاعبون أو في تحالفاتهم وتحركاتهم الداخلية والإقليمية والدولية، وتمثل هذه البيئات نموذجًا يراقبه المهتمون والمراقبون السياسيون باستمرار ليس فقط بسبب تجدد أحداثه وتلاحقها باستمرار ولكن أيضًا بسبب إبداع اللاعبين في مثل هذه البيئات المتسمة بالحيوية وما يستلزمه ذلك من تلاحق الأحداث وتنوعها، فترى بل تفاجأ بإبداعات سياسية واستراتيجية وأمنية جديدة حيناً وعجيبة أحيانًا أخرى يباغتون بها بعضهم بعضاً في صراعهم السياسي المتواصل.

وساحة تركيا هي من هذه البيئات السياسية الحيوية منذ سنوات عديدة، وتتسم بأهميات عديدة على أكثر من مستوى ليس بسبب حيويتها فقط ولكن أيضاً لأن رجب طيب أردوغان له استراتيجية كونية وإقليمية ومحلية طويلة المدى وشارفت على مراحلها الأكثر خطورة والأكثر صعوبة، وبذا فهو مشتبك فى صراعات رئيسية وفرعية عديدة سواء مع روسيا أو إيران وذيولها أو الاتحاد الأوروبي أو الناتو أو الولايات المتحدة أو دول خليجية وعربية أو اسرائيل والصهيونية الدولية أو غلاة الحركات الإسلامية كتنظيم الدولة وفصائل جهادية أخرى أو أكراد تركيا وبعض أكراد سوريا أو علماني تركيا وطبعًا مع تنظيم فتح الله جولن.  

أكثر هؤلاء اللاعبين المشتبك معهم أردوغان يتسمون بالاحتراف السياسي والاستراتيجي بل وبعضهم لا يمارس السياسة والاستراتيجية والأمن باحترافية فقط بل يمارسها بإبداع ومكر ودهاء في آن واحد.

وفي هذا الإطار تأتي عملية الانقلاب العسكرى الأخير فى تركيا إذ برز فيه فكر استراتيجى مبدع خاصة من جانب رجب طيب أردوغان وقادة التيار الذي يمثله، كما برز فيه إبداع استراتيجى وأمني أيضاً من قبل فتح الله كولن وجماعته وإن كان ذلك اقتصر على مراحل التحضير للانقلاب حتى لحظة إطلاقه.

رأينا كيف أن أردوغان وحزب والعدالة والتنمية لم يقف مكتوف اليد أمام الانقلاب ولا اكتفى بالخطب الحماسية ودفع الجماهير للهتاف ضد الانقلاب فقط، بل استخدم جميع الأوراق السياسية والاستراتيجية والأمنية التى يملكها وجمعها وحشدها فى مواجهة الانقلاب (لاحظ أن تجميع القوى وحشدها من أبرز مبادئ الاستراتيجية) كما قام بتحويل الأوراق السياسية الى أوراق استراتيجية وأمنية ليعوض نقص قواه الأمنية والعسكرية فاستخدم موارد الحكم المحلي المدنية من مركبات ليسد بها الطرق أمام تحرك الانقلابيين وليحتل بها مدارج المطارات، كما استخدم الحشود الجماهيرية لتحرير المواقع الحيوية من قوات الانقلاب واعتقالها، واستخدم المساجد لحشد الجماهير واستخدم دار الافتاء لاعلان تحريم الانقلاب وحث الشعب على مساندة الشرعية..الخ.

فهنا جاء الإبداع الاستراتيجى في تشكيل وتوجيه الموارد إلى الاتجاه الذي به نقص لتعويض ذلك النقص، فهو ينظر لرقعة الصراع الاستراتيجى برؤية شاملة فيجبر كسر ما انكسر ويكمل نقص ما نقص ويسد كل خلل بما يستوجبه كمًا ونوعًا في الوقت المناسب دون تأخر أو إبطاء أو تأجيل، وذلك كله بلا هوادة ولا انتظار لمجاملة أو عطف من أحد، لأنه يفهم جيدًا أن الصراع الاستراتيجي لا عواطف فيه ولا مجاملات بل ولا يرحم فيه أحد أحدًا فهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

لقد تعامل أردوغان وحزب العدالة والتنمية مع الانقلاب بواقعية استراتيجية وأمنية منقطعة النظير، فلم نسمع من أي منهم نداء للمجتمع الدولى ولا استعطاف له ضد الانقلاب لأن أردوغان وحزبه يعلمون أن الانقلاب يسانده المجتمع الدولي كما يعلمون أن الأمر إذا ما وصل للساعة صفر فإنه لن يحسم أحد الموقف لصالحه إلا من يفرض واقعه على الأرض فعليًا، فرغم المساندة الدولية الكبيرة التي حظى بها الانقلاب قبل بدءه وفي ساعاته الأولى إلا أن المساندة الخارجية لا تجدي ما لم يكن هناك واقع على الأرض يدعم الإرادة الخارجية وهذا ما يفهمه أي شخص ذو وعي استراتيجي حقيقي، وهذا ما عمل وفقه رجب طيب أردوغان وحزبه.  

ودائماً الذراع الأمنية الأقوى هي التي تكسب في الشأن المحلي على الأرض وكان إنقلاب تنظيم كولن قوياً أمنيًا جدًا (فقد كان مساعد رئيس الأركان ورئيس المخابرات العسكرية وقائد القوات الجوية والمساعد العسكري لأردوغان وقادة عدة جيوش كلهم من قادة الانقلاب) ولكن كتلة كولن رغم قوتها فقد واجهتها جماهير نشطة تمارس أمنًا فصارت ذراعاً ودرعاً أمنياً قوياً انكسرت عليه ذراع كولن الأمنية رغم قوتها ومساندة الغرب فى الخارج لها.

وسوف تركز مراكز الأبحاث السياسية والأمنية والاستراتيجية فى الأيام القادمة على هذه النقطة المهمة والجديدة وستظل تدرس كيف يمكن كبح مثل هذه الجماهير وقمعها كي تتدارك فشل الانقلاب في تركيا.

إن ضعف هذا الانقلاب لم يكن في شيء إلا في كون من نظمه هم نخبة ليس لها ظهير شعبي أو قاعدة سياسية شعبية كما أنه لا غطاء سياسياً له، فهم نواة صلبة، آلاف من قادة الجيش والقضاء والصحافة والإعلام ووزارة الخارجية وأصحاب الأموال لكن ليس لهم امتداد جماهيري كما لم يكن لهم غطاء سياسي فأردوغان وحزبه حولوا تركيا من دولة تتبع العالم الثالث ومديونة ومواطنيها فقراء الى دولة ترتيبها ١٧ اقتصاديًا على العالم ودخل مواطنيها مرتفع، وحاول تنظيم جولن من فترة تدنيس أردوغان وحزبه بالفساد لكن لم يتمكنوا كما حاولوا بث الفرقة والفتن بسبب عمليات حزب العمال الكردي وإرهاب داعش لكن لم يفلحوا فجاء انقلابهم بلا مبرر ولا شرعية سياسية بجانب أنه ليس له تأييد جماهيري ولا سياسي وحتى أنهم لم يصطنعوا جماهير بالمال والمصالح لتؤيدهم وتخلق غطاء سياسيًا وهميًا لهم كما حدث بانقلابات بدول أخرى، وحتى لو فعلوا هذا الغطاء الوهمي فقد كانت اليد الأمنية/الجماهيرية التركية المناهضة للانقلاب ستكسره بسهولة لكنه كان سيصنع شيئًا من التشويش ولو القليل ضد أردوغان وحزبه.

ومع هذا أبدع تنظيم فتح الله كولن في أنه تمكن من بناء كل هذه القوة الصلبة بالتغلغل في مفاصل الدولة المهمة والحيوية بالجيش والقضاء والإعلام وعالم المال ووزارة الخارجية وبلغ أتباعه مناصب ورتب عالية في هذه الأماكن وفي سرية تامة بأغلب الأحيان، كما نجح في تحريك ذلك كله بغتة بمكر ودهاء، ولا يغمط من نجاحه هذا (وهو نجاح استراتيجى ليس سهلاً) أن انقلابه فشل، وسيظل ما فعله هذا التنظيم يدرسه ويبحثه السياسيون والاستراتيجيون والأمنيون لمئة عام قادمة، وعند دراسة هذا الأمر سيرى الدارسون أننا دخلنا عصر الجماهير وعصر استخدام "الكم" وتحويله الى "كيف أو "قدرة نوعية".. صحيح أن هذا بدأته إيران بتكيكات عسكرية في حربها مع العراق فى 1980 لكن من بدأ هذا فعلاً فى السياسة والأمن هو حزب أردوغان في تركيا فى 15 يوليو 2016. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

عبد المنعم منيب

صحفي و كاتب إسلامي مصري

  • 5
  • 1
  • 2,832

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً