الهدية وأحكامها

منذ 2017-03-25

للهدية عظيم الأثر في استجلاب المحبة وإثبات المودة وإذهاب الضغائن وتأليف القلوب. وهي دليل على الحب وصفاء القلوب، وفيها إشعار بالتقدير والاحترام، ولذلك فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، قبلها من المسلم والكافر، وقبلها من المرأة كما قبلها من الرجل، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على التهادي وعلى قبول الهدايا.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،

للهدية عظيم الأثر في استجلاب المحبة وإثبات المودة وإذهاب الضغائن وتأليف القلوب. وهي دليل على الحب وصفاء القلوب، وفيها إشعار بالتقدير والاحترام، ولذلك فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، قبلها من المسلم والكافر، وقبلها من المرأة كما قبلها من الرجل، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على التهادي وعلى قبول الهدايا.

فكم من ضغينة ذهبت بسسبب هدية!!
وكم من مشكلة دفعت بسبب هدية!!
وكم من صداقة ومحبة جلبت بسبب هدية!!

وها هي جملة نصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، باب قبول الهدية ومجازاة من أهدى إليك، والحث على الإهداء والهدية من الكافر ومن المسلم وللكافر والمسلم، والموانع التي قد تتدخل لمنع الهدية ولمنع قبولها أو كراهيتها وكراهية قبولها. وبالله التوفيق.

- أخرج البخاري رحمه الله تعالى ([2585 ]، وقد أعله بعض العلماء بالإرسال وهو الصواب لكن انظر إلى الشواهد التي ذكرناها في هذا الباب) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان سول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها"، ومعنى يثيب عليها: أي يجازي المهدي بهدية أيضًا.

- وفي الصحيحين (البخاري [2576 ]، ومسلم [1077]) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل صدقة قال لأصحابه: «كلوا»، ولم يأكل وإن قيل: هدية ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم".

- وكان الأنصار يهدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين (البخاري [2567]) من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة: "ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار"، فقلت: "يا خالة ما كان يعيشكم؟"، قالت: "الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله جيران من الأنصار كانت لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فسقينا"، منائح: النوق أو الشياه.

- وأخرج الإمام أحمد (في المسند [4/189]، وله شاهد يصح به قصة إسلام سلمان عند أحمد [5/441]) بإسناد حسن من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة".

- وفي (سنن أبي داود [4235 ]، وابن ماجه: [3644]) بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له فيها خاتم من ذهب فيه فص حبشي، قالت: فأخذه رسول الله بعود معرضًا عنه أو ببعض أصابعه ثم دعا أمامة أبي العاص بنت ابنته زينب فقال: «تحلي بهذا يا بنية»".

الحث على الهدية ولو بالقليل
- وحث النبي صلى الله عليه وسلم على الإهداء ولو بالقليل، فقال عليه الصلاة والسلام: ( «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» (أخرجه البخاري [2566] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا). «لجارتها»: وقد تطلق الجارة على الضرة أحيانًا، وهي هنا عامة فالمراد جارة المنزل والمراد الضرة أيضًا، والله أعلم.
والفرسن هو موضع الحافر، والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم حث المرأة على الإهداء لجارتها والجود بما تيسر عندها، وإن كان هذا المهدى قليلًا فهو خير من العدم، وهو دليل على المودة، وفي الحديث أيضًا حث للمهدى إليها على قبول الهدية وإن قلت الهدية فهي دليل على تقدير المهدية للمهدى إليها
.

- وروي أيضًا عن البني صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تهادوا تحابوا» (أخرجه البخاري في الأدب المفرد [594]، ومن المعلوم أن الأدب المفرد للبخاري غير صحيح البخاري، والحديث إسناده حسن لشواهده).

الحث على قبول الهدية
وأخرج البخاري في الأدب المفرد [157] بإسناد صحيح عن عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية ولا تضربوا المسلمين» (أخرجه أحمد في المسند [1/404]، وأبو يعلى: [9/284]، وابن شيبة في المصنف [6/555]).
ذكر فريق من العلماء أن القاضي يحرم عليه قبول الهدية، خاصة ممن يقضي بينهم أو ممن يظن أنه سيقضي بينهم أو ممن يشفع عنده في الأقضية
.

 قبول النبي قليل الهدية وكثيرها
- وكان عليه الصلاة والسلام يقبل القليل كما يقبل الكثير. ففي الصحيح (البخاري [2568]) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت»، والكراع من الدابة ما دون الكعب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (فتح الباري [5/236]): "وخص الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير لأن الذراع كانت أحب إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له".

إذا رددت الهدية فبين سبب ردها جبرًا للخاطر
إذا كان الخاطر يجبر بذلك، أما إذا كان الخاطر يكسر ببيان سبب الرد فلا تبين والله أعلم.

- وكان إذا رد هدية علل سبب الرد جبرا لخاطر المهدي، ففي الصحيحين ( البخاري [2573]، ومسلم [1193]) من حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال: «أما إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم»، قال الحافظ بن حجر رحمه الله: "وفيه أنه لا يجوز قبول ما لا يحل من الهدية".

 قبول الهدية من النساء
محل ذلك إذا أمنت الفتنة كما سيأتي التنبه عليه إن شاء الله تعالى.

- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية من النساء كذلك، ففي الصحيحين ( البخاري [2575]، ومسلم  [1544]) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أهديت أم حفيد خالة ابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطًا وسمنًا وأضبًا، فأكل صلى الله عليه وسلم من الأقط والسمن وترك الأضب تقذرًا". قلت: وفيه من الفقه أن المهدي إذا أهدى هدية ورد منها شيء لعلة فلا يحزن ويلتمس العذر لمن رد الهدية أو جزاء منها ما دامت العلة واضحة.

- وأخرج الإمام أحمد (المسند [4/189]) بإسناد حسن من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: "كانت أختي تبعثني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدية فيقبلها".

لا ترجع في هبتك
وشيء سيئ أن تهدي ثم تعود في هديتك وترجع في هبتك، فأولى لك أن لا تهدي أصلًا أفضل من أن تهدي وترجع في هديتك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العائد في هبته كالكلب يرجع في قيئه» (البخاري [2589]، ومسلم [1622]، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا).

إياك أن تهدي ثم تمن
وكذلك لا تهدي ثم تمن على من أهديت له، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم:  {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ} [البقرة من الآيتين:263-264].

فلا تعطي الأعطيات وهب الهبات وتقدم الصدقات ثم تتبع ذلك بالمن، فالمن يبطل ثواب الصدقات وثواب الهدايا قضلًا عما يدخر للمنان من العذاب.

- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم»، قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: «خابوا وخسروا»، من هم يارسول الله؟، قال: «المسبل والمنان والنفق سلعته بالحلف الكاذب» (اخرجه مسلم [106]، من حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا، وفي رواية أخرى عند مسلم أيضًا «المنان الذي لا يعطي شيئًا إلا منه»).

الهدية من أحد الزوجين للآخر
- وللهدية من أحد الزوجين للآخر أثر طيب في توطيد أواصر المحبة وتنمية مشاعر الود، ومن ثم قال الله تبارك وتعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء من الآية:4أي: إن طيبت المرأة نفسها وأعطت زوجها من صداقها فلا حرج على الزوج في قبوله والأكل منه، فليأكله هنيئًا مريئًا.

وبالنظر إلى الآية الكريمة، نرى - والله أعلم - أن الزوجة إذا أهدت إلى الزوج تهدي إليه شيئًا من الصداق، ليس كل الصداق، وذلك حتى تبقى لنفسها شيئًا تتصرف فيه عند احتياجاتها الخاصة، والله أعلم.

وكذلك للهدية من الزوج لزوجته عظيم الأثر في جلب مودتها ودفع الوساوس عنها وإثبات محبتها، وهي دليل على التراحم وخاصة إذا صحبت بالكلمات الطيبة والعبارات المريحة والابتسامات الصادقة.

وإذا كان عندك هدية واحدة فلمن تهديها؟
تهديها للأقرب فالأقرب، قرابة النسب وقرابة الجوار؛ فها هي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان لها وليدة (أي: أمة من الإماء) فأعتقتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنك أعطيتيها أخوالك كان أعظم لأجرك» { البخاري [2592]، ومسلم [999]).

فمع انها أعتقت الأمة فهي - بلا شك إن شاء الله - مأجورة لعتقها الرقبة، ولكن هنا فاق أجر الهدية أجر العتق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولو وصلت بها بعض أخوالك كان أعظم لأجرك».

فالهدية في بعض الأحيان تفوق الصدقة في الأجر، وذلك إذا وقعت موقعها في التأليف والوصل وابتغاء الأجر والثواب.

- وأخرج البخاري [2595]، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟"، قال: «إلى أقربهما منك بابًا».

- فيستفاد من هذين الحديثين أن القريب يقدم على الغريب، وأن الأقارب إذا استووا في درجة القرابة قدم الأقرب بابًا، وهذا كله إذا كان هؤلاء محل احتياج، والله أعلم.

قبول الهدية من المشركين والإهداء لهم
ومحل ذلك إذا لم تكن رشوة عن الدين أو للإقرار على الباطل.

- وقبل نبينا صلى الله عليه وسلم الهدية من المشركين، ففي الصحيح ( البخاري [3161] ومسلم [1392]) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبوك، وأهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بردًا".

وفي الصحيحين ( البخاري [2617] ومسلم [2190] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه) كذلك أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها.

- وأهدي أكيدر دومة الجندل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة. ( البخاري معلقًا [2616] ومسلم متصلًا من حديث أنس رضي الله عنه).

- وانظر ترجمة مارية رضي الله عنها (أم إبراهيم عليه السلام وسرية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإصابة) فقد ذكر هناك أن المقوقس أهداها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

- وأيضًا فإن إبراهيم الخليل عليه السلام لما دخلت زوجته سارة على الجبار الكافر ورد الله يده وكبته الله أهداها هذا الكافر هاجر رضي الله عنها (البخاري [2635] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هاجر إبراهيم بسارة فأعطوها آجر فرجعت فقالت: أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة ؟!»، والحديث مطول في مواطن أخر من الصحيح.

- وكذلك فالإهداء للمشركين جائز، قال تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 ـ9].

- وفي الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي يكر رضي الله عنها، قالت: "قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي؟، قال: «نعم صلي أمك» (أخرجه البخاري [2620 ـ5978]، وهناك قال ابن عيينة فأنزل الله تعالى فيها: { لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة من الآية:8]، وأخرجه مسلم [3/41]) .

- وأهدي عمر حلة لأخ له مشرك بمكة قبل أن يسلم أخوه (انظرالبخاري [2619]).

- لكن إذا كان هذا الكافر سيتقوى بهذه الهدية على المسلمين ويؤذيهم ويتمرد عليهم ويتجبر فحينئذ لا يهدي إليه ولا كرامة.

- وأخرج الترمذي [1943]، وأبو داود [5152]، والبخاري في الأدب المفرد [105]، بإسناد صحيح من طريق مجاهد أن عبد الله بن عمرو ذبت له شاة في أهله فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».

وهناك هدايا لا ترد
منها: الطيب؛ ففي صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب. (البخاري [2582]).

- وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:  «من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الريح» (أخرجه مسلم [2253] من حديث أبي هريرة رضي الله مرفوعًا).

موانع الإهداء ومتى لا تقبل الهدية
فهذه النصوص التي قدمناه نصوص تحث عل الإهداء وقبول الهدية، ولكن قد تأتي موانع تمنع من الإهداء من قبول الهدية.

ألا ترى أن ملكة سبأ أهدت لسليمان عليه السلام هدية فردها سليمان، مع أن إبراهيم عليه السلام قبل هاجر لما أهديت إلى زوجته، وقد قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الهدية، فلما قبل نبينا الهدية وردها سليمان عليه السلام؟!

ردها سليمان عليه السلام لما كانت رشوة عن الدين، فالمرأة أرسلت الهدية إلى سليمان كي يقرها على عبادتها للشمس ويسكت عنها، ولم يكن لسليمان ذلك، وخاصة أنه في مركز قوة واستغناء فمن ثم ردها لما كانت رشوة عن الدين.

قال الله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ . فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ . ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:35 ـ37فإذا كانت الهدية بمثابة الرشوة لإيطال الحق، وإثبات الباطل فلا تقبل حينئذ.

- وكذلك إذا كانت الهدية للأمراء والوزراء والمسئولين كالقضاة والشرط ونحوهم، كي يعطوك شيئًا ليس لك من حقك أو يتجاوزوا لك ع نشيء لا ينبغي لهم أن يتجاوزوا عنه، فحينئذ يحرم عليك الأهداء ويحرم عليهم قبول الهدية، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم لفظَا شديدَا في الزجر في هذا الباب ففي الصحيحين (البخاري [2597] ومسلم [1832]) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد يقال له ابن التبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. قال:  «فهلا جلس في بيت أبيه ـ أو بيت أمه ـ فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر ـ ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه ـ اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت. ثلاثًا».

- ومن ثم روى البخاري معلقًا (مع الفتح [5/260]، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): "وصله ابن سعد بقصة فيه، فروى من طريق فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلم يجد في بيته شيئًا يشتري به فركبنا معه فتلقاه غلمان الدبر بأطباق تفاح فتناول واحدة فشمها ثم رد الأطباق فقلت له في ذلك: لا حاجة لي فيه، فقلت: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية؟ فقال: إنها لأولئك هدية، وهي للعمال بعدهم رشوة")

عن عمربن عبد العزيز: كانت الهدية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية واليوم رشوة.

- وأخرج عبد الرزاق في المصنف بإسناد صحيح لغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "السحت الرشوة في الدين"، قال سفيان: "يعني الحكم" (المصنف [14664])، وانظر السنن الكبرى للبيهقي [10/139].

- وأخرج أبو داود وغيره بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشيأخرجه أبو داود [3580] والترمذي (مع التحفة [4/567])، وابن ماجه [2/755]، قال كثير من أهل العلم: إن الراشي هو معطي الرشوة والمرتشي هو آخذها والرائش هو الذي يسعى بينهما، وقالوا: الرشوة ما يعطى لإبطال حق او لإحقاق باطل، أما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو ليدفع به عن نفسه ظلمًا فلا بأس به.

انظر ما ذكره المباركفوري في (تحفة الأحوذي) وكذلك شمس الحق العظيم أبادي في (عون المعبود)، وكذلك الخطابي في (معالم السنن) وغيرهم.

- وكذلك إذا كانت الهدية شيئًا مسروقًا أو شيئًا محرمًا فلا تقبل لما في ذلك من أكل الحرام والمعاونة على الإثم والعدوان.

وفي مسند الإمام أحمد أن المغيرة بن شعبة صحب قومًا من المشركين فوجد منهم غفلة فقتلهم وأخذ اموالهم فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها (المسند [4/246] من طريق أبي معاوية ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن المغيرة ابن شعبة. وفي رواية أبي معاوية عن هشام مقال، لكن للحديث شاهد في البخاري فبه [2731،2732].. وكان المغيرة صحب قومًا في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أم الإسلام فأقبل وأما لمال فلست منه في شيء»).

- وكذلك إذا كانت الهدية إنما أهداها صاحبها لأخذ أكثر منها وإن لم يأخذ أكثر منها يتسخط، فإذا عرف من عادته هذا فللك ـ والله أعلم ـ أن تتوقف في قبول هديته.

وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} [الروم من الآية:39]، وهذا في مثل هذا الموطن، في رجل يهدي وينتظر من المهدي إليه أضعاف ما يقدمه له.

- أو إن كان المهدي يعتبر هديته بمثابة الدين عليك وأنت لا تريد أن تتحمل دينًا شرعيًا ولا عرفًا، فللك في مثل هذه الحالة أن تتوقف مع اعتذار لطيف للمهدي، اعتذار لا يكسر له خاطر ولا يشوش عليه فكرًا.

- وكذلك إذا كان المهدي منان يمن بهديته ويتحدث بها فلك في مثل هذه الحال أن تتوقف. وكل هذا يقدر بقدره والأصل استحباب الهدية واستحباب قبولها والإثابة عليها.

- وكذلك يكره لك أن تهدي هدية لشخص سفيه يستعملها في معصية الله عز وجل وفي الفساد في الأرض، فإن الله تعالى يقول: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة من الآية:205]، ويقول سبحانه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [النساء:5].

- وكذلك فأثناء هديتك انتبه هل ستصلح في باب وتفسد في باب آخر أم أن الهدية كلها خير، فقد تهدي لابن من أبنائك دون الآخرين فتسبب مفسدة وضغينة بين الأولاد.

قال النعمان بن بشير رضي الله عنهما: "أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟»، قال:"لا"، قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»، قال:فرجع فرد عطيته (أخرجه البخاري [2587] ومسلم: [1623]).

وأخرج عبد الرزاق (المصنف [14650]) بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إذا أسلفت رجلًا سلفًا فلا تقبل منه هدية ولا عارة ركوب دابة".

وأخرج أيضًا (المصنف [14651]، وهو صحيح أيضًا، وأخرجه البيهقي [5/350]) من طريق سالم بن ابي الجعد قال: "جاء رجل إلى ابن عباس فقال: "إنه كان لنا جار سماك فأقرضته خمسين درهمُا، وكان يبعث إلي من سمكه، فقال ابن عباس: "حاسبه، فإن كان فضلًا فرد عليه، وإن كان كفافًا فقاصصه".

وأخرج أيضًا (عبدالرزاق في المصنف [14649]) بإسنلد صحيح عن إبراهيم عن علقمة قال: "إذا نزلت على رجل لك عليه دين فأكلت عليه فأحسبه له ما أكلت عنده، إلا أن إبراهيم كان يقول: إلا أن يكون معروفًا كانا يتعاطيانه قبل ذلك".

وثم جملة آثار أخر في هذا الباب، وفي أسانيد كثير منها مقال (انظر في المصنف:عبد الرزاق [5/142] وفي السنن الكبرى للبيهقي [5/349]).

قلت: لكن إذا أقرضت رجلًا مبلغًا من المال ورده إليك مع الزيادة - بدون اشترط منك - وكانت نفسه طيبة بذلك فلا مانع من قبوله، وذلك لما في الصحيحن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن (يعني: جمل له سن معين) من الإبل فجاءه يتقاضاه فقال: «أعطوه» فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنًا فوقها (وفي رواية أخرى: لانجد إلا سنًا أفضل من سنه)، فقال: «أعطوه»، فقال: "أوفيتني أوفى الله بك"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن خياركم أحسنكم قضاء» (البخاري [2393] ومسلم [1601]) .

- وفي الصحيحين أيضًا من حديث جابر رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد وكان لي عليه دين فقضاني وزادني" (البخاري [2394] ومسلم ص [1222] و [1223]).

- وأيضًا ينبغي أن يتحفظ الشخص ويتورع عن الهدية أن كانت تقوم مقام الربا فقد يقترض شخص من شخص مالًا ويحل وقت السداد ولا يطيق المدين السداد ؛ فيسلك مسلك الإهداء لصاحب المال حتى يسكته وحتى يصبر عليه فحينئذ من الورع ترك الهدايا، نعم إنه يجوز قبولها ما لم يشترط لكن الأورع ترك الهدية إذا كانت بهذه المثابة.

وفي هذا الباب أذكر ما أخرجه البخاري [3814] رحمه الله من طريق أبي بردة قال: "أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال: "ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا وتدخل بيت؟"، ثم قال: "إنك في أرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدي إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فإنه ربا".

- وكما أسلفنا فيجوز أن تهدي المرأة للرجل وأن يهدي الرجل للمرأة ومحل ذلك ـ كما هو معلوم ـ عند أمن الفتنة، أما إذا كانت هدية المرأة للرجل أو الرجل للمرأة يتأتى من ورائها فتنة، وتقع المرأة في قلب الرجل ويقع في قلبها ويحدث من وراء ذلك المحرم، فحينئذ تمنع الهدية لا لكونها حرامًا، ولكن سدا للذريعة الموصلة إلى الحرام فالله لا يحب الفساد.

- ولا ينبغي أن تحرج أحدًا وتحمله على الإهداء لك، فإنك إن فعلت أوشكت أن لا يبارك لك في هذا الشيء المهدى ولكن إن أهدي إليك أو أخذت الشيء بغير مسألة و لا إشراف نفس بورك لك فيه، ولتحرص على أن تكون نفس المهدي طيبة وهو يهدي إليك، وانظر إلى هذا الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، وانظر إلى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تطيب نفس المعطي.

أخرج البخاري [2607] [2608] من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين جاءه وفد هوزان مسلمين. فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم: «معي من ترون، وأحب الحديث إلى أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت» وكان النبي صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف ـ فلما تبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: "فإنا نختار سبينا"، فقام في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: ( «أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين. وإني أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل». فقال الناس: "طيبنا يا رسول الله لهم"، فقال لهم:  «آنا لا ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤهم»، ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا.

- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه كالذي يأكل ولا يشبع» (الحديث أخرجه البخاري  [1472] ومسلم [1035] من حديث حكيم ابن حزام رضي الله عنه ولفظه: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال: «يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه، كالذي يأكل و لا يشبع. اليد العليا خير من اليد السفلى»، قال حكيم: "فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا". فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه. ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا. فقال عمر: "إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه"، فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي).

- وفي صحيح مسلم  [1037] من حديث معاوية رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: «إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك له فيه ومن أعيطته عن مسألة وشره كان كالذي يأكل ولا يشبع»".

- وفيه أيضًا من حديث معاوية رضي الله عنه كذلك: قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فتخرج له مسألته شيئًا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته»".

- وإذا أهدى رجل هدية لرجل من أجل مصلحة ما، أو من أجل أن يهدي إليه في موطن مشابه فلم يثب منها فله أن يرجع في هبته.

- قال عمر رضي الله عنه: "من وهب هبة لذي رحم فهي جائزة، ومن وهب لغير ذي رحم فهو أحق بها مالم يثب منها" (ابن أبي شيبة (المصنف [6/472] بإسناد صحيح).

- وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "هو أحق بها ما لم يرض منها" (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [6/474])، وفي رواية عنه أيضًا: "من وهب لوجه الثواب فلا بأس أن يرد" (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [6/475]).

- وصح عن سعيد بن المسيب أن قال: "من وهب هبة لغير ذي رحم فله أن يرجع ما لم يثبه" (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [6/475])، ويظهر لي ـ والله أعلم ـ أنه يدخل في هذا مايسميه العامة (النقوط) للعروسين أو أحدهما، فالناس يهدونه وينتظرون رده لهم في مناسبات مشابهة، والله أعلم.

نقله أخوكم الفودري.

المصدر: من كتاب فقه المعاملات بين المؤمنين والمؤمنات للشيخ مصطفى العدوي
  • 22
  • 2
  • 144,833

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً