بن علي: الطغاة يسقطون في الوحل دائما !
منذ 2011-01-16
فعلها التونسيون، ذلك الشعب الرائع والعظيم الذي استطاع دون سلاح، ولا خطابات سياسية سفسطائية، وبصدور عارية أن يهز عرش الطاغية، ويجبره على الهرب، تونس اليوم تغيرت ملامحها في عيون كل العالم...
فعلها التونسيون، ذلك الشعب الرائع والعظيم الذي استطاع دون سلاح، ولا خطابات سياسية سفسطائية، وبصدور عارية أن يهز عرش الطاغية، ويجبره على الهرب. تونس اليوم تغيرت ملامحها في عيون كل العالم، وتحول الشعب التونسي إلى ثائر على طريقته، استطاع بفضل الله تعالى أن ينتصر على أعتى طاغية عرفته البلد في العهود السابقة. سقوط بن علي لم يكن حدثا فقط، بقدر ما كان تاريخا جديدا سوف يقرأه التونسيون في المدارس، سوف يتحول هذا اليوم إلى رمز للثورة الشعبية الأهم والأخطر داخليا، وفي المغرب العربي، وفي الوطن العربي، لأن الطغاة مهما عاشوا طغاة، فلن يظلوا على ظهر الشعوب طويلا، ولأنه لا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر ! فمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا !
لقد أبان الرئيس التونسي في آخر خطاباته أمس عن مدى هشاشته، ومدى ضعفه، وأنه حين يتجلد الشعب بالإرادة، ويغضب على الظلم والاستعباد لن يكون بوسع الحاكم أن يكون قويا ولا قادرا على مزيد من القمع، تلك هي الصورة التي سوف تظل عالقة في الأذهان، صورة بن علي وهو يرتعش قائلا لشعبه الأبي" لقد فهمتكم" تماما كما قالها "شارل ديغول" للمغاربة إبان الثورات الشعبية في الخمسينات، وظلت هذه العبارة "رمزا للعلاقة غير الصحية ولا العادلة بين سلطة طاغية ما وبين الشعب". بن علي تأخر كثيرا قبل أن يفهم شعبه، تأخر أكثر من عشرين سنة، قبل أن يستوعب أن شعبه ليس ضعيفا كما اعتقد، وليس مسكينا ولا مستكينا ولا جبانا، بل قويا وعظيما حين يقرر أخذ حقه بيده، وها هو قد فعلها التونسيون !
بن علي والحرس القديم: ميليشيا التخريب !
هروب بن علي من تونس، يعني هروب طاغية بكل ما تعنيه الكلمة من إرث ثقيل على المجتمع التونسي، وعلى المخيلة التونسية الراهنة، لكن بن علي الذي رفض التخلي عن السلطة في الأوقات الممكنة وبالطرق السلمية، هو الذي أمر الأمن الخاص بتسلق أسطح البنايات الرسمية لقنص المواطنين العزل، لهذا نعتقد كغيرنا أنه لن يكون من السهل عليه ترك السلطة ببساطة، بدليل أن ان مليشيات تابعة للرئيس انتشرت في البلاد، وتساهم في عملية اعتداء مفضوحة وتخريب ضد الممتلكات أمام مرأى من الأمن على حد تعبير أحد الصحافيين في حديثه إلى قناة الجزيرة. بيد أن ما يعرف بمليشيات الحزب الحاكم تحاول إعادة تونس إلى الوراء، وتحاول قتل فرحة التونسيين وخنق ثورتهم الشعبية العظيمة، بل تسعى إلى التشكيك فيها كي "يترحم الشعب" على أيام بن علي "الآمنة !"، وهذا بالضبط ما تفعله دائما الطغمة الحاكمة البائسة حين تعرف أنها خسرت المعركة، وأنها لا بد أن تمر على المحكمة الشعبية لمساءلتها على كل السنوات التي ساهمت في الفساد واللصوصية والتنكيل والتقتيل والاعتقال ضد التونسيين، ف24 سنة ليست مجرد عام أو عامين، بل هي إرث طويل من الفساد ومن الفشل على كل الصعد، والأخطر أنه إرث من الإذلال المتواصل الذي جعل شعب القيروان والزيتونة يعيش غريبا في داره وبين أهله، جائعا لدينه، محروما من عقيدته، معتقلا إن هو انتقد أوضاعه المعيشية، متهما بالإرهاب إن كان متدينا وملتزما بدينه ولبسه !
ما أراده الشعب التونسي تحقق جزء مهم منه فعليا، فقد كان الشعب يريد رحيل بن علي من الحكم، وبالتالي العودة إلى فضاء سياسي أكثر انفتاحا وعملية ونضجا، يمنح للدولة سقف من الحقوق الاجتماعية والسياسية، بعودة العقل والوعي السياسي الفاعل إلى العمل، عبر عودة التونسيين الشرفاء إلى الوطن، وإخراج المعتقلين الذين يسكنون السجون منذ أكثر من عقدين من الزمن.
لكن الذي يبدو واضحا أن الحرس القديم الذي قاد نظام بن علي هو الذي استولى على الحكم، وعندما خطب "محمد الغنوشي" على التونسيين تكلم بعبارة "مؤقتا" وكأنه يوحي أن بن علي سيظل رئيسا على تونس ولو عن بعد، حتى لو مات كل الشعب التونسي، وهي الجملة التي فتحت البلاد على جملة من الأسئلة المشروعة أولها أن مطلب الشعب كان واضحا، رحيل بن علي نهائيا بكل ما تعنيه الكلمة من حاشية فاسدة ساهمت في تفقير وتحقير التونسيين، كما أن "محمد الغنوشي" نفسه واحدا من أبرز وجوه الفساد في البلاد، بل كان مؤيدا وفيا للممارسات الظلامية التي مارسها آل بن علي (الرئيس) وآل الطرابلسي (زوجة الرئيس) وليس بعيدا أن "محمد الغنوشي" هو الذي امتدح قبل سنة على قناة فرانس2 الفرنسية نظام بن علي واعتبره أنموذجا ناجحا ومبهرا النظم المغاربية والعربية، ونصح الدول الأخرى إلى تقليد نظام بن علي لترتقي كما ارتقت تونس !!
لهذا يبدو الشارع التونسي تحت الصدمة، ربما لأن تضحياته وإصراره الكبير اصطدم بصخرة الحرس القديم، بحيث أن الجميع اكتشف أن هرب الرئيس لا يكفي في ظل بقاء حاشيته السياسية والأمنية التي تبدو مستعدة لتحويل تونس إلى صومال جديدة دفاعا عن مصالحها وعن تلك الثروات التي نهبتها من جيوب الشعب. كما أن اعتماد رئيس الوزراء التونسي على مادة 56 من الدستور أمر غير شرعي بالمطلق، فالرئيس لم يتنحَ بمحض إرادته، بل هرب مُــــــقالا من الشعب، ولن يكون من المنطقي القول أن "محمد الغنوشي" سوف يحكم تونس "مؤقتا" وليس من المنطقي القول أن "بن علي" خارج تونس مؤقتا، وإلا فهذا اسمه اعتداء صارخ على القانون الدستوري للبلد، على الأقل في مادته الحالية، وعلى الأقل في ظروف البلد الراهنة التي لن تسمح بأن يظل بن علي أو يعود، ولن تسمح بأن يقود البلد شخصا كان وراء أكبر الفضائح المالية في البلد، وارتبط اسمه مؤخرا بفضائح أمنية حيث يقال أنه من شجع على التمادي في العنف ضد المدنيين عبر إطلاق "الكارتوش" على صدور الشباب والأطفال في سيدي بوزيد وتالا والقصرين.. لقد عرف التونسيون أنهم أمام مرحلة كبيرة من تاريخهم الداخلي، الذي سوف ينعكس آليا على كل مدن الجوار، خصوصا بعد ان أعلنت وكالة فرنس بريس عن انتشار غير مسبوق للأمن في عدد من الشوارع في ليبيا، خصوصا في مدينة سرت الليبية، وهذا يعني ان الدول الديكتاتورية تتحسس ما سيأتي، وتخافه، وتعرف أنها لن تصمد طويلا إن ثار شعبها الغاضب !
أوربا تتبرأ من طاغية تونس !
ساعات من الطيران في الجو، بين تونس وباريس، ومالطا وسردينيا الإيطالية وإسبانيا ثم محاولة الذهاب من جديد إلى فرنسا، فشلت في السماح لطائرة بن علي بالهبوط كرئيس دولة، لأنه فقد وقاره منذ سنوات طويلة، ولأن التقارير الكثيرة عن تونس كانت تضع نظام بن علي في خانة الأنظمة الأكثر فسادا في الشمال الأفريقي، وأن مؤشرات التنمية الوهمية التي ما فتئ الإعلام الرسمي يتباهى به لم يكن في الحقيقة إلا نسيجا من خيال، هذا لأن مؤشرات التنمية لم يتمتع به الشعب التونسي، بل تمتعت به الطبقة الحاكمة التي أنتجت بدورها طبقة أخرى ساهمت في الفصل بين الأغنياء جدا، وبين الفقراء جدا، فقد بلغ مستوى الفقر في هذه الدولة الصغيرة مستوى خطيرا، البطالة في تزايد، كما سجل التونسيون رقما متقدما في الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، ناهيك عن آفات أخرى مثل الجريمة، ومثل غياب الوعي الديني الذي كان يشجع فيه القانون الابن على رفع دعاوي قضائية ضد والديه لأي سبب كان، بل ويشجع الفتيات على رفع دعاوي ضد أولياء الأمر إن حالوا دون حريتهن الشخصية !
الحرية الشخصية في تونس ليست حرية الكلمة، وليست حرية الحق المدني والمساواة أمام القاضي، وليست حرية العدالة الاجتماعية، سواء كان المواطن فقيرا أو غنيا.. الحرية الشخصية كانت حرية الشخص على قيمه، وعلى تقاليده، وعلى أخلاقه، وحرية المرأة بأن تكون العصمة في يدها، وكأن العصمة هي التي تصنع زواجا سعيدا أو علاقات إنسانية داخل الزواج بين المرأة والرجل.
لقد تمادى النظام التونسي في سلب التونسيين كل حقوقهم وكل حرياتهم، بما فيها حرية تصفح الانترنت وقراءة ما يجري في العالم وما يقوله العالم عن تونس، لكن المواقع الإباحية كانت مفتوحة ومتاحة للجميع، كوسيلة فاضحة لتدمير الشباب وجعل اهتمامهم ينصب على الزنا وليس على الحقوق الشرعية لهم كشباب يحق لهم العمل والحياة والتدين. لكن وعي الشعب التونسي كان دائما في المقدمة، وكان وعيهم يجعلهم يشعرون بمدى القمع الممارس عليهم، في عدد المعتقلين وفي طريقة تعامل القانون معهم على أساس أن الفقراء ظلوا مواطنين درجة ثانية.
لهذا كانت هذه الثورة عفوية، وبقدر ما كانت عفوية بقدر ما كانت صادقة، وناجحة وفاعلة، إذ أثبت الشعب التونسي أن أحزاب المعارضة الموجودة في الساحة ليست أكثر من استنساخ للنظام البائد نفسه، إلا من رحم ربك ! إذا، زين العابدين بن علي لم يجد من يستقبله على مدى ساعات من التحليق في الجو، حتى الدول التي كانت ترى فيه "رئيسا حكيما" مثل مالطا رفضته، بل وأصدرت خارجية مالطا بيانا كذبت فيه كل الأخبار التي تناقلتها وكالات الأنباء الدولية عن توجه بن علي نحو مالطا، مثلما كذبت فرنسا ذلك قائلة على لسان الناطق باسم الإليزيه أن فرنسا لن تسمح لطائرة بن علي بالهبوط على أراضيها!
هذه هي حالة الديكتاتورية التي تسقط في الوحل، فيصبح العالم كلها يتبرأ منها، إلا من يرى في استقبال رئيس منبوذ من قبل شعبه أمرا إنسانيا كما فعلت المملكة السعودية التي سمحت باستقبال الرئيس التونسي المخلوع، كحالة إنسانية لا علاقة لها بأي موقف سياسي، وهذا أمر مختلف..
لقد انتهى بن علي نهائيا، ويجب ان ينتهي سياسيا، في شكل القوى التي كانت تخدمه وتمارس الضغط على الشعب باسمه، وفي شكل الأجهزة القمعية التي ظلت في البلد، وفي شكل الأشخاص الذين ظلوا معه في السلطة طوال عقدين ومارسوا ما مارسوه ضد التونسيين ويحاولون اليوم الاستيلاء على الحكم وسلب الشعب عظمة ثورته الحديثة، فنهاية نظام هو نهاية لآلياته أيضا، ولن ينتهي النظام التونسي البائد إلا إن انتهت آلياته البائدة، وبدأ التونسيون بآليات جديدة متفتحة على ثورتهم ومؤيدة لمطالبهم الشرعية.. والحال أن الحقيقة شبه الواضحة هي أن سقوط الديكتاتورية التونسية سوف تجعل الشعوب العربية أكثر قربا من اليقين، تماما كما قال أحد المعارضين التونسيين ردا على سؤال مجلة "لوبسرفاتور" الفرنسية قال: سقوط بن علي سيجعل الشعب الليبي يفكر اليوم أن الطريق مفتوحة لإسقاط ديكتاتور ليبيا، مثلما سيجعل الشعب المصري والسوري واليمني والجزائري والمغربي ودول كثيرة تعرف أن الحلول ليست صعبة إلى هذا الحل، فقط تحتاج إلى التضحية !
10/2/1432 هـ
المصدر: موقع المسلم
- التصنيف: