ورطة الصحوة في مصر
يكمن الخلل في أمور عدة أبرزها أن النهج العام للصحوة في مصر والذي كرسته نظرية الفئة المؤمنة للأستاذ سيد قطب يتجه لفرض نظرية على الواقع دون الإلتفات لتحديات الواقع، والصواب العكس: أن نعالج الواقع بما هو مسموح للوصول إلى تطبيق مثالي للنظرية الإسلامية..
في كل بقعة من الأمة الإسلامية سياق من المقاومة للهيمنة الغربية.. كل بقعة انتفض فيها ثلة من الأخيار علميًا وحركيًا ضد المحتل وأتباع المحتل؛ ومركزية مصر وانتشار خبر صحوتها جاء من أن المحتل حاول جعل مصر مركزًا ثفاقيًا للتغريب، فغرس أدواته واستنبت أفكاره في مصر.. حاول أن يجعلها منبرًا يسمع الناس من خلاله ما يريد هو، ولذا كان صوت مصر في ظل الاحتلال الغربي عاليًا.
وتجارب مصر الصحوية تأثرت بتجارب الأمة، فالأستاذ البنا من الشيخ رشيد رضا اللبناني، والشيخ محمد عبده من جمال الدين الإيراني؛ والأستاذ البنا ترافق ومحب الدين الخطيب؛ والاستاذ سيد قطب استنبت المودودي الهندي في مصر. فمصر كغيرها تأثرت وأثرت، ومصر كغيرها لها خصوصية وإن اتفقت في الإطار العام وهو السعي لاستئناف الحياة على قواعد الشريعة.
همدت الصحوة في مصر عدة مرات، أهمها: موجة الإيراني ومحمد عبده، فقد انتهت هذه الموجة إلى حيث لا يريدون فلم يستطع جمال الدين الإيراني الوصول إلى "وحدة الأمة"، ولم يصلح عبده شيئًا مما استهدفه من مشروعه الإصلاحي؛ وموجة علماء الأمة وخاصة علماء الأزهر الذين انتفضوا بعد سقوط الخلافة والتي صاحبها تحول فكري ظهر في أطروحة مارجليوث على لسان (علي عبد الرازق)؛ وموجة الأستاذ حسن البنا أجهضتها الاشتراكية الناصرية فقد انفض الناس عن الصحوة حين نالوا من عرض الدنيا، ولم يفلح شخص الأستاذ سيد قطب في بدء موجة جديدة فقد قُضي عليه ورفاقه قبل أن يخرج من بيته. وأهم ما يلفت النظر في تجربة الأستاذ الشهيد سيد قطب هو أنه استقدم أفكار المودودي التي لم يستطع المودودي نفسه تنفيذها عمليًا في بلده وتحول هو والذين من بعده في الجماعة الإسلامية حين تصادموا مع التحديات إلى موافقات عملية زحزحتهم عن نظريتهم.
ثم جاءت الموجة المعاصرة والتي بدأت في السبعينات وتمحورت حول نظرية الأستاذ سيد قطب (الفئة المؤمنة) أو (النواة الصلبة) كشرط وحيد لتحقق النصر والتمكين للدين، تقول النظرية: حيثما وجدت الفئة المؤمنة تنزل النصر والتمكين.
والمعلم الرئيسي في النظرية هو إهمال التحديات الخارجية والبحث عن العقيدة الصافية المتمثلة في (النواة الصلبة)/ (الفئة المؤمنة)؛ ورغم أن الأستاذ سيد نفسه لم يستطع تطبيق شيء من نظريته، ومن قبل لم يستطع الأستاذ المودودي، إلا أن الذين جاءوا من بعده تبنوا ذات النظرية، وتعددت الأفهام: فبعضهم ظن أن وجود عدد قليل من المؤمنين يكفي لمواجهة المجتمع ككل لإرغامه على (تطبيق الشريعة) وبدأ هؤلاء في مواجهة التحديات القائمة دون دراستها جيدًا ولو من باب الأخذ بالأسباب؛ وبعضهم اتجه للتصفية والتحلية للمناهج كخطوة أولى لابد منها لتربية الفئة المؤمنة عليها.
وفي البعد الفكري مثَّلت نظرية (الفئة المؤمنة)/ (النواة الصلبة) أرضًا خصبة لتمدد الفكر السلفي القادم من نجد والذي يهتم بالدعوة الشخصية، وبالتالي أدى إلى سهولة الإفادة من عامة التيارات الصحوية، وخاصة السلفية منها، فقد انصرفت للتصفية والتحلية، وانصرفت للدعوة الفردية (التربية)، وتركت المجال العام أو اشتبكت معه بأدوات قتالية صبت في الأخير في صالح النظم الاستبدادية.
من أهم معالم الموجة الأخيرة من الصحوة الإسلامية في مصر أنها بدأت استجابة لأزمة مجتمعية، وذلك بعد أن فشلت الاشتراكية الناصرية في تلبية مطالب الأمة والنخبة السياسية الصاعدة الطامحة للوحدة العربية، وبعد أن قضي عليها عمليًا بحرب 1967 تفجر الغضب داخل جيل الشباب والعمال من الاشتراكيين وظهر ذلك في الحركة الطلابية وحركة العمال1968، ثم أفادت الصحوة الإسلامية من محاولة السادات التصدي للتقلبات الاشتراكية في صفوف الطلاب والعمال وفي صفوف السلطة عن طريق السماح للمتدينين أن يعربوا عن أنفسهم، ولذا ظهر التأسيس الجديد بكل تفرعاته من فئة الشباب، وراح كل يستدعي ما يناسبه، واستظل الكل بالاستاذ سيد قطب لشهرته ولمظلوميته ولصموده في وجه الفاشلين من الطواغيت.
تعددت روافد هذا التأسيس الثاني، وكلها اشترك في العجلة والقفز إلى توطين المشروع الإسلامي دون إعطاء مساحة للدراسة والتفكير في التجارب السابقة. بل دون أن يعملوا الفكر في معطيات الواقع الذي يعيشونه وطبيعة التجربة التي يستنسخونها.
كان المنطق وقتها يستدعي البحث في أسباب تعثر موجات الصحوة المتتالية، وخاصة موجة الأستاذ البنا والأستاذ سيد قطب. كان المنطق وقتها يستدعي دراسة التحديات، ولكن أحدًا لم يفعل.. كلهم حاولوا التطبيق والوصول السريع للحكم، فكان أن دخلوا في حسابات غيرهم من النظم الداخلية والإقليمية والدولية. ومن حاول أن يصطدم بالقوة مع الدولة صدمته وأرجعته خلف إخوانه (تائبًا) (مراجعًا) (متراجعًا).
وعلى النقيض تمامًا مدرسة الدكتور (حامد ربيع)، التي أعطت للتنظير مساحة كبيرة وغرقت فيه فلا زالت للآن تُنظِّر، وتخرج من تنظير لتنظير. حتى صار أحد أكبر هدفها هو بلورة رؤية فكرية (منظور حضاري) يقف بجوار المنظورات الغربية والشرقية. ومع أن أحد أشهر روادها (د. منى أبو الفضل) خلصت بعد سنوات إلى أن علينا أن نخاطب الداخل لا الخارج إلا أن الذين جاءوا من بعدها لا زالوا يخاطبون الخارج. والخارج يمتلك أداة معرفية ضخمة تفهمنا جيدًا وتقلب الحقائق حين تتحدث عنَّا.. أفَّاكون كما وصفهم ربهم. والإفك هو صرف الناس عن الحق.. والإفك هو قلب الحقائق حتى لا يعرفها الناس. ولو اتجهوا لتكوين نخبة بحثية من الصحويين أو مؤسسات بحثية من الصحويين لكان أنفع وأرجى!!
أين الخلل؟
يكمن الخلل في أمور عدة أبرزها أن النهج العام للصحوة في مصر والذي كرسته نظرية الفئة المؤمنة للأستاذ سيد قطب يتجه لفرض نظرية على الواقع دون الإلتفات لتحديات الواقع، والصواب العكس: أن نعالج الواقع بما هو مسموح للوصول إلى تطبيق مثالي للنظرية الإسلامية. ومعالجة الواقع بما هو متاح وصولًا للتطبيق المثالي للنظرية هو الأوضح في السيرة النبوية فقد تعاطى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مع الواقع بما هو متاح، فكانت مراحلًا متدرجة تبعًا لإمكانات الفاعلين ومعطيات الواقع مع وضوح الغاية الكبرى وإعلانها منذ البداية.
لذا علينا أن نعيد النظر في نظرية الفئة المؤمنة، وخاصة في تطبيقها فمن خلال التطبيق الخاطئ جاء تكفير الناس (الذين ليسوا من النواة الصلبة)، وجاء استحضار العهد المكي وكأننا نبدأ من جديد كما بدأت أول مرة، وجاء إهمال التحديدات مع أنها أخمدت عدة صحوات في الأمة ولا زالت تفعل. ويكفي الأستاذ سيد قطب شرفًا ورفعةً ما قدمه في (التصوير الفني في القرآن الكريم) وهي نقلة نوعية في الأدب وفي التفسير. يكفي تكرار الفشل. يكفي إهمال التعاطي مع التجارب السابقة وخاصة أن الفشل ذاته يتكرر. يكفي استهداف فرض نظرية على الواقع لا معالجة الواقع في ضوء المقاصد الكلية بما هو متاح وصولًا للوضع المثالي المطابق للنظرية، يكفي كي نخرج من هذه الورطة.
2 ذو القعدة 1438
الأربعاء 26 يوليو2017
- التصنيف: