الإسلام دين العمل

منذ 2017-04-22

إنَّ الآياتِ الكريمةَ، والأحاديث النَّبوية الشريفة التي تحضُّ على العَمل لَتدلُّ على أنَّ المسلمين مُطالَبون بالعَمل الجادِّ المُثمِر المتقَن؛ كي لا يكونوا عالةً على غيرِهم من الكفَّار.

لقدْ دعا كتاب الله وسُنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى العمل، وهناك نُصوصٌ كثيرة في هذا الموضوع أودُّ أن أوردَ شيئًا منها:

• فمن ذلك: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}  [الملك:15].

• ومنها: قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10].

• ومنها: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما مِن مسلمٍ يَزرعُ زرعًا، أو يَغرس غرسًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلاَّ كان له به صَدقة»  (رواه البخاري برقم [2320]، ومسلم برقم [1553]).

• ومنها: ما ذَكَر رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أنَّه هو والأنبياء مِن قَبله عملوا بأيديهم؛ فقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ما بعثَ الله نبيًّا إلاَّ وَرَعى الغنم، فقالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «نعم، كنتُ أرعاها على قراريطَ لأهلِ مكَّة» (رواه البخاري برقم [2262]).

• ومنها: ترغيبه صلَّى الله عليه وسلَّم في العمل، وتحذيره من سؤال الناس؛ فعن الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَأَنْ يأخذَ أحدُكم حَبلَه، فيأتيَ بحُزمة الحطب على ظهره، فيبيعَها، فيكُفَّ الله بها وجهَه خيرٌ له من أن يسألَ الناس، أعطَوْه أو منعُوه» (رواه البخاري برقم [1471]).

وهناك حديثٌ معبِّر أتمَّ تعبيرٍ عن أنَّ المسلم يجب أن يعمل، ويصونَ نفسَه من مذلَّة السؤال، فإنَّه ما دام قادرًا على العمل، فلا بُدَّ أن يجد وسيلةً للعمل.

فعن أنس رضي الله عنه: أنَّ رجلاً من الأنصار أتى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يسأله فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَمَا في بيتك شيء؟»، قال الرَّجل: بلى، حِلْسٌ (كساء يلبس، ويفرش على الأرض، ويجلس عليه). نلبس بعضَه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ (الإناء نشربُ فيه من الماء)، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ائتني بهما»، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيده، وقال: «مَن يشتري هذين؟»، فقال رجل: أنا آخذهما بدِرهم، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن يَزيد على درهم؟ مرَّتين أو ثلاثًا»، قال رجل: أنا آخذهما بدِرهمين، فأعطاهما إيَّاه وأخذ الدِّرهمين، وأعطاهما الأنصاريَّ، وقال: «اشترِ بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخرِ قَدُومًا فأتِني به». فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ  صلَّى الله عليه وسلَّم عودًا بيده، ثم قال له: «اذهبْ فاحتطب وبِعْ، ولا أرينَّك خمسةَ عشرَ يومًا»، فذهَبَ الرجل يحتطبُ ويبيع، فجاء وقد أصاب عَشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله  صلَّى الله عليه وسلَّم: «هذا خيرٌ لك مِن أن تجيءَ المسألةُ نُكتةً في وجهك يومَ القيامة؛ إنَّ المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاثة: لذي فَقر مُدقِع، أو لذي غُرْم مُفظِع، أو لذي دمٍ مُوجِع» (رواه أبو داود برقم [1641]، واللفظ له، والترمذي برقم [1218]، وابن ماجة برقم [2198]، والنسائي [7/259]، وأحمد [3/114]، وقال المنذري: رواه أبو داود والبيهقيُّ بطوله، واللَّفظ لأبي داود، وأخرج الترمذي والنَّسائي منه قصَّة بيعَ الحطب فقط. وذهب بعضُ أهل العِلم إلى أنَّه ضعيف؛ ولكن معناه وَرَد في أحاديثَ كثيرةٍ صحيحة، والله أعلم).

 إنَّ الآياتِ الكريمةَ، والأحاديث النَّبوية الشريفة التي تحضُّ على العَمل لَتدلُّ على أنَّ المسلمين مُطالَبون بالعَمل الجادِّ المُثمِر المتقَن؛ كي لا يكونوا عالةً على غيرِهم من الكفَّار.

 أوَلاَ يَحزنُك يا أخي، أن يكونَ طعام المسلمين في كثيرٍ من بلادهم مستوردًا من الخارج؟! حتى إذا تأخَّرت الباخرة التي تَحمل القمحَ يَوْمَين، قامت في البلد مجاعةٌ!

 أوَلاَ يُؤلِمُك يا أخي، أن يكون لِباسهم مستوردًا من الخارج، وأن تكون سياراتهم مستوردةً من الخارج هي وقطع غيارها، وأن يكون سلاحُهم مستوردًا من الخارج، ولا يُعطيهم الكفَّار إلاَّ الأسلحة التي أكل الدَّهر عليها وشرب؟!

إنَّ المسلمين بسبب هذا التخلُّف وصلوا إلى درجةٍ من الضعف مُذهلة، حتى غلبهم المغلب.

إنَّ علينا أن نعمل لإنتاج ذلك كلِّه وتصديره للآخرين؛ بل علينا أن نعمل في مَيْدان العلوم التجريبيَّة وأن نبرز فيها.

وقد وقفتُ على كلمةٍ طيِّبة للكاتب الإسلامي الكبير شكيب أرسلان رحمه الله ورأيتُ أنْ أُوردها في هذه الكلمة، قال: "الجامدُ هو الذي شَهر الحرب على العلوم الطبيعيَّة والرِّياضية والفلسفية، وفنونها وصناعتها؛ بحُجَّة أنَّها من علوم الكفَّار، فحَرَم الإسلامَ ثمراتِ هذه العلوم، وأورث أبناءَه الفقرَ الذي هم فيه، وقصَّ أجنحتَهم، فإنَّ العلوم الطبيعية هي العلوم الباحثة في الأرض، والأرضُ لا تُخرج أفلاذَها إلاَّ لمن يبحث فيها.

والمسلم الجامد لا يَدري أنَّه بهذا المشرب يسعى في بوارِ مِلَّته، وحطِّها عن درجة الأُمم الأخرى، ولا يتنبه لشيءٍ من المصائب التي جرَّها على قومه إهمالُهم للعلوم الكونية، حتى أضحَوا بهذا الفقر الذي هم فيه، وصاروا عِيالاً على أعدائهم الذين لا يَرقبون فيهم إلاًّ ولا ذِمَّة.

فهو إذا نظر إلى هذه الحالة علَّلها بالقضاء والقدر بادئ الرأي، وهذا شأن الكسالى في الدنيا يُحيلون على الأقدار.

هذا الخُلق هو الذي حُبِّب إلى كثيرٍ من المسلمين، فنجمت فيهم فئةٌ يلقبون بـ الدروايش، ليس لهم شُغل ولا عمل، وليسوا في الواقع إلاَّ أعضاءً مشلولة في جِسم المجتمع الإسلامي.

 وهذا الخُلق بعينه هو الذي جعل الإفرنجَ يقولون: إنَّ الإسلام جبريٌّ لا يأمر بالعمل؛ لأنَّ ما هو كائن هو كائنٌ؛ عَمِلَ المخلوقُ، أم لم يعمل!

 ولا شيءَ أدلُّ على فساد هذا الزعم الإفرنجي من القرآن الملآن بالحثِّ على العمل، وباستنهاض الهِمم، وابتعاث العزائم، ونَوْط الثواب والعقاب، والفوزِ والفشل، بالعملِ الذي يعمله المكلَّف؛ قال الله تعالى: {وُقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105]، وقال  تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس:41]، وقال  تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:23]... (أورد الأستاذ شكيب آياتٍ كثيرةً تحُثُّ على العمل).

 وقال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال  تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].

 وأكثرُ المسلمين لا يعلمون أنَّ هذه الآية خاطَب الله  تعالى بها أكملَ هذه الأمَّة إيمانًا وإسلامًا، وهم أصحاب رسول الله  صلَّى الله عليه وسلَّم إذ تعجَّبوا من ظُهور المشركين عليهم في غزوة أُحد، فردَّ الله عليهم ببيان السبب، وهو مخالفتُهم أمرَه  صلَّى الله عليه وسلَّم للرُّماة الذين يحمون ظهورَ المقاتِلة بألاَّ يبرحوا أماكنَهم، سواء كان الغَلَب للمسلمين أو عليهم، فلَمَّا انهزم المشركون، خالفوا الأمرَ لمشاركة المقاتلين في الغنيمة، فَكرَّ عليهم المشركون حتى شُجَّ رأسُ النبي  صلَّى الله عليه وسلَّم ...إلخ.

وكلُّها ناطقةٌ بأنَّ الإسلام دينُ العمل لا دين الكسل، ولا هو دين الاتِّكال على القَدر المجهول للبشر، كما يقول الدراويش البطَّالون: "رِزقُنا على الله؛ عمِلنا أم لم نعمل"!

أو كما يُزيِّن للناس بعض مؤلِّفي الإفرنج من أنَّ دين الإسلام دينُ جمود وتفويض وتسليم، وأنَّ تأخُّر المسلمين إنَّما نشأ عن ذلك.

ولو كان في هذه الدَّعوة ذرَّة ما من الصِّحة لَمَا نهض الصحابة - أخْبَرُ الناس بالإسلام - وفتحوا نصفَ كرة الأرض في خمسين سنة، ولكن التسليم الذي يتكلَّمون عليه، ويَهرفون فيه بما لا يعرفون، إنَّما هو مقرونٌ بالعمل والكدح وبالسَّعْي، وإلاَّ فلا يُسمَّى تسليمًا؛ بل يُسمَّى جمودًا، ويُعدُّ بطالة، وهو مخالفٌ للقرآن والسُّنة، وأمَّا إذا كان التسليم لله مقرونًا بالعمل، فإنَّه أنفعُ في الدنيا والأخرى؛ لأنَّ إفراط المرء في الاعتماد على نفسِه يورِّطه في البطر إذا نجح، وفي الجزع إذا فَشِل.

 والذي يُريده الإسلام: إنَّما هو أن يعقل الإنسان، وأن يتوكَّل، وأن يُدبِّر لنفسه بهداية عقلِه الذي جعله الله مرشدًا، ويعلم مع ذلك أنْ ليس الأمرُ بيده، وأنَّ من الأقدار ما لا تدركه الأفكار، وهذا صحيح، ولَمَّا ذكر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم القَدَر، سأله بعضُ الأصحاب: ألاَ نَتَّكل؟! فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «اعملوا فكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِق له» (رواه البخاري [4945]، [4946]، [4947]، ومسلم [2647]).

وكلُّ ما هو وارد في القرآن من آيات القضاء والقَدَر، إنَّما كان مقصودًا به سَبقُ عِلم الله لكلِّ ما يقع، ولم يكن مقصودًا به نفي الاختيار والتزهيد في الكسب"، (انتهى كلامُه من كتاب لماذا تأخَّر المسلمون من ص:96 إلى ص: 103).

وأختمُ هذه الكلمة بأثرين عن أمير المؤمنين سيِّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

فقد قال رضي الله عنه: "لا يَقعدنَّ أحدُكم عن طلبِ الرِّزق، وهو يقول: اللهمَّ ارزقني، وقد علِمَ أنَّ السَّماء لا تُمطِر ذهبًا ولا فِضَّة" ( أخبار عمر لعلي وناجي الطنطاوي، ص: 264).

وقال رضي الله عنه أيضًا: "إنِّي لأرى الرَّجل فيُعجبني، فأسأل: ألَه مهنة؟ فإن قيل: لا، سقط مِن عيني" وفي سنن سعيد بن منصور عن ابن مسعود موقوفًا: "إني أكره أن أرى الرجل فارغًا لا في عمل الدنيا ولا الآخرة" (انظر: الدرر المنتثرة للسيوطي بتحقيقنا، وقد ذكر السيوطي ذلك في خلال كلامه على الحديث 43؛ وهو: "إنَّ الله يكره الرَّجل البطَّال"، وقال عن حديث البطالة: لم يوجد؛ تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص: 202).

وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله ربِّ العالمين  

محمد لطفي الصباغ

أستاذ علوم القرآن والحديث بكلية التربية بجامعة الملك سعود - بالرياض

  • 6
  • 0
  • 306,054

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً