كيف تعمر الأرض بمن لا يستهدف العمارة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تكملة لمقالٍ سابق (القيمة العليا في الإسلام) وفيه أن القيمة العليا في الإسلام هي تعبيد الناس لله، وأن عمارة الأرض ثمرة من ثمرات الإلتزام بشرع الله وليست هدفًا ولا قيمة عليا في الإسلام، نحاول الإجابة على سؤال: كيف تعمر الأرض بمن لا يستهدف عمارتها بدايةً؟
أحاول الإجابة من خلال عدد من النقاط:
أولها: أن الناس متخصصون بطبعهم، ولا يتحركون في اتجاه واحد إلا في الأزمات فقط، والنموذج الإسلامي يراعي هذا الأمر بخلاف النموذج العلماني المادي المعاصر. وذلك أن الإسلام يطالب الفرد المؤمن بتعلم التوحيد وتحقيق العبودية الحقة لله {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]؛ وقيمة التوحيد في توطين أسماء الله وصفاته في حس كل مؤمن، وأول ما يثمر مبدأ المراقبة والعمل للآخرة، فالله يرى ويسمع ويحاسب، والله يجزي على الإحسان إحسانًا، وحقوق العباد لابد أن تؤدى إليهم..
والشريعة تأمر الناس بالسعي وإتقان العمل، وفي الحديث: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»، والتفاضل بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، والتقوى قيمة خلقية وليست وظيفة أو مهنة، ما يعني أنها لا تعيق أحدًا من الاتجاه لما يحسن أو إلى ما يحب، فكل ينافس من حيث يحسن أو من حيث يحب.. ينافس في تحصيل التقوى واتقان العمل. وكل يدعو إلى الله في مجاله بحسن خلقه أو بما تعلم من كتاب ربه وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم. وإن ثمة ثغر فالكل مطالب بسده عن طريق فروض الكفايات، والتي أوجدت التكافل الاجتماعي وبني عليها المجتمع كله، أو جله.
ثانيها: الإلتزام بالنص الشرعي أوجد عمرانًا من حيث لا يشعر الناس، بمعنى أن مجرد الإلتزام بتعاليم الشريعة أثمر عمرانًا؛ وفي كل مجالٍ من مجالات الحياة شهود على ذلك، ولأن المقام مقال نستعرض بعض الشهود:
1- القتلى في معارك الإسلام والقتلي في معارك الأمم الأخرى:
في معارك الأمم الأخرى تبرز فكرتين أساسيتين حول كل معركة: الأولى: أن المعركة كانت بمثابة كارثة تحل بأهل المنطقة التي يحدث فيها القتال، والثانية: أن عدد من يموت بعد المعركة أضعاف من يموت في القتال المباشر حال المعركة. بخلاف المعارك الإسلامية التي لم تكن تسبب أي ضررٍ للمنطقة التي ينشب فيها القتال ولم يكن يقتل في المعركة إلا من يجهز عليه حال القتال. والسبب هو أن الفرد المسلم امتثل لأمرٍ رباني وهو: التعجيل بدفن الميت {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]، فكان المسلمون يدفنون القتلى (منهم ومن غيرهم) يومًا بيوم.. امتثالًا لأمر الله دون أن يفتشوا في الحكمة الخفية وراء هذا الأمر.. فقط يمتثلون للأمر كونه من الله العليم الحكيم، وبالتالي لا تتعفن الجثث ولا تنتشر الأمراض المعدية كما حدث في معارك الأمم الأخرى، فقد كانوا يتركون الجثث تتعفن وتنشر الأمراض في المنطقة فيصاب أهلها بالطاعون. فمعالجة هذا الأثر السيء للمعارك لم يأتِ بعد التعرف على خطورة ترك الجثث تتعفن، وإنما جاء بالتأدب بأدب رباني تم الإلتزام به دون أن يعرف سببه. بمعنى أن المقاتل المسلم ل وهو يسارع لدفن القتلى بعد يومٍ طويلٍ من القتال لم يفعل ذلك طلبًا للعمران وإنما امتثالًا لأمر الله وحدث العمران دون قصدٍ.. جاء ثمرة للامتثال لأمر الله.
2- المنهج التجريبي:
أوجد المسلمون تحولًا في العلوم، وذلك بظهور المنهج التجريبي: الانطلاق من المشاهدة لا معالجة مسائل نظرية.. فلسفية. وهذا التحول جاء كثمرة مباشرة للإلتزام بأمر الله ونهية.. جاء ثمرةً مباشرة لتطبيق نص شرعي؛ وذلك أن الله أمر عباده أن يتفكروا فيما يمرون عليه من آيات الله المشاهدة سواءً أكانت مخلوقات أو كانت آثارًا للأمم السابقة، جاء ذلك بالأمر المباشر {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا} وجاء بأسلوب الحض والحث {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا}، وغير ذلك من الأساليب..
ولأن الفرد المؤمن يسعى لتحقيق العبودية والتي هي الذل والخضوع لله عز وجل، والتي هي طاعة الله ورسوله، فإنه امتثل للأمر وراح يتدبر في كل ما يرى ويسمع؛ وكلٌ حيث يحسن أو يحب؛ فحدث تطوير في جميع مجالات الحياة، حدثت نقلة نوعية في العلوم التقنية والعسكرية. وبين عيني الآن عشرات الأمثلة التي تبين كيف حسم المسلمون المعارك الكبرى مع الفرس والروم ببركة التدبر والتفكر فيما تقع عليه أعينهم وفيما يقع على أسماعهم ولعل الله أن ييسر مقالًا خاصًا لهذا.
3- بناء المدن:
يظهر في فكر الذين يتحدثون بأن القيمة العليا في الإسلام هي الاستخلاف من أجل عمارة الأرض قيمة أخرى مرتبطة بقولهم أن عمارة الأرض هي المقصد الأعلى في الشريعة الإسلامية هذه القيمة هي: أن الإسلام امتداد للحضارات السابقة، يقولون بتراكم الخبرات وأن كل حضارة استفادت من التي قبلها، مع أن الحضارات تباد، ومع أن الحضارة الإسلامية لم تخالط غيرها إلا بعد أن سادت ومخالطة غير المسلمين ثقافيًا في بداية القرن الثالث الهجري كانت في العلوم الفلسفية وليست التقنية المتعلقة بالعمران، وكانت بداية الانحدار في الأمة. وسئل المفكر الفرنسي الشهير جارودي عن مدى صحة القو بأن الحضارة الإسلامية امتداد لما سبقها من الحضارات، فنفى هذا القول وتعجب منه واستدل بأن حضارة المسلمين حضارة دوائر وأقواس بخلاف حضارة غيرهم (خطوط مستقيمة). وهو ما أقصده.
المسلمون ارتكزوا على المسجد بدايةً.. يؤسسوه في أول يومٍ ينزلون فيه مكانًا ما، وبجواره السوق تسهيلًا على الناس في قضاء حوائجهم، بمعنى أن تكون الأغراض اليومية بجوار المسجد الذي يؤتى إليه كل يوم ٍخمس مرات، ثم يستديرون حول المسجد في حلق، من هنا جاءت فكرة جديدة للعمران (تعمير المدن)، في هيئة دوائر وأقواس، كما وصفها جارودي، وأصبح الفن الإسلامي يتكئ على فكرة الدوائر في البنيان وفي تشييد المدن، وظهر بركة هذا الأمر في قرب الوصول لمركز المدينة من أطرافها، وعدم تمركز الشمس في طول الشارع فيشق على من يسير فيه، وغير ذلك..
وانعكست المفاهيم على طريقة بناء البيوت ذاتها؛ فالبيت كبير يحوي ثلاثة أجيال (الجد وأبنائه وأحفاده).. مستدير يفتح للداخل من أجل الستر..
بمعنى أن العمران (البنيان) جاء من قيمة أخرى.. العبودية.. جاء ثمرة لها.. محققًا لها... نبت من الإلتزام بالنص الشرعي.
كادت تنفد الكلمات المخصصة للمقال ولم تنتهِ المحاور الأساسية التي تبين أن العمران أو الاستخلاف ليس هو المقصد الأساسي للشريعة الإسلامية، وأن عمران الأرض (تعميرها) ثمرة للإيمان بالله وأن الكافر مفسد وأن الكفر والعصيان فساد محض، علينا أن ندور حول الفكرة مرة ثالثة نبين نشأتها وسياق تمددها في الفكر الإسلامي في مقال قادم إن شاء الله وقدر.
- التصنيف: