موعظة صديق راحل
إن الموت لايخيفني في ذاته، فالكل ميت، وإنما نحن جميعا في مهلة قريبة وحسب.
فجعت قبل ايام بخبر موت صديق حبيب مقرب، لم يكن يدور بمخيلتي لحظة أن أفقده، واستغرقت وقتا ليس بالقصير لاستوعب أنه قد لفه الموت فداراه عني إلى يوم يبعثون!
تبعت جنازته، وتعلقت عيني بجثمانه المسجى بلا حراك، وهو الحارث الهمام الذي كان يملأ الدنيا حركة ونشاطا وحديثا ونقاشا وأثرا وبسمات ومزاحات.
غبطته في جنازته التي علتها السكينة وخيمت عليها الطمأنينة، وملأها المحبون، ورفعت فيها أكف الدعاء مخلصة مختلطة بالدمعات النقية المحبة له.
ذكرت له الخير، فقد كان قلبا نقيا، وخلقا يقتدى، وداعية خير ومعلم فضيلة، فأحسبه والله حسيبه من أهل الصلاح والتقى.
ذكرت أنه لطالما أوصاني بالخير، ولطالما حذرني من التفريط في الوقت، ولطالما دفعني نحو فعل الخير دفعا، ورغبني في العفو والصفح ترغيبا.
فكثيرا ما تبادلنا أنا والراحل الحبيب الاستغراب والاستعجاب من سرعة دورة الزمان، وكيف أن الشيب قد غزا رؤوسنا، وأن العمر يتسرب من بين جوانبنا تسرب الماء من بين الاصابع.
قد أنعم الله على صاحبي الخلوق الطيب بخاتمة حسنة، فقد صلى صلاته وقرأ ورده من القرآن، ولما فاجأته الأزمة القلبية ظل ينطق الشهادة حتى توفاه الله.
ولاتزال كلماته حول اجتناب مواقف الحسرات ترن في أذني، وهأنذا أبلغها للقارىء ليعود الثواب الصالح إليه – رحمه الله–
إن الموت لايخيفني في ذاته، فالكل ميت، وإنما نحن جميعا في مهلة قريبة وحسب.
إنما يخيفني من الموت حسراته، فاشد ما يوجع عند ذكر الموت هو تلك الحسرة التي تحصل لمن أدركه الموت على خسرانه، وتفريطه، وغفلته ولهوه، ولغوه، وصراعه على الدنيا وزينتها.
إنها الحسرة البالغة التي تتبعها الحسرات الثقال، لحظة " اجتماع سكرة الموت مع حسرة الفوت "!
لكم مرت علينا أوقات راحة، وأوقات فراغ، وأوقات صحة، وأوقات طاقة، وأوقات مرح وفرح، وأوقات كسل ودعة، ضيعناها كلها فيما لا طائل من ورائه إلا المسئولية الثقيلة والتبعة الرزيلة.
لكن لحظة الموت تنجلي فيها حقائق الفوت، ويرى المرء ساعتها ما قدم وما أخر، ويتمنى أن يعود ليصلح، لكن هيهات، ولات حين مندم!
قال سبحانه:
{حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
قال عمر بن عبد العزيز في آخر خطبة له:
" خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتودعونه، وتدعونه في صدع من الأرض، غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً عما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته".
ومن اشد الحسرات ايضا ما يحصل في القبر للعباد الخاسرين عندما يفتح لهم باب إلى الجنة فيقال: هذا مقعدك لو آمنت، ثم يفتح لهم باب إلى النار فيقال هذا مقعدك، فيتحسر على فوات مقعده من الجنة.
ومن أعظم الحسرات يوم القيامة ما وصف الله به ذلك اليوم في قوله: (يوم الحسرة) وفيه أشد الحسرة إنما تكون كما جاء في الحديث عندما يؤتى بالموت على هيئة كبش فيذبح بين الجنة والنار ويقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت!
وقد حذر الله تعالى عباده حتى لا يتحسروا من غفلتهم وجرمهم وأمرهم بالتوبة والرجوع وعدم اليأس من رحمة الله قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ*وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ*أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}.
وقال سبحانه:" قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ"
- التصنيف: