اقتران الهرج بالجهل

منذ 2017-10-01

قد حفلت السنة النبوية بالحديث عن كثرة شيوع القتل في آخر الزمان، وقرنت ذلك بقلة العلم، وانتشار الجهل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج»، قيل: يا رسول الله، وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحرفها، كأنه يريد القتل.

يظن بعض الناس أن انتشار محاضن العلم، وتنامي حلق الذكر من أسباب انتشار العنف، وفشو التطرف، مع أنك إذا تأملت الواقع وجدت أهل العنف والتطرف هم ممن لم يتلقَ العلم من منابعه الصافية، وما دفعهم إلى هذا التطرف والغلو إلا الجهل وقلة العلم.

ويؤكد هذا ما نشر مؤخراً تحت عنوان: «نسبة دارسي الشريعة في التنظيمات الإرهابية»، جاء فيه: في شهر آذار/ مارس لعام 2016م حصلت شبكة الأخبار Sky News البريطانية على أكبر تسريب وثائق خاص بالتنظيم الإرهابي المعروف بـ«تنظيم الدولة الإسلامية». عدة آلاف من الوثائق الخطيرة سُربت من أحد المنشقين عن التنظيم، والذي سلمها بنفسه للشبكة في تركيا، وُصفت هذه التسريبات بـ«ويكليكس داعش»، ومن بين الوثائق ما يزيد عن اثنين وعشرين ألف سجل تعريفي بالأعضاء المنظمين، قَدِموا من ما يزيد عن واحد وخمسين دولة، شملت الوثائق بيانات تفصيلية عن أعضاء التنظيم، تضمنت سؤالهم عن درجة تحصيلهم العلمي، وعن مستوى التحصيل الشرعي المعرفي لديهم، هذه البيانات تغطي الفترة من أوائل عام 2013 إلى أواخر عام 2014م.

شرع المركز الأمريكي لمكافحة الإرهاب التابع للجيش الأمريكي CTC بتحليل بيانات هذه الوثائق، وأصدر تقريره في شهر نيسان/ أبريل لعام 2016م، وما يعنينا في هذا التقرير هو تحليل نتائج الإجابة على سؤال مستوى تحصيل العلم الشرعي لدى أعضاء التنظيم، حيث كان السؤال في البطاقة التعريفية بالأفراد عن المستوى الشرعي لديهم، وكانت خيارات الإجابة هي: طالب علم، متوسط، بسيط. وأفضت البيانات إلى أن ما نسبته 70% من أعضاء التنظيم وصفوا معرفتهم بالشريعة الإسلامية بـ«البسيطة»، في حين وصف 23% معرفته بالمتوسطة، و2% غير معروف، وما نسبته 5% فقط وصفوا معرفتهم بالشريعة الإسلامية بـ«المتقدمة» أي «طالب علم»، وعن عدد الدارسين للشريعة في التنظيم فقد سجل ما عدده (119) مجنداً أنهم درسوا الشريعة إما في كلية أو مدرسة دينية، أي ما يشكل 1.2% فقط داخل التنظيم بالمقارنة مع باقي التخصصات[1].

وهذه الحقيقة تقررها نصوص الشريعة، وتشهد لها وقائع التاريخ، فأول جماعة متطرفة وجدت في تاريخ المسلمين هي الخوارج، وهي أول طائفة خرجت عن الجماعة، واتخذت من قتل المخالف ديناً وعقيدة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أول سيف سُلَّ على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج، وقتالهم من أعظم القتال، وهم الذين ابتدعوا أقوالاً خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها»[2]، وسبب ذلك كما جاء في الأحاديث هو الجهل وسوء الفهم؛ ولجهلهم فإنهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، ومع كثرة عبادتهم وتلاوتهم للقرآن إلا إنهم لا يفهمون معانيه، فلا يميزون بين الناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، فكانوا - كما قال ابن القيم -: «للنصوص معظمين، وبها مستدلين، ولها على العقول والآراء مقدمين، ولم يدَّعِ أحدٌ منهم أن عنده عقلياتٍ تعارض النصوص، وإنما أُتوا من سوء الفهم فيها، والاستبداد بما ظهر لهم منها دون مَن قَبلهم، ورأوا أنهم إن اقتفوا أثرهم كانوا مقلدين لهم»[3].

ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة»[4].

وجاء في وصفهم أيضاً: «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم»[5]، قال الشاطبي: «يعني: أنهم لم يتفقهوا فيه، فهو في ألسنتهم لا في قلوبهم»[6].

ومن فرط جهلهم أنهم - كما يقول ابن عمر -: «انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين»[7].

وهذا شأن أهل الابتداع والغلو، ولذا قال ابن القيم  رحمه الله: «سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده وسوء القصد من التابع، فيا محنة الدين وأهله والله المستعان، وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله؟!»[8].

وقد حفلت السنة النبوية بالحديث عن كثرة شيوع القتل في آخر الزمان، وقرنت ذلك بقلة العلم، وانتشار الجهل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج»، قيل: يا رسول الله، وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحرفها، كأنه يريد القتل[9].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج - وهو القتل القتل -»[10].

وعن عبد الله بن مسعود، وأبي موسى - رضي الله عنهما - قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة لأياماً، ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج» والهرج: القتل[11].

و«الهرج» كلمة مأخوذة من اللغة الحبشية القديمة، وترجمتها القتل، كما جاء في الأحاديث السابقة[12].

فتأمل اقتران كثرة القتل بقلة العلم مما يدل على أن الجهل أو قلة العلم هو سبب انتشار القتل، وهذه الدلالة مأخوذة من النص النبوي الذي هو من العلم الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه صادر عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو يشير إلى أن تجفيف منابع العلم مؤذن بسيادة الجهل، وانتشار الجهل يؤدي إلى التساهل بالقتل والدماء.

ولا يوجد دستور في العالم يحفظ حقوق الإنسان كدين الإسلام، وفي القرآن: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

وفي التنزيل الإلهي توعد الله القاتل بخمس عقوبات كبرى: نار جهنم، الخلود فيها (وهو المكث الطويل)، غضب الله عليه، لعن الله له (وهو طرده وإبعاده من رحمة الله)، والعذاب العظيم؛ قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، ولذلك روي عن ابن عباس أن القاتل لا توبة له[13].

وفي البيان النبوي عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق» [14].

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دماً حراماً»[15].

بل تجاوز الإسلام ذلك إلى تحريم الاعتداء على الكافرين المستأمنين غير المحاربين، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهَداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً»[16].

بل أمر الإسلام ببرهم والإحسان إليهم إذا لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: ٨].

فإذا كانت هذه مبادئ الإسلام، فما الذي ينبغي فعله لمواجهة تيار العنف والتطرف في بلاد المسلمين؟

البيان النبوي المتقدم يبين أن العلاج يتمثل في نشر العلم الشرعي، وتعزيز دور العلماء في المجتمع.

وهذه حقيقة من الحقائق المهمة؛ ولذا فإن من يسعى إلى تجفيف منابع العلم بزعم مواجهة الإرهاب والعنف والتطرف فإنما يسعى في الحقيقة لتأجيجه ونشره وإشاعته، وهو كمن يصب الزيت على النار، فلا يزيدها إلا اشتعالاً، ومهما قيل عن الدور الخارجي أو التآمر الأجنبي فإنه يتضاءل أثره مع وجود العلم وانتشار الوعي وشيوع المعرفة.

إن تحصين الجبهة الداخلية من التأثيرات الأجنبية إنما يكون ببناء الإنسان، والعلم هو أكبر ركيزة أساسية في البناء، ولذلك فإن أهل العلم الرباني يدركون هذه الحقيقة؛ لأنها مقتضى النصوص الشرعية، ولهذا بوب الإمام البخاري باباً بعنوان «باب العلم قبل القول والعمل»، ثم استدل بقوله سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} [محمد: ٩١]، ثم قال: «فبدأ بالعلم»[17].

والله سبحانه هو خالق الإنسان، وهو العالم بما يصلحه ويفسده، والإنسان حين خلق فطر على كراهة الشر وحب الخير، يكره العدوان ويحب السلام، يرفض الظلم وينشد العدل، لم يولد ساذجاً لا يعرف شركاً ولا توحيداً، ولا خيراً ولا شرّاً، وأنه كالصفحة البيضاء تقبل ما ينقش فيها ويكتب من خير أو شر - كما يقال -، بل يولد ولديه الاستعداد للخير والقبول للحق، ما لم يأته تأثير أجنبي، فلديه - كما يقول ابن تيمية -: «القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع: هي فطرة الله التي فطر الناس عليها»[18].

وهذا ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»[19]. ولم يقل: أو يسلمانه، وفي رواية: «ما من مولود يولد إلا وهو على الملة»[20]، وقد أجمع السلف على أن المراد بالفطرة الإسلام، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وليس المراد أنه يولد عارفاً بالإسلام، بل يولد ولديه الاستعداد لقبول الدين الحق الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وينسجم مع فطرته ومع الكون من حوله، ويتواصل مع مسيرة الأنبياء والصالحين، فإذا جاءه الحق - وكان قد تجرد من موانع الاستجابة - أقبلت فطرته عليه.

ولذلك كان سلاح الأنبياء كلمة توقظ الفطرة، وتنير العقل، وتهدي إلى الصراط المستقيم، وهذه الكلمة هي سلام للإنسان مع نفسه، ومع غيره، ورحمة من الله به، ولذلك أرسل الله الرسل رحمة للناس أجمعين، وقد تقرر في كتاب الله تعالى أن المقتضي لإرسال الرسل من جهة الرب جل وعلا هو الرحمة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ٧٠١]، وقد بعث الله مع رسله ما فيه حياة الناس التي لا يحيون إلا بها، ونور طريقهم الذي لا يهتدون إلا به، وشفاء عللهم وأدوائهم.

ولذلك سمى الله تعالى ما أنزله على رسوله نوراً؛ لتوقف الهداية على الاستماع إليه والاستجابة له: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، كما سماه روحاً؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52]، وسماه شفاء؛ لأن فيه الشفاء التام لأمراض القلوب والأبدان، وعلل الأمم والشعوب والأفراد: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].

والحقيقة التي لا مرية فيها أن حياة الإنسان الحقيقية وسلامته التامة الدائمة إنما تكون بالإيمان، كما قال سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122].

وأصل الإيمان وأساسه هو العلم، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: ١١].

 


[1] انظر المقال كاملاً على هذا الرابط: (http://islamonline.net/20548 ).

[2] منهاج السنة النبوية (6/ 238).

[3] الصواعق المرسلة (3/1070).

[4] أخرجه البخاري (3611)، ومسلم (1066).

[5] أخرجه البخاري (3344)، ومسلم (1064).

[6] الاعتصام (2/471).

[7] أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (9/ 16).

[8] الروح (ص63).

[9] أخرجه البخاري (85).

[10] أخرجه البخاري (1036)، ومسلم (157).

[11] أخرجه البخاري (7062)، ومسلم (2672).

[12] انظر: صحيح البخاري (9/ 48).

[13] انظر: تفسير الطبري (9/63).

[14] أخرجه الترمذي (1395)، والنسائي (3987)، وابن ماجه (2619)، وجود ابن كثير إسناده (إرشاد الفقيه 2/258).

[15] أخرجه البخاري (6862).

[16] أخرجه البخاري (3166).

[17] صحيح البخاري (1/ 24).

[18] مجموع الفتاوى (4/ 247).

[19] أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658).

[20] أخرجها مسلم (2658).

ناصر بن عبد الله القفاري

أستاذ دكتور وعضو هيئة التدريس في قسم العقيدة بجامعة القصيم

  • 0
  • 1
  • 8,340

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً