في ظلال الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين -رحمه الله-

منذ 2017-08-20

ما أصبح يعنيه بالفعل هو كيفية إعادة الإسلام إلى موقع الصدارة حتى يقود حياة البشر ويكون في مستوى اهتماماتهم وحاجاتهم، ويعنيه أيضا إعادة ما ضيعه المسلمون من خصائص الإسلام الأساسية؛ من فطرة، وربانية، وأخلاق، وغيرها من الخصائص التي لا يتصور الشيخ أن التدين الصحيح يخلو منها؛ ويرى انحسار مد الإسلام وسوء فهم الآخر له ناتجين عن ضمور تلك الخصائص في حياة المسلمين.

بين خمائل جميلة ساحرة في أحد مصايف بلاد الفارابي، وسط صيف بهيج يضج بالحياة والثمار والأزهار، كان اللقاء وكانت المفاجأة؛ وكان ما كان مما لا ينتج إلا عن لقاء العظماء!

 

كان الوقت عصراً؛ وكانت الكلمة لأحد الأساتذة الفضلاء في ذلك اللقاء العلمي المبارك الذي مضى عليه اليوم سبعة عشر عاماً. لا أزال أذكر كلمة ذلك الأستاذ الفاضل حين قال: ستلقون اليوم رجلاً يختلف عن جميع من رأيتم! وسترون العظمة مجموعة في شخص واحد!.

 

وتالله ما كان أوقعها من كلمة في نفسي؛ فقد كانت ملاقاة الرجال العظماء حينها من أشدّ الأمنيات في نفسي، وأعمقها تأثيرا في عقلي، وأبقاها أثراً في ذاكرتي.

 

وما هي إلا شمس الأصيل قد آذنت بالغروب، وخيوط أشعتها الذاوية ترتعش وقد عنت لسلطان الليل؛ وإذا بشخص يقبل على استحياء؛ ويجلس على استحياء، ويلقي تحيته باستحياء؛ لكنه استحياء لا تكلف فيه.

 

مرّت اللحظات الأولى للتعارف واللقاء؛ وكان فيها ما يكون بيننا نحن العربَ من تكرار التحايا، وإزجاء البشر والترحيب بالضيف.

 

أحسست حينها بأنه قد خصّني بشيء من الاهتمام؛ وكذلك العظماء يخيّل لجميع من يختلط بهم أنه يحظى بمزيد اهتمام منهم، لكن هذا الإحساس أو الوهم بنى أشياء في نفسي يومها؛ بل شيّد للرجل في أعماق نفسي صروحاً شادهةً من التّجلّة والاحترام والتّقدير!. أراده الحاضرون على إلقاء كلمة؛ لكن هذا القدر الواضح من التواضع قد لا يتأتى معه مبادرة الشيخ بالكلام.

 

تواضعُ الشيخ صالح فرض على جلسائه أن يخلصوا إلى مقصدهم بسؤاله عن أشياء في العلم والدعوة وهموم المسلمين؛ ورغم تفاعل الشيخ مع تلك الأسئلة أو التساؤلات إلا أنه لم يرد أن يكون نجمَ اللقاء؛ غير أنه وجد في تلك الهموم المطروحة عليه وليجة إلى الحديث، وفرصة ليشارك الحاضرين تفاعلهم مع قضايا الأمة وسبل نهضتها.

 

كانت طريقته في افتتاح الحديث مختلفة، وكانت طريقته في الإجابة مختلفة أيضا؛ وكانت ألفاظه ونبراته في الحديث لا تشبه في كثير من شياتها ما ألفناه من حديث المتحدثين ووعظ الواعظين؛ فيه شبه من حديث العلماء في دقته وتأصيله واقتضابه، وفيه شبه بحديث الدعاة والمفكرين في حرارته وواقعيته وعنفوانه، وفيه شبه أيضاً بحديث الأدباء والمثقفين في تحرره وعلوّه وجماله، وفيه مشابه من حديث كلّ المتحدّثين في الشؤون العامّة والسّياسة والرّأي؛ لكنّه الشّبه الذي كوّن لصاحبه هذه الشّخصيّة الفريدة التي تحسّ أنّ الخبرة هي ألصق الخصائص بها! الخبرة في العلم والدعوة، وفي السياسة والإدارة والمال والأعمال، وفي خصائص الشعوب والبلدان وسائر شؤون الحياة!. ذلك ما تستخلصه من حديثه؛ عاقل، وصاحب خبرة عميقة بالدين والدنيا!.

 

أما العبادة والإخبات فظاهران على محياه الطاهر وسمته الزكي، وكلاهما لا يذكر في خصائصه؛ إنما يُذكر بهما ويُذكران به!.

 

وخلال تلك الأيام التي مضت في الإلقاء والاستماع؛ والأخذ والعطاء؛ حفر الشيخ في نفوس جميع الحاضرين صورة حية للربانية حين يجمّلها العلم، ويزينها الحلم، وتكسوها الحكمة والعقل والخبرة والتواضع أجمل الحلل.

 

للشيخ عادات في معاشرة الناس والحديث إليهم؛ فهو يخبر الشخص عن ماضي منطقته وأمجادها؛ ويظهر له من البشر والترحيب والإكبار ما لا يفعله المرء إلا مع من يعظمون في نفسه، كما أنه لا يستأنف حديثاً أو جواباً إلا بالدعاء الذي هو أكثر قوله: حفظك الله، حفظكم الله! ولهذه الصيغة من صيغ الدعاء طعمها الخاص على لسانه!.

 

وإذا كان في الحديث شيء من العمق أو الأهمية بدا ذلك واضحا عليه في نبرات صوته، وفي فركه ليديه على هيئة من يريد التصفيق، وما هو بالمصفق؛ لكنه يحكّ هذه بهذه احتراماً منه لقوانين الكون في جعل الحركة سبباً في توليد الطاقة، والزمن، والحياة، والقوة!.

 

عرض لأحد الإخوة مرض عارض ونحن في ذلك المصيف؛ فتأسف الشيخ على حقيبته التي لم تصل معه في الرحلة نفسها؛ وفيها معظم الأعشاب والأدوية الشعبية لأغلب ما يعرض للمسافر من أمراض؛ وحين سئل عن بعض ما يتصل بهذا الشأن طفق يعدّد خصائص الأعشاب والأدوية الطبيعية، ويذكر ما تصلح له من الأمراض؛ فإذا هو يكشف عن جانب آخر من جوانب ثقافته.

 

لم أجد خلال تلك الأيام فرصة لأختلي به وأسأله عن أشياء كثيرة كنت أنتظر لها مجيباً بحجم الشيخ صالح؛ رغم أننا تحادثنا كثيراً في شؤون العلم والدعوة والتاريخ، وفي شتى جوانب الحياة؛ وتنقلنا أحياناً بين أجمل جنّات بلاد الفارابي –كما يحلو لأهلها أن يسمّوها-، لكنها كانت لقاءات مزدحمة؛ يحجزني من الحياء ما يمنعني من مبادهته بشيء من تلك التساؤلات التي كنت أريد رأيه فيها وجوابه عنها.

 

آه! تذكرت أن الشيخ إذا حكى عن شيء أو موقف أو مسألة فإنه غالبا ما يحكيها على أنها موغلة لديه في القدم؛ إمعاناً منه في التطامن والتواضع؛ كأنه يخشى عدم الضبط، أو يرى الجدّة أخلق بالذّكر؛ لكنه مجرّد ناصح يذكر رأيه!! إنه لون من ألوان تواضعه! ويمعن أحياناً فيقول إذا ذكر رأياً جديداً أو مختلفاً: لا أقول هذا كإنسان شرعي؛ لكن من وجهة نظر إدارية، أو من خلال تجربتي المتواضعة!.

 

ذكر لنا مرة في لقاء مفتوح كتاب «كيف تكسب الأصدقاء» لديل كارنيجي؛ فقال إنه قرأه منذ أكثر من أربعين عاماً.

 

وروى لنا الشيخ قصة هي من أعجب ما يُروى من حكمة العلماء الربانيين ونبل أخلاقهم وكفاءتهم النفسية والروحية.

 

خلاصة القصة كما شهدها الشيخ بنفسه أن رجلاً وجيهاً جاء إلى الشيخ محمّد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة –رحمه الله- في مصيبة أصابته؛ فقد وقعت ابنته في الفاحشة، ولم يدر الرّجل ماذا يفعل من هول ما أصابه! فكّر الشّيخ الجليل مليّا، ثم طلب منه أن يحضرها ويتركها مع بناته ونساء بيته كي تختلط ببيئة الدين والتقى؛ حرصاً على البنت وعلى سمعة أهل بيتها، وأمره أن يكتم الأمر. ثم أرسل الشيخ بعد مدّة إلى رجل فقير لم يكن له أمل في الزواج؛ فعرض عليه تلك البنت بطريقته التي لا يحسنها إلا العلماء الربانيون؛ ووعده الشيخ بإعانته على الزواج، وبأن يتكفل له بمصاريفه؛ ففرح ذلك الرجل فرحاً شديداً؛ ذلك أنه سيفخر بأن الشيخ محمّد بن إبراهيم هو الذي زوّجه، وبأن الشيخ زوّجه من وليّته؛ وكذلك تم الأمر؛ وكان الزواج!.

 

ولقد روى الشيخ القصة بصوت متهدّج وعينين شاخصتين وأنفاس فيها روح الإعجاب بشخصية الشيخ ابن إبراهيم، وفيها إيحاء بالأسف على قلّة هذا النمط من الكبار! الكبار في العلم والخلق، وفي الحكمة والعقل، وفي الشخصية القوية والنفوذ الروحي.

 

وحكى قصصا كثيرة شهدها مع أخيه الشيخ إبراهيم الحصين مدير مكتب شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز –رحمه الله-، وبدا لي كم هو وفيّ هذا الرجل لأهله ولأودّائه ولمن تربطه بهم صلة أو معرفة أو ذمة.

 

كان غالب حديثه بالعربية الفصحى؛ اللهم إلا أحياناً يبين فيها عن لسان نجدي أصيل وجميل؛ كلماته في العادة من مثل قوله: ما هو بالحيل.. سَمْ.. ودّك الله يحفظك.. ما انت برادّني!! وغيرها من فرائد الألفاظ التي أخذت من نجدٍ شميمَ عرارها وبشامها وقيصومها؛ ومن العربية الفصيحة بنيتها وجذورها.

 

وإذا نطق كلمة «أيضاً»؛ فلا ينوّنها كما يفعل الأكثرون؛ بل ينطقها بفتح الضاد مع المدّ...؛ و«أيضا» هذه كثيرة في كلامه؛ لأن السبر والتقسيم من صميم منهجه في التفكير!.

 

كان كثيرا ما يكثر من الإيصاء بنكران الذات، والانقطاع عن رؤية العمل، وبالاحتساب على الخلق، وفي جلسة مباركة مرّت «كخلسة المختلس» ذكر الشيخ أنه خصّص من وقته الثمين لبلاد المسلمين في آسيا الوسطى وروسيا وأوروبا الشرقية مدة شهرين يجوب فيها هذه البلاد؛ دارساً أحوالها، ومتفقّداً لأوضاع المسلمين فيها؛ وقد وفّى بِعِدَتِه، وتمّ له ما أراد؛ كنا معه في بعض تلك البقاع، وفاتنا شرف صحبته في أكثرها.

 

الشيخ مستمع جيد!! يحسن الاستماع إلى جليسه ولو طال حديثه، لا يعجله ولا يظهر له الضجر؛ بل يتفاعل معه فيما يقول؛ وإذا قاطع أحداً فإنما يقاطعه لحكمة لا تخفى على من فهم الشيخ! طرح عليه بعض الدعاة النشطين في تلك المنطقة إطلاق مشروع «الحجاب الإسلامي»؛ ولم يكمل الرجل حديثه حتى قاطعه الشيخ بلطفه المعتاد: يكفي المسلمة في هذه البلاد أن تلبس «بلوزة» إلى الركبة، مع بنطلون واسع، وخمار يغطي رأسها ورقبتها!! وكأنه يريد أن ينقذ محدّثه حتى لا يحشره في موقف الدفاع أو اللجاجة إذا هو أخّر رأيه فيما تلبسه المسلمة في أمثال هذه البلاد؛ وهو الذي رأى العري الصريح، مع غربة الدين وأهله، وهوانهم على الناس!.

 

في ذلك المجلس المبارك أبدى الشيخ إعجابه الشديد بشخصية الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس؛ وترفق في طلب نسخة من كتابه «العقائد الإسلامية»؛ ووعد بأن يعدّه للنشر والترجمة حتى يستفيد الناس منه؛ لأنه كان يرى طريقته في تقرير العقائد صالحة لعموم المسلمين في بقاع العالم بأسره؛ هكذا كان يقول –رحمه الله-؛ وقد كان للشيخ بعض ما أراد..

 

قطعنا الطريق من «ألماآتا» عاصمة كزاخستان حينئذ إلى «بشكيك» عاصمة قرغيزيا بالسيارات؛ وكان المقرّر أن يسافرها الشيخ بالطائرة؛ لكنه فضّل أن يكون واحداً من القوم طيلة رحلته إلى هذه الرقعة التي كان المسلمون فيها سادة الدنيا يوماً ما؛ لكنهم اليوم مرتهنون في أغلال الهوان والضعف الضارع الذي أغرى بهم حتى الأمم الهزيلة وأشباه الأمم!.

 

من العجيب حقا أن يكون الشيخ فريداً في أسئلته خلال تلك الرحلة الاستطلاعية المباركة!! وإذا كانت العادة أن يكون عمق الرجل في جوابه؛ فإن أسئلة الشيخ صالح هي خير دليل على أنّ العمق في السؤال أكبر قيمة منه في الجواب!

 

إن أنس يوماً فلن أنس رحلة قادتنا إلى جبال الدونغان -والدونغان مسلمون من أصل صيني-؛ كنا على مشارف قلل الجبال الثلجية على ضفاف نهر هادر وجميل، تأتي مياهه من الثلوج الذائبة. وكان الجوّ باردا جداً ونحن في معمعان الصيف؛ وهناك قضينا مع الشيخ يوما كاملاً؛ التفّ حوله الأساتذة والدعاة وطلاب العلم؛ كلٌّ يسأله أو يستشيره أو يطلب رأيه.

 

أبان الشيخ حينها عن قدر هائل من النضج العاطفي وعلاء التفكير واستقلال الذات وتحررها من ثقلة الضعف البشري الذي يسيطر علينا جميعاً. أذكر أن شخصاً سأله عن شيخنا محمد الغزالي –رحمه الله- وكان الأخ السائل قد أغلظ؛ فاستعظم الشيخ قوله بلطف ولين؛ ثم أثنى على جهود الشيخ الغزالي في خدمة الإسلام، ثم قال: أكبر ما يمكن أن توصف به بعض اجتهاداته أنها أخطاء، وما من عامل إلا والخطأ واقع منه بلا بدّ!.

 

فتحنا الحديث عن بعض اجتهادات الدكتور معروف الدواليبي؛ فذكر الشيخ رأيه بأمانة، ثم روى لنا قصة تعقيبه على الدكتور الدواليبي في لقاء علمي قبل أربعين عاماً، ثم أثنى عليه خيراً بعد ذلك.

 

غريب أمر الشيخ!!

طيلة المدة التي حرصنا على الإفادة منه فيها لم أره يذكر أخطاء الناس –مما نعدّه نحن انحرافات وضلالات- إلا على أنها أخطاء، أخطاء لا يمكن أن تكبر على عفو المتفرّد بالكمال والجمال والجلال، تعالى ربّي وتفرّد!!.

 

للشيخ عادة فريدة وجميلة؛ وهي أنه يخصص كل ختمة لكتاب الله لمعنى واحد يبحث عنه في كلّ آية من آياته؛ أو قضية معينة يطلب مسلك القرآن في بيانها وعلاجها؛ ولا ينهي ختمته إلا بعد أن يستخلص من المقررات والفرائد ما لا يتأتى إلاّ لقارئ مخبت متدبر فائق النباهة والذكاء؛ وكذلك كان الشيخ!.

 

في جبال الدونغان ظهر على الشيخ إعجابه بشخصية «محمد أسد» صاحب كتاب الطريق إلى مكة، وحديث الشيخ صالح عن هذه الشخصية له طابعه الخاص، وفيه تنويه بجوانب من حياة «محمد أسد» ومسيرته في نشدان الحق قلّ أن تسمعها من غير الشيخ صالح.

 

بل استبانت لي من خصائص الشيخ في جبال الدونغان صفة استرعتني لوقت طويل؛ وهي أن الشيخ لم تعد تعنيه التفاصيل كثيراً؛ فهو يتكلم في الكليات، ولئن كانت الجزئيات تأتي في حديثه كثيراً إلا أنها تأتي لتأكيد ما يريد تقريره من كليات.

 

وإذا سمحتُ لنفسي أن أعدو طوري، وأذهب بعيداً في تخميني وتحليلي لشخصية الشيخ كما استبانت لي؛ فإن ما فهمته من خلال صحبته أن عنايته بالكليات لم تأت نتيجة تبحره في فهم الدين والحياة فحسب؛ بل جاءت لأنه أعلن التعري عن الحول والطول وادعاء العلم؛ وهو لا يريد الحديث في الجزئيات لأنّ الجزئيات إنما يتكلم فيها المتخصصون من العلماء، بينما هو يعلن البراءة لا من دعوى التخصص فحسب؛ بل يتبرأ حتى من نفسه التي بين جنبيه، لا يريد أن يحسب من العلماء، ولا من الفقهاء، ولا من أي طائفة من طوائف الأمة التي لها ميسم رفعة أو شارة تميز أو جاه!.

 

أوليس يجتنب الحديث بضمير المتكلم، وإذا ندّت منه عبارة أو كلمة فيها نفحة «الأنا»؛ بادر الشيخ بتلك الكلمة الجليلة: أستغفر الله!! و«أستغفر الله» تكاد تعدل في لغة الشيخ إكثاره من الدعاء لجليسه بقوله: حفظك الله!!.

 

وفي جبال الدونغان أيضاً حدّثني الشيخ عن صلته بالدكتور إسماعيل الفاروقي –رحمه الله-، وعن مناشئ فكرة تأسيس مؤسسة دولية لإسلامية المعرفة؛ وعن رأيه في مسيرتها وفيما ينبغي أن تستشرفه في مستقبلها، وحينها فقط أخذ الشيخ يتحدث لغة لا يفهمها إلا هو؛ إنه يتحدث عن تفاصيل أفكار واستراتيجيات لا يحسنها إلا من لديه إلمام شامل ومتوازن بعلوم العصر وعلوم الإسلام؛ مع ذوق يوهب ولا يكتسب!.

 

ما استخلصته من ذلك الحديث الرائع العميق هو أن جيل العلماء الرواد الذين فكروا في إخراج الدعوة الإسلامية من «طفولتها المسعفة» إلى رحابة الآفاق الإنسانية والعالمية كي تؤدي دورها المنشود؛ كانوا على قدر كبير من العلم والحكمة، ومن تجاوز الاختلافات التي ضخّمها اليوم ضيق النفوس، وضحالة التفكير، والاهتمامُ بصغائر الأشياء، والجهل بسنن الله تعالى التي أجراها في عالم المادة وعالم المعنى!.

 

ولك أن تقول باختصار: إنهم كانوا أصحاب نفوس كبيرة لا أصحاب نفوس صغيرة!.

 

بعد رجوعنا إلى «بشكيك» شارك الشيخ في بعض الأنشطة، وصلينا معه الجمعة في الجامع الرئيسي في العاصمة، ثم انطلق الشيخ في رحلته مع رفقة فاضلة؛ ورجع العبد الفاني مع بعض الفضلاء إلى روسيا، وقد توجهنا بعد وصولنا إلى ولاية «أورينبورغ» لاستقبال الشيخ بها؛ حيث كان المقرر أن يأتي لإكمال رحلته الاستطلاعية، وحين استقبلناه أظهر من الفرح قدراً لا أجد له من الوصف إلا أنه مزيج من براءة الأطفال وصدق المحبين!.

 

في تلك المنطقة الجميلة جداً؛ حيث الذكريات تمضني إلى الآن؛ تفقد الشيخ معظم المعالم الإسلامية التي كانت تحت الإنشاء؛ وختمها بزيارة مدرسة إسلامية كان مديروها في الخارج لقضاء إجازتهم -وكان لي بها عهد-؛ فاستقبلته مع أخ فاضل فيها. وهناك يعاود الشيخ ذلك التصرف الذي لا أزال أعجب من جرأتي في التعامل معه -غفر الله لي-؛ فقد كان الشيخ يرفض طيلة رحلتنا معه أن يصلي إماماً، ويدفعني بلطف -ليس من معانيه أبداً مرادفات كلمة «دفع»- كي أكون الإمام... يثقل على نفسي أن أتحدث عن مثل ذلك الموقف وأشباهه؛ لأن تواضع الشيخ يخجل النفس ويُعرق الجبين...

 

على أريكة في مكتب إدارة المدرسة؛ سألتُ الشيخ عن كتاب اختصره ونشره وقد وضعته بين يديه؛ وكان الشيخ قد اكتفى بكتابة اسمه واسم أبيه فقط «صالح بن عبد الرحمن» على صفحة العنوان؛ تواضعاً منه وحرصاً على إخفاء عمله؛ فأمسك الشيخ الكتاب يتصفحه على هيئة من يقع الكتاب بين يديه أول مرة؛ ثم قال في تواضع فطري عذب: تعلم يا شيخ حفظك الله أن الذين اسمهم «صالح بن عبد الرحمن»كثيرون!! وهناك لم أرد إحراج تواضعه بأن الناشر هو صديقنا فلان؛ وهو الذي أخبرني بأنّ الكتاب للشيخ!.

 

بهرني الشيخ بخصلة هي من أكثر صفات القادة العالميين وأبرز خصائص العظماء؛ ألا وهي النـزعة العملية، وتبـني حاجات الناس على أنها حاجته دون تسويف؛ دخل مرة مسكن الطلاب؛ فوجد التهوية فيه ضعيفة؛ فتكفل على الفور بشراء المراوح ولوازم التهوية له، ولم يصادف في رحلته تلك حاجة من الحوائج إلا فطن لها بنفسه، وتعهد بتأمينها، وطلب من مرافقيه كتابة ذلك، وتذكيره به لاحقاً حتى يدفع ثمنه.

 

لا أزال أذكر أننا أدخلناه على مطبخ في تلك المدرسة؛ ولم يكن به إلا بعض الخبز والشاي وبعض الأشياء المتواضعة التي توفرها المدرسة للحرّاس والعمّال؛ فتلطف في أن يكتفي بما هو متوفر في المطبخ كوجبة غداء! خبز «باطون» أسود، وشاي، وبعض المربى الذي تم إعداده في المطبخ نفسه!.

 

ونحن نتحدث على تلك الكراسي الخشبية الطويلة في مطعم الطلاب؛ فتح الشيخ موضوع «مؤتمر مدريد» الذي انعقد قبل سنوات، وراح يعقب على توصياته ويبين وجوه بطلانها؛ ثم رأيت وجهه يتهلل حين ذكر أحدث ما اطلع عليه من الدراسات الغربية التي تثبت أن غريزة الأمومة عند المرأة أقوى من غريزة الجوع ومن غريزة الجنس. وقد استثمر –رحمه الله- هذا الاستنتاج في تحليل كثير من الشطط الواقع في المشهد الإعلامي العربي الذي كان أكثره يومئذ بأيد غير متوضئة!.

 

الشيخ لم يعد يعنيه مناقشة الخلافات المتكلسة التي أنتجها ضيق دائرة الاهتمامات عند المسلمين، وصنعتها بعض الأفكار المميتة والمقررات السطحية التي كرّسها الإلف وظروف التاريخ وضعف العقول؛ إن اهتماماته أكثر سموقاً وأرفع مدى...

 

ما أصبح يعنيه بالفعل هو كيفية إعادة الإسلام إلى موقع الصدارة حتى يقود حياة البشر ويكون في مستوى اهتماماتهم وحاجاتهم، ويعنيه أيضا إعادة ما ضيعه المسلمون من خصائص الإسلام الأساسية؛ من فطرة، وربانية، وأخلاق، وغيرها من الخصائص التي لا يتصور الشيخ أن التدين الصحيح يخلو منها؛ ويرى انحسار مد الإسلام وسوء فهم الآخر له ناتجين عن ضمور تلك الخصائص في حياة المسلمين.

 

والشيخ يأتي بالعجب من القول والتحليل إذا هو حدثك عن آثار انخرام كل واحدة من تلك الخصائص على الفرد والمجتمع والأمة وعلى الإنسانية جمعاء!.

 

حين جاء المساء ذهبنا إلى بيت أحد كبار الأعيان حيث دعانا إلى العشاء؛ وقد كان اللقاء ودياً ونافعا في جميع جوانبه، أجاب فيه الشيخ عن تساؤلات الحاضرين؛ وحين تكوفنا على الطعام توجه أحد كبار رجال الأعمال من أهل البلد إلى الشيخ بسؤال في غاية الحرج؛ إحراج للشيخ، وإحراج للمترجم، وإحراج للجميع: يا فضيلة الشيخ! إذا أراد الرجل إتيان امرأته فمن أين يبدأ؟!! ولم يمنع الارتباكُ الشيخَ الحصيفَ من الإجابة الموجزة التي لم تتأبّ على هذا الإحماض المؤقت: يبدأ من حيث يكون ألذّ له ولها!.. وانفجر المجلس بالضحك والعجب من بديهة الشيخ وحسن تخلّصه!.

 

لا يمكن تصوير وطأة الحرج التي ملأت كياني في تلك اللحظة التي كانت؛ وليتها ما كانت! فلم نتعود نحن في بلدان المغرب الإسلامي على مثل هذا الإحماض «الخاص» في مجالس العلماء والأعيان وكبار السن!.. وقد تحاشيت جواره ليلتها في المجلس، وبعد المجلس!.

 

من «أورينبورغ» شددنا الرحال أخيرا إلى مسقط رأس لينين «أوليانوفسك» حيث «كلية أوليانوفسك الإسلامية» التي افتتحت على شرف عدد كبير من الدبلوماسيين العرب والمسلمين قبل أربعة أعوام؛ وقد تلهف الشيخ إلى زيارتها من كثرة ما حدثناه عنها، وكان العبد الفاني يومها مدرّساً بالكلية.

 

حين اخترم الشيخ مشارف «أوليانوفسك» بدا له نهر «الفولغا» العظيم؛ وإذا به يذكر عظمته لمفتي المدينة حين استقبلنا، ويقول له: لقد كنا نقرأ عن نهر «الفولغا» في الروايات المترجمة، ونتساءل عن مقدار عظمته، وقد رأيناه اليوم!.

 

واعجبي!! الشيخ صالح يقرأ الروايات المترجمة!.. أذكر حينها أن الشيخ اكتفى بالإقامة في بيت أحد الإخوة المدرسين حيث كان غائبا بعد أن أخذنا إذنه؛ وأبى أن ينزل في فندق فخم.

 

وقاعدته في الأسفار كما ذكرها لنا فيما بعد أنه لا ينـزل إلا حيث ينـزل مرافقوه.

 

كان من القوانين السارية في  عهد الاتحاد السوفياتي -ولم يزل معمولا بها إلى الآن- أن الأجنبي إذا زار أي مدينة لمدة يوم وليلة فأكثر يجب عليه تسجيل محل إقامته وتاريخ بقائه على جواز سفره في إدارة المحافظة، وحين ذكر له بعض الإخوة أن هذا الأمر هين يمكن تجاوزه؛ أجابه الشيخ: احرص يا بني على أن تجعل أمورك كلها قانونية! وسلمه جواز سفره من أجل إتمام المعاملة.

 

في صباح اليوم التالي جاء الشيخ إلى الكلية؛ غير أني لم أكن بداخلها؛ وإنما كنت أتمشى في الغابة الجميلة التي أنشئت الكلية في وسطها؛ حيث أشجار البتولا والتفاح والكرز والدراق، وحيث تلك البيئة الساحرة التي عشتُ في جوارها سنوات. سأل الشيخ عني؛ فقال له الأخ المرافق: إنه هناك يراجع بعض كذا. ما إن لمحته حتى جئته مسرعاً؛ لم أكمل تسليمي حتى داعبني بعبارات مضمخة بشذى الأبوة الدينية الصادقة ثم قال: حفظك الله يا شيخ عبد الرحمن؛ أذكر حين كنت في مثل سنك أنني كنت أجلس كل يوم عند أسطوانة من أساطين الحرم في أوقات الحر؛ وأسند إليها ظهري لما أجده في حجارتها من برد؛ ولا أقوم حتى أراجع ألفية ابن مالك في جلسة واحدة غيباً؛ لكنني نسيتها فيما بعد... نسيتها تماماً!.

 

لم أصدق حين بدأ الشيخ يحكي عن نفسه بضمير المتكلم على غير عادته، وبعد أن أكمل كلامه فهمت أنه تحدث حديثه ذاك ليعود على المذكور بالإلغاء والتعليق؛ وهما أمران لا يجتمعان في مراد المتكلمين!.

 

تنقلنا بالشيخ في مباني الكلية والمرافق التابعة لها؛ وكان الشيخ يتعجب حيناً من التدابير الروسية في مختلف الشؤون، ويبدي أحيانا رأيه في الجوانب التي له فيها رأي؛ كل ذلك بأدب بالغ، وتلطف في العبارة، واعتذار عن إبدائه لرأيه أحياناً أخرى!.

 

صعدنا بعدها إلى الطابق الذي كان فيه مكتب الإدارة؛ وهناك انصرف مرافقوه إلى أشغال أخرى طيلة النهار، وبقيت مع الشيخ وحدنا، حاولت أن أوفر له أسباب الراحة في غياب إخواني؛ لكنه أبى إلا إمضاء الوقت في شيء مفيد؛ فتحت درج مكتبي؛ ثم سلّمته بعض أعمالي العلمية كي يبدي رأيه فيها؛ وقد لفتتني قراءته السريعة، ولفتني أيضاً أنه يتابع قراءته بسبّابته أو بأصابعه جميعا، وكان يستفهم خلال القراءة عن الشيء يمر به، أو العبارة تلفته، وقد أفضى بنا ذلك إلى فتح حوار واسع ومتشعب، ثم طلبت رأيه ومشورته في أمور كثيرة أذكر بعضها ونسيت كثيراً منها.

 

وإنني أقول اليوم بعد مضي سبعة عشر عاماً على ذلك اللقاء: إن ذلك اليوم بالذات هو الذي رسمت فيه الجزء الفارغ من خريطة مستقبلي، لقد وجه الشيخ إلي من النصح  الذي يخص تكويني المستقبلي، وفصّل لي طرائق الوصول إلى تحقيقها؛ وطلب مني أن أتابع التخصص في معارف بعينها رغم أنني كنتُ في مرحلة الدراسات العليا وقتها، وهوّن عليّ الأمر بأن قال: إنها لا تبعد عن تخصصك الأصلي، وأرى أن تتوكل على الله! لا القانون صعب، ولا الاقتصاد صعب، ولا الإدارة صعبة؛ ولا كذا صعب!.

 

وههنا تداعت المعاني في خاطر الشيخ، وراح يسرد لي كيف تنقل وهو خريج كلية الشريعة إلى مصر لدراسة القانون، وأفاض في الحديث عن تأثره بأستاذه القانوني المصري العظيم عبد الرزاق السنهوري؛ وذكر لي كيف كانت تعج القاعة في وقت محاضرته بالمستمعين، وعن فصاحة السنهوري وطلاقته وسحر إلقائه وسعة علمه.

 

ثم ذكر الشيخ انتقاله إلى دراسة القانون في سويسرا باللغة الفرنسية؛ فسألته بالفرنسية: وهل تعرفون الفرنسية شيخنا؟ فأجابني بالعربية: يكاد يذهب ما حصلته يا بني! لكنه ما فتئ أن جرت على لسانه عبارات كثيرة بلغة فرنسية سليمة و«بالراء» الباريسية التي تنطق «غيناً»؛ لكنه الشيخ صالح!!! يواري كل محاسنه بالتواضع، ونسبة نفسه إلى عدم المعرفة، وقلة العلم، وبأنه عامي!!!

 

نعم؛ لقد قالها مرارا: أنا عامي حفظكم الله!! ويعلم الجميع أن الشيخ لم يعد يرى ذاته كشأن كل من اصطفاهم الله ليكونوا منار العظمة بين الخلق.

 

المهم أنني سمعت الشيخ حينها يتكلم الفرنسية بعد أن سمعته كثيرا يتحدث الإنجليزية بطلاقة..

 

طرحت على الشيخ يومها -وهو مسند ذقنه إلى يده على مائدة بيني وبينه- مسألة كانت تهجس في نفسي، وأتألم لها كثيراً؛ ألا وهي ما يمكن تسميته «بالإفاقة المتأخرة» لرجال العلم الشرعي في بعض ما يعرض عليهم من شؤون الواقع والحياة؛ مع سابق العرفان لقدرهم وتوفير الإجلال لهم وتوقيرهم؛ لكن لماذا يبدو الواقع غريباً عنهم؟ ولماذا لا يفهمونه إلا بالواسطة؟ ولماذا تأتي آراؤهم في نتاج الحضارة الحديثة غريبة على من يفهمها حتى من المتدينين؟ أوليس برهان ذلك يا شيخنا أن مشايخنا الأجلاء يتراجعون بعد سنوات عن تلك الفتاوى أو الآراء؟ لماذا الإفاقة المتأخرة يا شيخي؛ هل العيب في مناهج التكوين؟ أم في طريقة التدين؟ أم في ماذا؟ وإن كنت مخطئاً فصوّبني!.. تنهّد الشيخ! لكنه لا يزال مسنداً رأسه إلى يده، ويده على المائدة!.

 

ثم أشار إلي بيده تلك: صدقت.. إنني أحس بما تحس به؛ ولم أكن أجد عبارة لهذا الذي تذكر؛ لكن القضية واضحة.

 

أخذت الكلمة من الشيخ بعد إذنه؛ وقصصت عليه موقف شيخنا العلامة محمد صالح العثيمين –رحمه الله- من التمثيل وأنه لا يجوز. وقد حصل يوماً أنّ طلاب الجامعة دعوه إلى حفل اختتام العام الدراسي؛ وكان من بين أنشطة الحفل مسرحية عن «القرامطة» يمثل فيها الطلاب؛ وحين بدأ العرض المسرحي لم يغادر الشيخ الحفل؛ فقد كانت حكمته أجل من أن يفعل ذلك؛ لكنه فاجأ الحاضرين بعد نهاية العرض بكلمة قال فيها: إن هذه التمثيلية أصدق تصويرا لحقيقة القرامطة من أي كتاب يؤلف عن القرامطة!.. إنه العيان!.. الاختلاط بالواقع والتشبع بأجوائه غير السماع عنه، أو سؤال الناس عما يجري فيه!.. وهنا كرر الشيخ كلمته: أحس بما تحس به!.

 

أوليس الذين حرّموا التلفاز ظهروا فيه بعد بضع سنوات، واشتركوا في برامجه؟ إذا كان التلفاز حراماً فليس يجوز إلا للضرورة؛ والضرورة بلوغ الهلاك أو ما قاربه؛ وليس شيءٌ من الأمرين موجوداً في التلفاز.

 

أنا أتحدّث... والشيخ الجليل يهز رأسه!

عبر الشيخ حينها عن أمله في أن يملأ ساحة العلم ويتصدر للإفتاء في المستقبل من يجمعون بين التكوين العلمي في محاضن العلم الأصيلة وبين تكوين الواقع بكل ما فيه من تقلبات وخبرات وتفاصيل.

 

وههنا انتقل الشيخ باختياره إلى الحديث عن مسألة التدريب الإداري والقيادي؛ وأين وصل أمر الدراسات الجارية حوله في العالم المتقدم؛ وأبدى إعجابه ببعض ما ظهر إلى العربية من ذلك... وللأمانة فقد أثنى كثيراً على كتاب «دليل التدريب القيادي» للدكتور هشام الطالب.

 

بعد ذلك قادنا الحديث في بعض المسائل الفقهية إلى ذكر بعض المعاملات التي تجريها البنوك الإسلامية؛ وهناك أبدى الشيخ أسفاً شديداً على غلبة تعاملها في النقود، وتركها أساس قيامها وهو العمل بالنقود؛ وللشيخ رأي خاص في المخرج من هذه الحالة بسطه في تلك الجلسة، ثم شرح بعض جوانبه في ورقة يتداولها اليوم تلاميذه ومحبوه.

 

أراني أكثرت! وفي النفس كثير من المواقف والذكريات التي حفرها الشيخ في أعماقي  مما لا يمحى ولا يبليه تقادم الأيام وتصرّم الأعوام..

 

لقد كتبت ما كتبت استجابة لرغبة تلاميذ الشيخ ومحبيه ممن أرادوني على كتابة هذه الذكريات التي يرون فيها إذا هي تمّت دروساً في تعليم المروءة والدين، وتطبيقاً عملياً لهدي النبوة والأبوة الدينية واكتمال الشخصية حين يلتقي فيها العلم بالتقى، ويمتزج فيها الاعتقاد الصحيح بالخلق المتين، وتتجاور فيها كمالات البشر في جميع صنوفها وألوانها؛ فتجري لوناً من ألوان النبوة ينقصها الوحي، ونوعاً من أنواع الكمال لا عيب فيه إلا أنه كمال مقيد لتفرّد الرّبّ سبحانه بالكمال المطلق..

 

أما الشيخ فهو اليوم في جوار الله؛ وقد كان ممتلئ القلب بحبه وتعظيمه وخشيته؛ فليهنأ بجواره!.

 

وأما العبد الفاني؛ فلستُ أقرب الناس إلى الشيخ ولا أظهر تلاميذه؛ إنما جمعني به ودّ تخطئ حين تحسبه بحساب الزمن، وتعضل على نفسك وعلى القارئ إذا أنت أخضعته للرسوم المتعارفة في دنيا التعارف..

 

أما من شاركوني صحبة الشيخ، وعشت معهم بركة الجوار الطيب طيلة هذه السنين؛ فلهم حديث آخر سوف لن يبخسوا فيه حقهم من الوفاء والود؛ ولكل حادث حديث!!.

 

♦ بقلم الكاتب: د. عبد الرحمن بن معمر السنوسي.

- الأستاذ بكلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر.

  • 19
  • 0
  • 14,878

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً