خطب مختارة - [131] المساجد الثلاثة - أولياؤها وأعداؤها
إذا قيل المساجد الثلاثة فالمقصود المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة والمسجد الأقصى بالقدس، هذه المساجد الثلاثة ترتبط برباطٍ من الفضل وثيق، وتتصل بحبل من الشرع متين، وتزخر بتاريخٍ عظيم؛ تاريخٍ مرتبطٍ بالرسل وبالرسالات؛ وبالكتب المنزلة؛ وبالشرائع التي فيها صلاح العباد في الدنيا والآخرة.
الخطبة الأولى
الحمد للـه الخلاق العليم، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أَسرى به ربُّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعَرج به إلى السموات العلى، وصلى إمامًا بالأنبياء في المسجد الأقصى؛ إيذانا بأنه إمامهم في الدنيا والآخرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا له دينَكم، وأسلموا له وجوهَكم، وأخلصوا له أعمالَكم.
عباد الله، إذا قيل المساجد الثلاثة فالمقصود المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة والمسجد الأقصى بالقدس، هذه المساجد الثلاثة ترتبط برباطٍ من الفضل وثيق، وتتصل بحبل من الشرع متين، وتزخر بتاريخٍ عظيم؛ تاريخٍ مرتبطٍ بالرسل وبالرسالات؛ وبالكتب المنزلة؛ وبالشرائع التي فيها صلاح العباد في الدنيا والآخرة.
فمكةُ فيها ذكر الخليلِ إبراهيم وابنِه إسماعيل وزوجته هاجر عليهم السلام، مرورا بالصالحين في الفترة بين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة السلام، كورقة بن نوفل وزيدِ بن عمرو؛ في قلةٍ مِمَّن رفضوا الشرك وأقاموا التوحيد، حتى أضاءت مكةُ برسالةِ خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، فطهَّرها بالفتح من رجس الوثنية، وأعادها إلى الحنيفية، فانقطعت الهجرة منها بعد دخولها في دين الله الحق.
ولم يكن أحدٌ أحقَّ بمكة ومسجدِها إلا من يُقيمُ دينَ اللـه تعالى فيها، ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم في أهلها، ويأتي بشعائر الله فيها على الوجه الذي شرعه الله تعالى بلا زيادة ولا نقصان.
وهذه الأحقية للمؤمنين في حرم اللـه تعالى مقطوعٌ بها في كتاب اللـه تعالى؛ فإن المشركين لما ادّعوا أنهم أولى بالبيت من غيرهم لأنه تحت أيديهم؛ ولأن مكةَ بلدُهم؛ وقالوا: نحن ولاةُ البيتِ والحرمِ فنصدُّ من نشاء، ونُدخِل من نشاء؛ نفى الله تعالى استحقاقهم الولاية عليه بقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]
فهذا هو حكم اللـه تعالى في مساجده المعظمة؛ أن يَلِيَها أهلُ التقوى، وأن يَغلِبوا عليها، وأن يُطهِّروها من رجس أعداء اللـه تعالى؛ وأعداء دينه وأعداء مساجده.
وقد جعل الله الصلاةَ في المسجد الحرام بمكة تفضل على الصلاة فيما سواه من المساجد بمئة ألف صلاة؛ كما جاء في الحديث الصحيح؛ فأهل الإيمان يعمرونه بالصلاة فيه؛ فإنّ من أعظم وأجل عِلل وحِكَمِ تطهيره من رجس المشركين عمارتَه بالطواف والصلاة {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حرّمها كما حُرِّمت مكة، وفي ذلك حديث عبد اللـه بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح البخاري: 2129]. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن أجر الصلاة في مسجده بالمدينة بألف صلاةٍ فيما سواه.
إخوة الإسلام، ومنذ أن فُتحت مكةُ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومنذ أن شُرع الحج وأمةُ الإسلام تقيمُ شعائرَ الحج في كل عام؛ إلا في سنةِ ستَّ عشرةَ وثلاثِ مئة فقد تعطل الحج بسبب القرامطة الباطنية الذين كانوا يذبحون الحجاج ويقطعون الطرق عليهم. قال الإمام الذهبي في أحداثها: ( ولم يحجّ أحدٌ في هذه السنة خوفًا من القرامطة. ولهم تاريخ دموي مع حجاج العراق وخراسان، بل بلغ أذاهم إلى مكة فاستحلوها، ونزعوا الحجر الأسود من الكعبة، فخلا منها ثنتين وعشرين سنة، وقتلوا الحجاج في الحرم يوم التروية).
إخوة الإيمان، ويلي المسجدين في الفضل، وجواز وفضل شدّ الرحل إليه تعبدًا لله: المسجد الأقصى، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صحيح مسلم: 1397]. وهذا المسجد الأقصى له تاريخ مجيد مع رسلِ اللـه عليهم السلام؛ فقد هاجر إليه إبراهيم، وبُعث في أرضه إسحاقُ ويعقوب، ومن أرضه أُخرج يوسفُ طفلا إلى مصر في قصته المشهورة، وإليها عاد بنو إسرائيل بعد هلاك فرعون، وفَتَحها يُوشعُ بنُ نون، وفيها بُعث داودُ وسليمانُ وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام في جمعٍ من الأنبياء والمرسلين، حتى كانت بلدَ المسيح عيسى، ومنها رُفع إلى السماء، وكانت قبلةَ بني إسرائيل ، ثم صارت القبلةَ الأولى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يُحَوِّلَ الله تعالى القبلةَ إلى الكعبة.
» [وجاءت في فضل الصلاة في المسجد الأقصى أحاديثُ تدل على أنها مضاعفة أيضًا. وهذا الأحاديث من أعلام النبوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر فضلَ الصلاة فيه كان النصارى يسيطرون عليه، وهذا دليل على أنها ستفتح وتَنتقل لولاية المسلمين، فكان كذلك.
وكان النصارى أولى بها من اليهود والوثنيين؛ لأنهم كانوا على الدين الحق. فلما بدلوا دينهم؛ وحرفوا كتابهم؛ وخرجوا على شريعتهم؛ انتقل حقُّهم فيها إلى غيرهم؛ لأن الأولى بمساجد اللـه تعالى-من يقيم دينَه؛ ويتبع رسلَه؛ ويُعظِّمُ كتبَه؛ ويعمل بشرعه. ولم يكن أحدٌ كذلك بعد بعثة النبي الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام إلا أتباعُه.
ولذا توجهت همةُ النبي صلى الله عليه وسلم لتطهير الشام من الشرك بعد تطهير مكة، وليضمَّ المسجدَ الأقصى إلى مسجدي مكة والمدينة في ولاية المسلمين عليهما، فكانت سَرِيةُ مؤتة ثم غزوة تبوك باتجاه الشام، وبعد أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم تواصل جهدُ الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لضم المسجد الأقصى للمسلمين، حتى انتصر المسلمون في معارك الشام، فسار عمر رضي الله عنه بنفسه وهو خليفة المسلمين آنذاك من المدينة إلى بيت المقدس ليتسلم مفاتيحها من كبار النصارى الذين بدلوا دينَهم؛ وحرفوا كتابهم.
وسبب هذه الأحقية هي أن الإسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله تعالى لعباده وأرسل به رسلَه جميعًا، فكان حَمَلَةُ دينِه وأتباعُ رسلِه أولى بمساجده سبحانه من غيرهم من أهل الملل والنحل، فأهل الإسلام هم الذين يُقيمون توحيد الله فيها، ويمنعون الشرك وأهله منها.
وعلى هذا كان تاريخُ المساجدِ الثلاثة تاريخًا يَشِعُّ بأنوار النبوة والوحي، وهو تاريخٌ يزخر بالعلم والعلماء والكتب والمصنفات التي كتبت ودرست في زوايا هذه المساجد الثلاثة وما حولها، وهو تاريخ يحكي سِيَرَ العُبّاد الذين جاوروا في المساجد الثلاثة؛ فأحيوها بالقرآن والذكر.
إخوة الإيمان، أحاديث فضائل المساجد الثلاثة تُحَمِّلُ المسلمين مسئوليةَ الحفاظِ عليها من اعتداء المعتدين.
وعلى ذلك يجب على المسلمين ردُّ العِصابات الصُّهيونية عن المسجد الأقصى، وهم يريدون هدمَه وبناءَ هيكلهم؛ لنقل أرضه من أرض يُسجد للـه تعالى فيها ويعبد ويُوحّد؛ إلى أرضٍ يُشركُ فيها باللـه تعالى، ويُعبدُ غيرُه.
نسأل الله تعالى أن يكبت الصهاينة والصفويين، وأن يردهم على أعقابهم خاسرين، وأن يحفظ المساجد الثلاثة من كيدهم وشركهم، إنه سميع مجيب.
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا فضل مساجدكم، وحقيقة أعدائكم، وما يريدونه بكم وبمقدساتكم؛ فإنهم لا يضمرون إلا الشر للإسلام وأهله كما قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] ، والأمة الصفوية الباطنية تمثل في هذا العصر رأس النفاق السبئي الذي يُظهر الحفاوةَ بالإسلام والمسلمين؛ وهو يبذل جهدَه في طمس معالم الإسلام وسحق المسلمين في كل مكان. ويُظهر الخوفَ على الحجاج في عملية ابتزاز واضحة وهم الذين قتلوا الحجاج وفجروا في أوساطهم قبل سنوات قريبة، وودوا لو فعلوا ما فعل أسلافُهم القرامطة حين ملئوا ساحة الكعبة وجنبات المسجد الحرام بجثث الحجاج المحرمين الطائفين، ولم يستثنوا من القتل طفلا ولا امرأة ولا مسنا ولا من تعلقوا بأستار الكعبة .
ألا وليعلم أنّ كُتُبُ الصفويين تُفَضِّلُ مشاهدَهم الشركية في كربلاء والكوفة على المساجد الثلاثة، وتجعل فيها من أجور الزيارة والطواف بها والصلاة عندها ما هو أفضل من الحج. بل إنّ أئمتهم لا يأبهون بالحج ولا بمكة ولا المدينة، ولا تعترف كتبُهم بالمسجد الأقصى، بل يعدونه في السماء. وإنما يحجون ويعتمرون خداعا لعوامهم وعوام المسلمين؛ ولأجل تسخير الحج ومشاعره لأغراضٍ سياسية كما يفعلون في كل عام، وكتبُهم ناضحةٌ بكل ذلك، ونصوصهم المكذوبة على أئمة آل البيت كثيرة في هذا الباب.
عباد الله، إن المسلمين هم أولياء المساجد الثلاثة، وهم الأحق بها من الباطنيين ومن الصهاينة والصليبيين الذين لا يريدون إلا الإفسادَ فيها، وتلويثَها بالشرك بعد أن صفت بالتوحيد، فمسئولية المسلمين اليوم عظيمة في الدفاع عن المساجد الثلاثة، وحراستها ممن يريد المِساس بها، وفضح كلِّ توجّهٍ مُريبٍ يريد الالتفاف على ولاية المسلمين عليها. فالمساجد الثلاثة حق خالص للمسلمين لا ولاية ليهودي ولا نصراني ولا باطني ولا لغيرهم على شيء منها، وهي وقف لا يسع أحدا التصرفُ فيه أو التنازلُ عنه، ومتى ما فهم المسلمون هذا المعنى أدركوا حجم المسئولية الملقاة عليهم بالحفاظ على المساجد الثلاثة، حفظها الله تعالى بحفظه، وجعلها أبد الدهر عامرة بذكره، وجنّبها وأهلَها كلَّ سوء ومكروه، إنه سميع مجيب .
اللهم احفظ هذه المساجد الثلاثة والقائمين على عمارتها. اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
- التصنيف:
- المصدر: