ملوك الطرائف
رسخت الأعمال الدرامية التي تناولت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو فترات مبكرة من تاريخ الإسلام تمثلات مجانبة للصواب عن شخصية الصحابي أو العالم أو الفقيه المسلم.
رسخت الأعمال الدرامية التي تناولت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو فترات مبكرة من تاريخ الإسلام تمثلات مجانبة للصواب عن شخصية الصحابي أو العالم أو الفقيه المسلم.
فمجمل تلك الأعمال تقدم نماذج مفصولةً بشكلٍ مبالغٍ فيه أحيانًا عن سياقها الواقعي، عكس ما تزخر به مصنفات السيرة والحديث والتاريخ وغيرها.
صحيح أن مؤلف القصة أو كاتب السيناريو يجد نفسه أمام كوكبةٍ متفردة، سطرت أروع ملحمةٍ حضارية شهدتها البشرية في زمنٍ قياسي، إلا أن ذلك لا يبرر إظهارهم كمنتسبين إلى عالم من المُثُل، يعز إيجاد امتدادات له في دنيا البشر العاديين ومألوف حياتهم اليومية.
لقد كانوا محاربين متحفزين دومًا للدفاع عن رسالة التوحيد التي آمنوا بحقها في الوجود وبلوغ الآفاق، كما آمنوا بالحق في الانتساب إليها دون تضييق أو إكراه، إلا أنهم كانوا أيضًا صورة للتنوع الذي يسم كل تجمعٍ بشري أينما وُجد.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الأُسوة في كل قولٍ وفعل، علمهم أن هذا الدين لا يعاند الفطرة بل يهذبها ويعودها على التوسط والاعتدال في كل شيء، حتى في التفكه والانبساط والمزاح، فكان يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويثني على من يُدخل السرور والبهجة إلى قلب أخيه ببسمةٍ صادقة، أو وجهٍ طلق، أو كلمةٍ تنتشل أخاه من غمٍ أو كرب أو فجيعة.
وقد حملت إلينا أحاديث عديدة من الشواهد ما يدل على عنايته صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق اللطيف، لاسيما في المواقف التي يصدر فيها عن أحد أصحابه جوابٌ ظريف أو تعليقٌ طريف.
ومما رواه أبو هريرة في هذا الباب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحدث يومًا، وعنده رجلٌ من أهل البادية: «أن رجلًا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له :ألست فيما شئت؟، قال: بلى، ولكني أحب الزرع. قال فبذر فبادر الطرفَ نباتُه واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يُشبعك شيء. فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشيًا أو أنصاريًا، فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرعٍ. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم» ( صحيح البخاري: 7081).
ولما اتسعت رقعة الإسلام احتاج الناس إلى العلماء يستفتونهم في أمور دينهم ومعاشهم، فظهرت بين الفينة والأخرى مواقف امتحنت صبر العالم لطرفتها أو لسذاجة السائل، لكنها كشفت من جهة أخرى عما تمتع به بعض أهل الفقه من ظُرفٍ وحس دعابة.
وكان على رأس هؤلاء فقيه العراق أبو عامر الشعبي الذي قال عنه ابن عيينة: علماء الناس ثلاثة؛ ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه. فمن مُلحه وأخباره، التي جمع ابن الجوزي شيئًا منها في كتابه "أخبار الظراف والمتماجنين"، أنه روى يومًا في مجلسه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «تسحروا، ولو أن يضع أحدكم أصبعه على التراب ثم يضعه في فيه». فقال رجل: أي الأصابع ؟ فتناول الشعبي إبهام رجله وقال: هذه! (يشير بذلك إلى عدم صحة الحديث متهكمًا).
وجاءه رجل فقال: اكتريت حمارًا بنصف درهم وجئتك لتُحدثني، فقال له: اكتر بالنصف الآخر وارجع، فما أريد أن أحدثك!.
ولقيه رجل وهو واقف مع امرأة يكلمها، فقال: أيكما الشعبي؟ فأومأ الشعبي إلى المرأة وقال:هذه!، وأقبل حمال على مجلس الشعبي بالكوفة فقال: يا شعبي!، إبليس كانت له زوجة؟ قال: ذاك عرس ما شهدته، قال الحمال: هذا عالم العراق يُسأل عن مسألةٍ فلا يجيب!، فقال الشعبي: ردوه، نعم له زوجة، قال الله عز وجل {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [ سورة الكهف آية: 50] ولا تكون الذرية إلا من زوجة. قال :فما اسمها ؟ قال: ذاك إملاك ما شهدته!
مثل تلك الطرائف لم تخل منها سيرة شيخ المقرئين والمحدثين سليمان بن مهران الملقب بالأعمش.فقد كان رحمه الله لاذعا في تأديبه لطلابه صونا لحرمة العلم،إلا أن المتصفح لأخباره اليوم يستشعر قدرا لا بأس به من الظرف و الدعابة.
لم يكن الأعمش يطيق الثقلاء من زواره ،ومما حُكي عنه في هذا الباب أنه سئل : مما عمشت عيناك ؟ فأجاب: من النظر إلى الثقلاء. وكان يقول: إذا كان عن يسارك ثقيل وأنت في الصلاة فإن تسليمة واحدة تُجزئك!
وكان يُخرج لطلابه الطعام فاتفقوا يومًا ألا يُقدم لهم طبقًا إلا ردوا إليه الأطباق فارغة، فلما ضاق ذرعًا أخرج وعاء فيه نبات أخضر، وقال: فعل الله بكم وفعل! أكلتم قوتي وقوت امرأتي،وشربتم فتيتها.هذا علف الشاة ، كلوا !
وجاءه رجل بابنه فقال: يا أبا محمد! هذا ابني، إن من علمه بالقرآن، إن من علمه بالفرائض، إن من علمه بالشعر، إن من علمه بالنحو، إن من علمه بالفقه، والأعمش ساكت، ثم سأله الرجل عن شيء فقال: سل ابنك!
وحين مرض الأعمش دخل عليه أحدهم ليعوده قائلاً: يا أبا محمد! لولا أني أكره أن أثقل عليك لزدت في عيادتك ؛فقال له : إنك تُثقل علي وأنت في بيتك، فكيف إذا دخلت علي؟
وسأله رجل : كيف بتَّ البارحة؟ فدخل وجاء بحصير ووسادة ،ثم استلقى وقال: كذا!
وبسبب تقلص الروح العربية ،وحدوث تمازج هائل مع قوميات شتى خاصة في المدن الكبرى كبغداد و البصرة وغيرها، اتسع نطاق الدعابة فلم يعد مقصورًا على مجالس الفقهاء وحلق العلم، بل امتد إلى الأسواق ومجالس السمر في القصور ودور الأشراف. وأضحى لكل فئة اجتماعية ومهنية دعاباتها الخاصة التي تعكس أحوالها المعيشية وهمومها ،كما لمعت أسماء عديدة في هذا الفن ،لكل منها أسلوبه الخاص وطريقته في خلق جو من الفكاهة و المرح .ولعل الرواج الذي لقيته الدعابة كلون قار من ألوان السمر في مجالس الخاصة و العامة هو الذي حمل الجاحظ وابن الجوزي و الأبشيهي وابن عبد ربه وآخرين على وضع مصنفات في هذا الباب ،خلدت ذكر أبي دلامة و أشعب وأبي العيناء وغيرهم، وأغنت المكتبة العربية بثروة طائلة من نوادر الأعراب والقضاة والمؤذنين والمعلمين والبخلاء،و أرباب الحرف المنوعة. ثروة ترسم لنا تطورا واضحا في فن الدعابة، من ردود تمتحن ذكاء السامع والقارئ إلى لون من ألوان النقد الاجتماعي والسياسي، يجري تصريفه بذكاء واضح حتى بين يدي حكام ديدنهم الجور و الطغيان !
عن قتادة قال: سئل ابن عمر هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال. وفي هذا الرد ما يكفي من تبيان لآداب المزاح وحدود الترخيص فيه. فالنفس ولا شك تطرب لما يؤنسها من حديث اللهو ،إلا أن التمادي فيه يُذهب المروءة،ويُسقط عن الرجل رداء الحياء.
إن الطرائف وألوان المزاح المتعددة والمبتكرة لهي حاجة إنسانية تأتلف بها القلوب وتسكن إليها النفوس. وهي كذلك واجهة ثقافية تعكس مدى الرقي و التحضر الذي بلغته كل أمة. من هنا يشكل الحرص على العودة إلى الجيد من إرث " ملوك الطرائف " في ثقافتنا الإسلامية مدخلًا للارتقاء بالمزاح السائد اليوم في مجتمعاتنا، والذي يكشف، للأسف الشديد ،تدهورنا الفني،وافتقار ذوقنا العام إلى توظيف جمالي للدعابة خارج ما هو معتاد اليوم من قوالب الفحش والبذاءة والتنابز بالألقاب!
حميد بن خبيش
- التصنيف: