توحيد الألوهية - (21) بعض المسائل التي لها علاقة بتوحيد الألوهية
تبيَّن من الكتاب والسنَّة أن العمل لا يكون صالحًا مقبولاً يُقَرِّب إلى الله -تعالى- حتى يتوفر فيه أمران عظيمان؛ أولهما: أن يكون صاحبه قد قصد به وجه الله تعالى، وثانيهما: أن يكون موافقًا لِما شرعه الله في كتابه أو بيَّنه رسوله في سنته، فإذا اختل واحد من هذَين الشرطين لم يكن العمل صالحًا ولا مقبولاً.
1- التوسل:
لقد اضطرب الناس في مسألة التوسل وحُكمه في الدين اضطرابًا كبيرًا، واختلفوا فيها اختلافًا عظيمًا؛ بين محلِّل ومُحرِّم، ومُغالٍ ومُتساهِل، وقد اعتاد جمهور المسلمين منذ قرون طويلة أن يقولوا في دعائهم مثلاً: "اللهم بحقِّ نبيك أو بجاهه أو بقدْره عندك، عافِني واعفُ عني"، و"اللهم إني أسألك بحق البيت الحرام أن تغفر لي"، و"اللهم بجاه الأولياء والصالحين، ومثل فلان وفلان"، و"اللهم بكرامة رجال الله عندك، وبجاه مَن نحن في حضرته وتحت مدَدِه - مع أن اعتقاد إمداد بشر ميِّت للأحياء اعتقاد باطل - فرِّج الهمَّ عنا وعن المهمومين"، و"اللهم إنا قد بسَطْنا إليك أكفَّ الضَّراعة، متوسِّلين إليك بصاحب الوسيلة والشفاعة، أن تنصر الإسلام والمسلمين.."، إلى آخِر ذلك، ويُسمُّون هذا توسلاً، ويدَّعون أنه سائغ ومشروع، وأنه قد ورد فيه بعض الآيات والأحاديث التي تُقرُّه وتشرعه، بل تأمر به وتحضُّ عليه، وبعضهم غلا في إباحة هذا حتى أجاز التوسُّل إلى الله -تعالى- ببعض مخلوقاته التي لم تبلغ من المكانة ما يؤهِّلها لرِفعة الشأن؛ كقبور الأولياء، والحديد المبنيِّ على أضرحتهم، والتراب والحجارة والشجر القريبة منها؛ زاعمين أن ما جاور العظيم فهو عظيم، وأن إكرام الله لساكن القبر يتعدَّى إلى القبر نفسه؛ حتى يَصحَّ أن يكون وسيلة إلى الله، بل قد أجاز بعض المتأخِّرين الاستغاثة بغير الله تعالى! فما هو التوسل يا تُرى؟! وما هي أنواعه؟ وما معنى الآيات والأحاديث الواردة فيه؟ وما حكمه الصحيح في الإسلام؟
أقول: لقد اهتمَّ العلماء بهذا الموضوع قديمًا وحديثًا، وثار حوله الجدل، واشتد الخلاف، والذي دفع علماء السلف للاهتمام به والكتابة فيه أنه قد جرَّ - وما زال يجر - الكثيرين إلى الوقوع في الشرك، ونسبةِ ما لا ينبغي لله تعالى؛ حيث ظنوا أن توسُّل المسلم إلى الله -تعالى- التوسلَ المبتدع، له تأثير على الله تعالى، وهو مُنزَّه - سبحانه - أن يكون لأحد عليه تأثير، أي تأثير!
وبما أن الموضوع قد كثرت فيه النقول، واشتد الخلاف، فقد كان بحاجة إلى أمرَين؛ أولهما: النظر في ثبوت هذه النقول، وثانيهما: دلالتها وتفسيرها، وقد قام بذلك الشيخ الألباني - رحمه الله - بما آتاه الله من تمكُّنٍ في علوم الحديث المختلفة، وفهم قويٍّ لعقيدة السلف ومنهجهم، وقد تبيَّن له من هذه الدراسة القيمة التي استفاد فيها من كتب العلماء المحقِّقين - وخاصة شيخ الإسلام وتلامذته - تبيَّن له أن النقول الكثيرة التي وردتْ في هذا الموضوع على نوعين:
إما أنها صريحة في الدَّلالة على التوسُّل المبتدع، ولكنها ساقطة الإسناد لا تَثبُت؛ لِما فيها من العِلل وأنواع الضعف، وإما أنها صحيحة، ولكنها لا تدلُّ على ما ذهبوا إليه، وقد بسَط - رحمه الله - المسألة بتوسُّع وشرْح فريد، والشيخ الألباني - رحمه الله - معروف بمنهجه الواضح في المنافَحة عن عقيدة السلف ومنهجهم في زمن كثرت فيه كتبُ أهل البدع والأهواء، فأسأل الله -تعالى- أن يجزيه عنا خير الجزاء، وأن يجعله من الأصناف الثلاثة الذين لا ينقطع أجرهم بعد موتهم.
التوسل في اللغة والقرآن:
إن من أهم أسباب سوء فهْم كثير من الناس لمعنى التوسل، وتوسُّعهم فيه، وإدخالهم فيه ما ليس منه، هو عدم فهمهم لمعناه اللغوي، وعدم معرفتهم بدلالته الأصلية؛ ذلك أن لفظة التوسل لفظة عربية أصيلة، وردت في القرآن والسنة وكلام العرب شِعرًا ونثرًا، وكان المعني بها: التقرُّب إلى المطلوب والتوصل إليه برغبة، وراجع في ذلك كتب اللغة؛ كالنهاية، والقاموس، ومعجم المقاييس، والمفردات، وغيرها.
هذا، وهناك معنى آخَر للوسيلة، هو المنزلة عند الملِك، والدرجة، والقُربة؛ كما في الحديث الذي رواه مسلم وغيره: ((إذا سمعتم المؤذّن..... ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله..)) وواضح أن هذين المعنيَين الأخيرَين للوسيلة وثيقَا الصلةِ بمعناها الأصلي، ولكنهما غير مرادَيْن هنا.
وهذا هو المعروف في اللغة، ولم يخالف فيه أحدٌ، وبه فسَّر السلف الصالح وأئمة التفسير الآيتين الكريمتَين اللتين وردت فيهما لفظة الوسيلة، وهما قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 35]، والثانية قوله -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]، ومن الغريب أن بعض مدَّعي العلم اعتادوا الاستدلال بالآيتين على ما يَلهج به كثيرٌ منهم من التوسل بذوات الأنبياء، أو حقِّهم، أو حُرمتهم، أو جاههم، وهو استدلال خاطئ لا يصح حملُ الآيتين عليه؛ لأنه لم يثبتْ شرعًا أن هذا التوسلَ مشروع مرغوب فيه؛ ولذلك لم يذكر هذا الاستدلالَ أحدٌ من السلف الصالح، ولا استحبُّوا التوسل المذكور، بل الذي فهموه منهما أن الله -تعالى- يأمرنا بالتقرُّب إليه بكل رغبة، والتقدم إليه بكل قُربةٍ، والتوصل إلى رضاه بكل سبيل.
ولكنه - سبحانه - علَّمنا في آيات أخرى أن علينا إذا أردنا التقربَ إليه أن نتقدَّم إليه بالأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، وهو لم يَكِلْ تلك الأعمال إلينا، ولم يتركْ تحديدها إلى عقولنا وأذواقنا؛ لأنها حينذاك ستختلف وتتباين، وستضطرب وتتخاصم، بل أمَرنا - سبحانه - أن نرجع إليه في ذلك، ونتَّبع إرشاده وتعليمه فيه؛ لأنه لا يعلم ما يُرضي اللهَ إلا اللهُ وحده؛ فلهذا كان من الواجب علينا - حتى نعرف الوسائل المقربة إلى الله - أن نرجع في كل مسألة إلى ما شرعه الله، وبيَّنه رسوله -صلى الله عليه وسلم- ويعني ذلك أن نرجعَ إلى الكتاب والسنَّة.
متى يكون العمل صالحًا؟!
تبيَّن من الكتاب والسنَّة أن العمل لا يكون صالحًا مقبولاً يُقَرِّب إلى الله -تعالى- حتى يتوفر فيه أمران عظيمان؛ أولهما: أن يكون صاحبه قد قصد به وجه الله تعالى، وثانيهما: أن يكون موافقًا لِما شرعه الله في كتابه أو بيَّنه رسوله في سنته، فإذا اختل واحد من هذَين الشرطين لم يكن العمل صالحًا ولا مقبولاً.
الوسائل الكونية والشرعية:
إذا عرفنا أن الوسيلة هي السبب الموصل إلى المطلوب برغبة، فاعلم أنها تنقسم قسمين؛ كونية وشرعية.
فأما الوسيلة الكونية، فهي كل سبب طبيعي يوصل إلى المقصود بخِلقته التي خلقه اللهُ عليها، وهي مشتركة بين المؤمِن والكافر، ومن أمثلتها: الماء؛ فهو وسيلة إلى ريِّ الإنسان، وكذا الطعام وسيلة إلى شِبَعه، ونحو ذلك.
وأما الوسيلة الشرعية، فهي كل سبب يوصِّل إلى المقصود عن طريق ما شرعه الله -تعالى- وبيَّنه في كتابه وسنَّة نبيه، وهي خاصة بالمؤمن المتَّبع أمر الله ورسوله، ومن أمثلتها: النطق بالشهادتَين - بإخلاص وفهْمٍ - وسيلةٌ إلى دخول الجنة والنجاة من الخلود في النار، وإتْباعُ السيئةِ الحسنةَ وسيلةٌ إلى محو السيئة، وقول الدعاء المأثور بعد الأذان وسيلة إلى نَيل الشفاعة، وصلة الرحم وسيلة لطول العمر وسَعة الرزق، وهكذا، فهذه الأمور - وأمثالها - إنما عرفْنا أنها وسائل تحقِّق تلك الغايات والمقاصد عن طريق الشرع وحده، لا عن طريق العلم أو التجرِبة أو الحواس.
ويُخطئ الكثيرون في فهم هذه الوسائل بنوعَيها خطأً كبيرًا، ويَهِمون وهمًا شنيعًا؛ فقد يظنُّون سببًا كونيًّا ما يوصل إلى غاية معيَّنة، ويكون الأمر بخلاف ما يظنُّون، وقد يعتقدون سببًا شرعيًّا ما يؤدي إلى مقصد شرعي معيَّن، ويكون الحق بخلاف ما يعتقدون، وأمثلة هذه الاعتقادات الباطلة، بل الخرافات والترَّهات، ظنونٌ وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، وغالبها - إن لم يكن جميعها - أصلها أحاديث موضوعة مكذوبة - لعن الله واضعيها، وقبَّح ملفِّقيها.
وعلى هذا؛ فإن الوسائل الكونية منها ما هو مُباح أذِن الله -تعالى- به، ومنها ما هو حرام نهى الله - عزَّ وجلَّ - عنه؛ فمن الوسائل الكونية للكسب والحصول على الرزق البَيعُ والربا؛ لكن الله أحلَّ الأول، وحرَّم الثاني.
والطريق الصحيح لمعرفة مشروعية الوسائل الكونية والشرعية هو الرجوع إلى الكتاب والسنَّة، والتثبُّت مما ورد فيهما عنها، والنظر في دلالات نصوصهما، وليس هناك طريق آخَر لذلك ألبتَّة، فهناك شرطان لجواز استعمال سبب كوني ما؛ الأول: أن يكون مباحًا في الشرع، والثاني: أن يكون قد ثبت تحقيقه للمطلوب، أو غلَب ذلك على الظن، وأما الوسيلة الشرعية، فلا يُشترط فيها إلا ثبوتها في الشرع وليس غير، فالتجارب والأخبار ليست الوسيلة الصحيحة لمعرفة مشروعية الأعمال الدينية، بل الوسيلة الوحيدة المقبولة لذلك هي الاحتكام للشرْع المتمثِّل في الكتاب والسنَّة، وليس غير.
وأهمُّ ما يخلط فيه كثيرٌ من الناس في هذا الباب - الاتصالُ بعالَم الغيب بطريقة من الطُّرُق؛ كإتيان الكُهَّان والعرَّافين، والمنجِّمين والسحَرة والمُشعوِذين؛ فتراهم يعتقدون في هؤلاء معرفةَ الغيب؛ لأنهم يحدِّثونهم عن بعض ما غاب عنهم، ويكون الأمر وَفْق ما يحدِّثون أحيانًا، فيظنون أن ذلك جائز ومباحٌ، بدليل وقوعه كما يخبرون، وهذا خطأ جسيم، وضلال مبين؛ فإتيان الكهَّان حرام؛ لأنه ثبت في الدِّين النهيُ عنه - كما سبق.
ومما يجب التنبُّه له: أنَّ ما ثبت كونه وسيلة كونية، فإنه يكفي في إباحته والأخذِ به ألا يكون في الشرع النهيُ عنه، وفي مثله يقول الفقهاء: الأصل في الأشياء الإباحة، وأما الوسائل الشرعية، فلا يكفي في جواز الأخذ بها أن الشارعَ الحكيم لم ينهَ عنها - كما يتوهَّمه الكثيرون - بل لا بد فيها من ثبوت النص الشرعي المُستلزِمِ مشروعيتَها واستحبابها؛ لأن الاستحباب شيء زائد على الإباحة، فإنه مما يُتقرَّب به إلى الله تعالى، والقربات لا تَثبت بمجرَّد عدم ورود النَّهي عنها، ومن هنا قال بعض السلف: "كل عبادة لم يتعبَّدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا تتعبَّدوها"، وهذا مُستفاد من أحاديث النهي عن الابتداع في الدين، وهي معروفة، ومن هنا قال شيخ الإسلام: "الأصل في العبادات المنْع إلا لنصٍّ، وفي العادات الإباحة إلا لنصٍّ"، فاحفظ هذا؛ فإنه هام جدًّا؛ يساعدك على استبصار الحق فيما اختلف فيه الناس.
التوسل المشروع وأنواعه:
شرع الله -تعالى- لنا أنواعًا من التوسلات المشروعة المفيدة المحقِّقة للغرض، والتي تكفَّل الله بإجابة الداعي بها، إذا توفَّرت شروط الدعاء الأخرى، والذي يظهر بعد تتبع ما ورد في الكتاب الكريم والسنَّة المطهرة أن هناك ثلاثة أنواع للتوسل شرعها الله -تعالى- وحثَّ عليها، ورَدَ بعضُها في القرآن، واستعملها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحضَّ عليها، وليس في هذه الأنواع التوسلُ بالذوات أو الجاهات أو الحقوق أو المقامات، فدلَّ ذلك على عدم مشروعيته وعدم دخوله في عموم الوسيلة المذكورة في الآيتَين السالفتَين.
أما الأنواع المُشار إليها من التوسُّل المشروع، فهي:
1- التوسل إلى الله -تعالى- باسمٍ من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا؛ كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم اللطيف الخبير أن تُعافيني، أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي، ومثله قول القائل: اللهم إني أسألك بحبِّك لمحمد -صلى الله عليه وسلم- فإن الحب من صفات الله - تعالى.
ودليل مشروعية هذا التوسل قول الله -تعالى-: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]؛ أي: ادعوا الله -تعالى- متوسِّلين بأسمائه الحسنى، ولا شك أن صفاته العليا داخلة في هذا الطلب؛ لأن أسماءه الحسنى صفاتٌ له -تعالى- خُصَّت به عزَّ وجلَّ، ومن السنة قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد والحاكم وصحَّحه الألباني: ((مَن كثر همُّه، فليقلْ: اللهم إني عبدك..))؛ الحديث، وكذلك ما رواه أنس - رضي الله عنه - أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزَبه أمر قال: ((يا حيُّ يا قيوم، برحمتك أستغيث))؛ رواه الترمذي وحسَّنه الألباني.
فهذه الأحاديث - وما شابهها - تبيّن مشروعية التوسُّل إلى الله -تعالى- باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، وأن ذلك مما يحبه الله ويرضاه؛ ولذلك استعمله الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد قال -تعالى-: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾ [الحشر: 7]، فكان من المشروع لنا أن ندعوه - سبحانه - بما دعاه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- فذلك خير ألف مرة من الدعاء بأدعية نُنشئها، وصِيَغ نَخترعها.
2- التوسل إلى الله -تعالى- بالإيمان به والعمل الصالح الذي قام به العبد؛ كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك، اغفر لي، أو يقول: اللهم إني أسألك بحبي لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وإيماني به، أن تفرِّج عني، ومنه أن يذكر الداعي عملاً صالحًا ذا بال، فيه خوفه من الله -تعالى- وتقواه إياه، وإيثارُه رضاه على كل شيء، وطاعته له - عزَّ وجلَّ - ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه؛ ليكون أرجى لقَبوله وإجابته، وهذا توسُّل جيد وجميل شرعه الله -تعالى- وارتضاه، ويدلُّ عليه قوله -تعالى-: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 16]، ويدلُّ على ذلك أيضًا قصة أصحاب الغار التي رواها البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم.
3- التوسل إلى الله -تعالى- بدعاء الصالحين؛ كأن يقع المسلم في ضِيق شديد، أو تَحُلَّ به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريطَ في جنب الله -تعالى- فيحب أن يأخذ بسبب قويٍّ إلى الله - عزَّ وجلَّ - فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى والفضل والعلم بالكتاب والسنَّة، فيطلب منه أن يدعوَ الله له ليُفرِّج عنه كربه، ويزيل عنه همَّه، فهذا نوع آخر من التوسل المشروع دلَّت عليه الشريعة المطهرة، وأرشدت إليه، وقد وردت منه أمثلة في السنة المطهرة، كما وقعت منه نماذجُ من فعل الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - كما في قصة الأعرابي - عند البخاري - الذي جاء يطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر أن يدعوَ الله أن يسقيَهم، وكما في قصة استسقاء عمر - رضي الله عنه - بالعباس - رضي الله عنه - عمِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي عند البخاري أيضًا.
وأما ما عدا هذه الأنواع من التوسلات، ففيه خلاف، والذي نعتقده وندين الله -تعالى- به أنه غير جائز ولا مشروع؛ لأنه لم يَرِدْ فيه دليل تقوم به الحجة، وقد أنكره العلماء المُحقِّقون في العصور الإسلامية المُتعاقبة، مع أنه قد قال ببعضه بعض الأئمة؛ فأجاز الإمام أحمد - رحمه الله - التوسُّلَ بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وحده فقط، وأجاز غيره - كالإمام الشوكاني - التوسلَ به وبغيره من الأنبياء والصالحين، ولكننا - كشأننا في جميع الأمور الخلافية - ندور مع الدليل حيث دار، ولا نتعصَّب للرجال، ولا ننحاز لأحد إلا للحق كما نراه ونعتقده، وقد رأينا في قضية التوسل - التي نحن بصددها - الحقَّ مع الذين حظَروا التوسل بمخلوق - أعني: بشرًا كان أو غيره، وإلا فالعمل الصالح مخلوق ويجوز التوسلُ به - ولم نرَ لمُجيزيه دليلاً يُعتد به، ونحن نطالبهم بنصٍّ صحيح صريح من الكتاب والسنَّة فيه التوسل بمخلوق، وهيهات أن يَجدوا شيئًا يؤيد ما يذهبون إليه، أو يُسند ما يدعونه، اللهم إلا شُبهًا واحتمالات سرَدها الشيخ الألباني - رحمه الله - في كتاب التوسُّل له، وردَّ عليها شبهةً شبهةً، فخذها قاعدةً عامة: ليس هناك توسلٌ مشروع غير هذه الثلاثة التي ذكرتها، وكل ما عداها فلا دليل عليه، فإن عرَض عليك أحدٌ من أهل البدع ما يَزعم أنه دليل، فليس إلا شبهة واهية، فارجع أولاً إلى كتاب التوسل للشيخ الألباني - رحمه الله - فإن وجدتها، وإلا فاسأل أهل العلم العدول، فستزول الشبهة - بإذن الله تعالى.
- التصنيف:
- المصدر: