رد على من زعم عدم وجود سند خاص بالمتن
أمامك - أخي الكريم، يا صاحب القرآن - الفرصة بأن تقرأ متني "التحفة والجزرية"، وغيرهما من متون التجويد والقراءات على الشيوخ المسنِدين ولا تستكبر، وتواضع، عسى الله أن ينفع بك.
لقد تكلَّم بعض الناس ممَّن ليس لديهم إجازات خاصة بالمتن - وغيرهم - كمتنِ: "التحفة، والجزرية، والشاطبية"، وغير ذلك، وقالوا: إن هذه الإجازات الخاصة بدعةٌ قريبة أحدثها بعضُ الناس!
ونَفَوا أن يقرأَ الطالب المتن من أوله إلى آخره على شيخه، ثم يأخذ فيه سندًا خاصًّا، وقالوا: إن كلَّ مَن قرأ روايةَ حفصِ على شيخه، فهو يعتبر مجازًا في "التحفة والجزرية" بالتضمن؛ أي: الإجازة بهما تدخل ضمن إجازة حفص.
ولبيان الحق في هذه المسألة، أقول وبالله التوفيق:
إن من نِعَم الله -تعالى- على هذه الأمة ما أكرمَها به وشرَّفها بالسند - كما ذكرتُ آنفًا - وهذا لم يكن موجودًا في الأمم السابقة، ومن المعلوم أن هذا الأمر له فوائدُ ومزايا كثيرة ليس هذا مجال ذكرها، وعلى الرغم من هذا فإن بعض الناس تكاسل عن هذا الأمر ولم يسعَ إليه، بل البعض زهَّد غيرَه في السند، وقال: هذه ورقة لا قيمة لها، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وكما قيل: مَن جَهِل شيئًا فهو عدوٌّ له، أو الجاهل عدو ما يجهله.
فنعمة الله -تعالى- على هذه الأمة بالسند نعمةٌ عظيمة ليس في القرآن فحسب، بل في الحديث، والعقيدة، والتفسير، واللغة، والفقه، والمتون الشرعية، وليس في ذلك فحسب، بل هناك إجازات في غير ما ذُكِر؛ كإجازات الخطَّاطين، والشعراء، والأطباء، والإفتاء، والتدريس، وغير ذلك الكثير، لكن ينبغي أن أنبِّه على أن الطالب يحتاج مع السند إلى العلم، وهو الأهم، وانتقاء المشايخ المروي عنهم، وليس الأمر مقتصرًا على السند فحسب دون العلم الشرعي.
الرد على قولهم: "إن هذا الأمر جديد وليس قديمًا"، وعلى نفيهم السند في قراءة المتن.
إن هناك فئة من الناس تردُّ كلَّ ما لا يأتي على حسب ما تألفُه أو تهواه أو تعتاده، وجِماع ذلك كله الجهل بهذا الشيء، وبالتالي، فهي لا تقبل هذا الشيء وإن كان مثبتًا موجودًا معروفًا عند كثير من الناس؛ فبعضهم لا يدري أن هناك إجازات خاصة بالمتون، ويأخذ فيها الطالب سندًا إلى ناظمها؛ إما بالقراءة غيبًا عن ظهر قلب في مجلس واحد - كما سيأتي معنا في إجازة إمام هذا الفن ابن الجزري - رحمه الله - للشيخ العلامة/ أبي الحسن علي باشا - أو بالقراءة نظرًا لتصحيح المتن، وهذان الأمران صحيحان عند أهل العلم، إلا أن الأول أفضل وأولى؛ لذا فهي تردُّ هذا الشيء ولا تقبله؛ لندرته أو قلَّته، أو عدم وجوده في البلد أو المكان التي هي فيه، فإذا جاء أحد المشايخ بهذا الشيء الذي ليس عندهم، قالوا: هذا الأمر ما سَمِعنا به، ولا نعرف أحدًا من مشايخِنا معه السند الخاص في المتن، إلى غير ذلك مما أنكروه بغير حقٍّ، بل بجهل - والبعض بحسد وحقد - أسأل الله العافية.
والأمثلة على ذلك الأمر كثيرة جدًّا، مما يرده هؤلاء القوم بسبب الجهل أو عدم موافقة أهوائهم أو ما تألفه وتعتاده أنفسهم؛ كردهم إتمام الحركات؛ لأن بعضهم لا يستطيع القراءة به، وهو مجاز في العشر، أو صاحب شهادة، ويحتاج إلى وقت طويل لإتقانه، فأسهل شيء عليه - حتى لا يفضح نفسه - الإنكار، أو يقول: ما قرأنا بذلك على مشايخنا ولا تلقَّيناه.
وقد رددت عليهم وفندت جميع شبههم وأقوالهم في بحثنا: "فتح العلي في بيان اللحن الجلي والخفي"، وذلك بأسلوب علمي ومنطقي - والحمد لله - وليس هذا الأمر في القرآن فحسب، بل في أكثر الأشياء؛ كإنكار البعض السند في العقيدة، أو الفقه، وغيرهما، وإنكار البعض المدَّ النبوي بالكلية؛ لأنه طبعًا من مصر، وأهل مصر الكثير منهم لا يدري عن المد ولا سنده شيئًا - وإن كان في سنده كلام - ولكنه معروف عند أهل نجد والحجاز، ومنتشر هناك بالأسانيد، بل بعضهم يعترض - وليس يستفهم -: كيف يكون الشيخ الطرابيشي أعلى من الشيخ أحمد الزيات - رحمه الله - في القراءات السبع سندًا؟! ثم يسأل: كم عمر الطرابيشي؟ تقول له: في قرابة: (90) عامًا، فيقول لك: الشيخ الزيات مات وعمره قارب: (100)، فكيف يكون الطرابيشي أعلى؟!
أقول: جهل مركَّب في بعض المسائل عند هؤلاء الذين يدَّعون القراءة والإقراء، أو قل: هو حسد وحقد أقران، أو قل: ردُّ ما لا تهواه أو تعتاده أنفسهم، فانظر - أخي يا صاحب القرآن -: كيف جعل هذا الرجلُ الضابطَ في علوِّ السند هو العمر؛ لأنه لا يدري أن العلو ونزوله يكون بقلة أو زيادة عدد رجال السند؛ فإذا كان عدد الرجال قليلاً كان السند عاليًا، وإذا كان كثيرًا، فالسند نازل، والشيخ/ الطرابيشي - حفظه الله - أقل عددًا من الشيخ/ الزيات - رحمه الله - في القراءات السبع من الشاطبية.
فيا طالب العلم، ويا شيخ، ويا صاحب النعمة، أنت محسود على النعمة التي أنت فيها، فاصبر - أخي الكريم - على حقد وحسد إخوانك، فهذه سنة ربانية لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، فادعُ الله أن يرزقَك الإخلاص في القول والعمل ومعاملة الناس بالحسنى، وأن يسلمك من أمراض القلوب التي فَشَت في هذا الزمان بين الناس بعضهم بعضًا، أسأل الله العفو والعافية، وأن يرزقنا جميعًا حسن الخاتمة، وأن يجعل خُلُقنا القرآن.
وأقول: لو بحثت في "إجازات القراء" في المتن خاصة لوجدت عددًا كبيرًا جدًّا منهم معه إجازة خاصة في المتن ومتصلة السند إلى صاحبه، وإمام هذا الفن نفسه الإمام محمد بن الجزري - رحمه الله - أجاز مَن بعدَه بمنظومته "الجزرية"، فهذا الإمام لما ألَّفَ هذا المتن، أقرأه لتلامذته وعلَّمهم إيَّاهُ، وكذلك التلاميذ أقرؤوا وعلَّموا مَن بعدهم، وهكذا حتى وصل إلينا هذا المتنُ بلفظِه كما أراده الناظم - رحمه الله، وممن أجازه العلامةُ/ ابن الجزري - رحمه الله - في هذا المتن: الشيخ العلامة/ أبو الحسن علي باشا، وقد أوردها الشيخ الدكتور/ أيمن رشدي سويد - حفظه الله - في آخر نسخة المقدِّمة التي قام بتصحيحها وتحقيقها، وإليك نص هذه الإجازة:
صورة الإجازة التي بخطِّ الناظم الإمام ابن الجزري - رحمه الله - الموجودة آخِرَ النسخة الخطية التي صُحِّح المتن عليها:
"الحمد لله وحده، وصلَّى الله على سيِّد الخلق محمد وآله وسلم.
عرض عليَّ جميع هذه المقدِّمة - من نظمي - الولدُ النجيب السعيد اللافظ، سلالة العلماء، أوحد النجباء، بغية الأذكياء، عين الفضلاء، أبو الحسن علي باشا، ولد الشيخ الإمام العلامة المرحوم صفيِّ الدين صفر شاه بن أمير خُجَا بن إياس بن قُزْغُل أحمد، الخراساني الأصل، ثُم التبريزي - وفَّقه الله لمراضيه، ورحم الله مَن سلف مِن أهليه - من حفظِه، في مجلس واحد، حفظ إتقانٍ، ولفظ إيقانٍ.. وسَمِعها بقراءتِه: ابني أبو بكر أحمد، والشيخ الفاضل الحاذق، حميدُ الدين عبدالحميد بن أحمد بن محمد التبريزيُّ الخُسْرُوشاهيُّ، والولدان السعيدان النجيبان الفاضلان: أبو الخير محمد، وأبو الثناء محمود، ابنا الشيخ الإمام العالم الصالح المسلك، بركة المسلمين، عمدة المرشدين، فخر الدين إلياس بن عبدالله السوري حِصَاري، وخير الدين خليل بن مصطفى بن أحمد القَرَاسي، وشمس الدين بن إبراهيم اليمني الأصل، البُرْصوي المولد، والمقرئ الفاضل عماد الدين عوض بن علي البُرْصوي، والشيخ أحمد بن محمد الأَفْلَفُوني، والمقرئ اللافظ أحمد بن محمد بن خاطر بك القُونَوي، وشمس الدين محمد بن أحمد بن بادار النَّهاونْدي ثم الدمشقي، وإبراهيم بن عبدالله الرومي عتيق الخادم عز الدين.. وصحَّ ذلك في يوم السبت، سادس عشر المحرم، سنة ثمانمائة..، وأجزتُ للجماعة المذكورين ولعليٍّ باشا روايتَها عني، وجميع ما يجوز لي وعنِّي روايته، وتلفَّظتُ له بذلك.
قاله وكتبه الفقير: محمد بن محمد بن محمد بن الجزريِّ، حامدًا ومصلِّيًا ومسلِّمًا، عفا الله -تعالى- عنهم بمنه وكرمه".
قال الدكتور/ أيمن سويد - حفظه الله - عن هذه المخطوطة التي فيها إجازة ابن الجزري السابقة في مقدمة تحقيقه لمتن "الجزرية":
"وقد أكرمني الله -تعالى- بالحصول على مصوَّرة نسخة مخطوطة لها، مقروءة على الناظم ابن الجزري - رحمه الله - وفي آخرها إجازة بخطه، ولا شك أنها في غاية التوثيق، وهي مصورة عن النسخة المحفوظة في مكتبة: (لا له لي) تحت رقم: (70) عمومي في "إستانبول" بتركيا.. وأنا أرجو من المشايخ الفضلاء ألا يُدخِلوا بعض المسائل الخلافية التي بينهم - مثل: القلقلة، والقلب، والإخفاء الشفوي، وغير ذلك من المسائل - في هذا الأمر، فنقبل الحق من أيِّ أحد طالما أنه أتى به، أما إن رَدَدْناه بسبب بعض المسائل الخلافية، فهذا دليل على بعض أمراض القلب، أسأل الله السلامة.
وكذلك أورد الشيخ الدكتور/ أيمن سويد - حفظه الله - صورة الإجازة التي كتبها له شيخه العلامة/ عبدالعزيز عيون السود - رحمه الله - وهذه نصُّها؛ كما في نهاية تحقيقه على متن "الجزرية" ص16:
"صورة الإجازة التي كتبها لي سيِّدي وشيخي شيخ القرَّاء العلامة عبدالعزيز عيون السود - رحمه الله تعالى - بهذه المنظومة المباركة:
قد عَرَضَ عليَّ - أنا المفتقر لرحمة مولايَ الودود، عبدالعزيز بن الشيخ محمد عليٍّ عيون السود - ولد القلب، كوكب دمشق، السيد أيمن سويد، هذه المقدمة في منزله في صالحيَّة دمشق، وقد أجزتُه بها كما أجازني شيخي المرحوم/ عليُّ محمد الضباع - رحمه الله تعالى - والله -تعالى- أسأل أن ينفعني به وينفع به المسلمين، آمين.. وكان هذا في غُرَّة ذي الحجة الحرام، سنة 1398هـ.. عبدالعزيز عيون السود..".
تنبيه:
قول بعضهم: "المرحوم - المغفور له - وغير ذلك.."، إن كان من باب الإخبار فهذا لا يجوز؛ لأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -تعالى- وإن كان من باب الدعاء له، فجوَّزه بعض أهل العلم، والله أعلم.
هذا، ومن المشايخ الذين كانوا يجيزون في المتون خاصة:
1- الشيخ العلامة/ عامر السيد عثمان - رحمه الله - وأسانيده متصلة إلى الإمام/ المتولي.
2- الشيخ العلامة/ علي محمد الضباع - رحمه الله - وكان مجازًا - رحمه الله - في أكثر متون التجويد والقراءات؛ كـ: "التحفة، والجزرية، والشاطبية، والدرَّة، والطيبة، والعقيلة، والناظمة"، وكذا في كتب القراءات؛ كـ: "النشر" وغيره، ومن الذين أجازهم الشيخ/ علي الضباع - رحمه الله -:
أ- الشيخ العلامة/ عبدالعزيز عيون السود - رحمه الله - قرأ عليه كثيرًا من متون التجويد والقراءات...
ب- شيخنا المقرئ/ عبدالفتاح بيومي مدكور - حفظه الله - أخذ منه "التحفة والجزرية" وغيرهما.
ومن الذين يجيزون الآن:
1- شيخنا العلامة المقرئ/ بكري الطرابيشي - حفظه الله - عن شيخ قرَّاء دمشق/ محمد سليم الحلواني - رحمه الله - وهو بسنده المعروف.
2- الشيخ المقرئ/ عبدالفتاح الدروبي - حفظه الله تعالى.
3- الشيخ المقرئ/ سعيد العبدالله - رحمه الله.
4- شيخنا الدكتور/ أيمن رشدي سويد - حفظه الله.
5- شيخنا الدكتور/ عبدالباسط حامد محمد - حفظه الله.
6- شيختُنا الكريمة/ نفيسة بنت عبدالكريم زيدان - حفظها الله تعالى.
7- شيخ قرَّاء دمشق/ محمد كُريم راجح - حفظه الله.
8- الشيخ العلامة المعمَّر/ أبو الحسن محيي الدين الكردي - حفظه الله.
وغيرهم كثير في مكة، والمدينة، ومصر، والشام، وغير ذلك، فهذا العدد يكفي في الدلالة على أن الأمر مشهور وثابت عند جمع من العلماء، وليس جديدًا كما يدَّعي البعض، ويدل على أن هناك أسانيد بالمتون متصلة لأصحابها.
ومَن أصرَّ على قوله، فهو يتهم الشيخ الضباع، والشيخ عامر عثمان - رحمهما الله - وغيرهما، بأنهم اخترعوا شيئًا جديدًا من تلقاء أنفسهم، وهذا لا يقوله مَن يعرفهم، ويعرف قدرَهم في هذا الشأن.
هذا عند علماء القرآن والقراءات، وأما علماء الحديث، فعندهم أيضًا أسانيد بـ: "الجزرية" وغيرها، ولكنها من باب الإجازة العامة؛ كعادة أهل الحديث كشيخنا/ عبدالله الناخبي - رحمه الله - وشيخنا/ يحيى عثمان المدرس، وشيخنا/ محمد أمين الهرري، وغيرهم من علماء الحديث، وهي تنفع مَن قرأ على الشيوخ، أما من أخذ الإجازة العامة دون أن يحفظ المتن، وأن يعرف ما يحتويه، فلا فائدة فيها.
وقد أكرمني الله -تعالى- وحصلتُ في متن الجزرية على سند حديثي بيني فيه وبين الناظم - رحمه الله - اثنا عشر رجلاً، فالحمد لله رب العالمين.
الرد على قولهم: "مَنْ قرأ رواية حفص فهو مجاز بمتني التحفة والجزرية تضمنًا".
يعنون بذلك: أن كل مَن قرأ رواية حفص على شيخه يعتبر مجازًا في متني: "التحفة والجزرية"؛ لأنه قرأ القرآن على شيخه مجودًا من خلالهما!
تمهيد:
أولاً: هل يلزم الطالب أن يحفظ "التحفة والجزرية" حتى يأخذ السند؟
ثانيًا: هل يلزم الطالب أن يقرأ القرآن بمضمن "التحفة والجزرية" دون غيرهما من المتون أو الكتب؟
ثالثًا: هل الطالب الذي قرأ القرآن على شيخه قرأ أيضًا متني: "التحفة والجزرية" حتى يَقْرأَهما قراءة صحيحة ويُحَفِّظَهما ويُعَلِّمَهما لغيره؟
رابعًا: افترضنا أن الطالب قرأ "التحفة والجزرية" على شيخه مع قراءته للقرآن، هل شيخه قرأ هذين المتنين على شيخه، وشيخه كذلك حتى نتيقَّن أن السند متصل إلى صاحبه؟
والجواب على ما مضى بحول الله وقوته:
أولاً: لا يلزم من الطالب - الذي يريد أن يقرأ رواية حفص - حفظ متني: "التحفة والجزرية" حتى يأخذ السند، وإن أنكرتم ذلك، فكيف كان حال الذين يَقْرؤون القرآن على شيوخهم قبل الشاطبي وابن الجزري والجمزوري؟!
وكذا أقول في القراءات السبع والعشر، فلا يلزم الطالب حفظ المتن فيهما دون غيرهما بل الذي يلزمه: أن يؤدِّي الرواية أو القراءة تأدية صحيحة على شيخه من حيث "الأصول والفرش"؛ لذا قال ابن الجزري - رحمه الله - في منجد المقرئين ص 52: "ويلزمه أيضًا أن يحفظ كتابًا مشتملاً على ما يُقرِئ به من القراءات أصولاً وفرشًا، وإلا داخله الوهم والغلط في كثير".
إذًا المهم هو: أن يقرأ الطالب الرواية أو القراءة قراءة صحيحة، دون الرجوع أو الالتزام بمتن معيَّن، وإن كان حفظ المتن أفضل وأوثق وأسرع في استحضار المعلومة؛ لذا قالوا: "من حفظ المتون حاز الفنون"، وإذًا فقد كانوا قبل الشاطبي وابن الجزري والجمزوري وغيرهم، يقرؤون ويُقْرِئُون بمضمن ما كان عندهم أو عند مَن سبقهم من العلماء؛ ككتب أبي عمرو الداني، ومكي بن أبي طالب، والمرعشي، والقرطبي، وغيرهم.
وعلى هذا: فمَن أُجِيز في رواية حفص من غير حفظ للتحفة والجزرية، فإجازته عند أهل العلم صحيحة مقبولة، إلا أنه لا يقال: إنه أجيز في التحفة والجزرية؛ لأن المتن تأليف خاص بمؤلِّفه، فلا يخلط سند القرآن بسند المتن،وهذا بالضبط كمَن تعلَّم العقيدة أو أي مادة علمية أخرى على شيخه دون كتاب ولا متن معين، ثم يأتي ويقول: أنا تعلَّمت على يد شيخي العقيدة، فأنا مجاز في الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد، ولمعة الاعتقاد، والواسطية، والطحاوية، وربما يقول: أنا مجازٌ في كل كتب العقيدة، فهذا لا شك فيه أنه أخطأ؛ لأن متن الأصول الثلاثة وغيره له سند خاص بمؤلفه، متَّصِل إليه من خلال مَن أخذ منه، وكذلك بقية الكتب والمتون في العقيدة، والفقه، واللغة، والتفسير، والحديث.
ثانيًا: لا يلزم الطالب أن يقرأ القرآن بمضمن "التحفة والجزرية" دون غيرهما من المتون، كما أوضحتُ سالفًا، ولأن بعض القرَّاء في وقتنا الحالي لا يُقرئ بمضمنهما، إنما يقرئ بمضمن متن "السلسبيل الشافي" لشيخه، أو شيخ شيخه العلامة/ عثمان مراد - رحمه الله - والبعض مِن هؤلاء المشايخ لا يحفظ متني "التحفة والجزرية"؛ لأنه يقول: إن السلسبيل أغنى عنهما؛ لأنه جمعهما وجمع أشياء أخرى ليست فيهما، وعلى ذلك أقول لهؤلاء الناس الذين قرؤوا على شيوخهم: أنتم مجازون في متن "السلسبيل الشافي"؛ لأن شيخَكم كان يقرئ بمضمنه، وربما الواحد منهم لا يستطعُ قراءته، فكيف يكون مجازًا في "التحفة، أو الجزرية، أو السلسبيل، أو الشاطبية"، أو غير ذلك من متون أهل العلم، وهو لا يعرف قراءة ألفاظ هذه المتون؛ لعدم تلقيها عن شيخ؟!
ثالثًا: هل الطالب الذي قرأ القرآن على شيخه قرأ أيضًا متني "التحفة والجزرية" حتى يَقْرَأهما ويُقْرِئهما قراءة صحيحة ويحفِّظهما ويعلِّمهما لغيره؟!
هذا سؤال مهم، بل في غاية الأهمية، وعليه مدار الموضوع كله، وللإجابة على هذا السؤال - ومن خلال الواقع الذي أراه عند كثير من المشايخ - أقول: إن أكثر الطلاب يقرؤون القرآن فقط، ثم يأخذون السند، ويذهبون دون الاهتمام بقراءة متني "التحفة والجزرية"، أو كتاب معين في علم التجويد، فهل هذا الطالب يعتبر مجازًا في متني "التحفة الجزرية"؟! كيف ذلك؟!
• بعضُهم لا يحفظ "التحفة ولا الجزرية"، وهم كثيرون جدًّا، وبعضُ مَن يأتي إليَّ يقول لي: أريد أن أقرأ القرآن، وأنا قرأتُ على فضيلة الشيخ العلامة فلان، وفضيلة الشيخ الدكتور فلان، فأقول له: هل تحفظ "التحفة والجزرية"؟ فيقول: لا.
يا إخواني الكرام، اذهبوا إلى أي شيخ من المشايخ الكبار الذي قرأ عليه المئات، وقولوا له: يا شيخ، كم طالبًا من الذين قرؤوا عليكم القرآن قرأ أو حَفِظَ عليك متني "التحفة والجزرية"؟ وانتظر الجواب.
• وأيضًا بعض الناس يَقْرَؤُون القراءات العشر دون حفظ لمتني "الشاطبية والدرة"، بل يَقْرَؤون من خلال كتاب "البدور الزاهرة" للشيخ القاضي - رحمه الله - وغيره من الكتب التي أفردت القراءات، فيقرأ هذا الطالب "القراءات السبع" أو "العشر" من خلال هذه الكتب قراءة صحيحة من حيث "الأصول والفرش"، فهل هذا الطالب يعتبر مجازًا في متني "الشاطبية والدرة" مثلاً بالسند المتصل إلى صاحبهما؟!
فإن قلتم: نعم، أقول: كيف ذلك، وهو لا يستطيع أن يقرأ مقدمة الشاطبية والدرة، فضلاً عن بقية المتن؟! والكل يعلم صعوبة متن الدرة في ألفاظه.
وإن قلتم: لا، أقول: نفس الأمر في التحفة والجزرية وغيرهما، كيف يكون مجازًا فيها، وهو ربما لا يستطيع قراءة باب منها كما هو حال البعض؟!
وإن قلتم: لا بد من حفظ "الشاطبية والدرة" لقراءة القراءات العشر، أقول: هذا الكلام مردود؛ حيث إن المتن سبب لاستحضار القراءات ومعرفتها جيدًا، فكيف كان حال مَن كان قبل الشاطبي، وابن الجزري في قراءة القراءات؟!
إذًا قراءتهم باطلة، طالما أننا قلنا بوجوب قراءة القراءات من خلال حفظ الشاطبية والدرة، وكما قال ابن الجزري - رحمه الله - في المنجد: "ويلزمه أيضًا أن يحفظ كتابًا مشتملاً على ما يقرئ به من القراءات أصولاً وفرشًا، وإلا داخله الوهم والغلط في كثير"؛ فهذا يدل على أن الطالب يكفيه أن يحفظ كتابًا، أو أن يقرأ من خلاله قراءة صحيحة فقط، والأصل هو: أداء الرواية أو القراءة أو القراءات، أداءً صحيحًا من حيث "الأصول والفرش".
تنبيه:
لا يلزم من كلامي السابق أن الطالب الذي يقرأ القراءات، لا بد أن يحفظ أو يقرأ متني الشاطبية والدرة على شيخه، ثم يأخذ فيهما سندًا، وكذلك متني التحفة والجزرية؛ فكم من عالمٍ يحفظ هذه المتون ويدرِّسها؛ ولكنه ليس معه فيها سندٌ، وإنما كلامي منصبٌّ على مسألة معيَّنة، وهي: الرد على مَن زعم عدم وجود سند خاص في المتون.
• والبعض لا يعرف أيَّ شيء عن أحكام التجويد أصلاً، لا من كتاب ولا متن، بل يقرأ عمليًّا فقط كما سمع من الأشرطة، وأكثر الشيوخ تسمع فقط، ولا تسأل عن أحكام التجويد.
• وإذا كان البعض يحفظ متني "التحفة والجزرية" ولم يقرأهما على شيخه، فما يدرينا أن هذا الطالب يحفظهما حفظًا جيدًا خاليًا من الأخطاء؟ أو يقوم بتعليمهما أو تحفيظهما لغيره دون أخطاء، وبالتالي يقع المحظور من الألحان وغيرها، وكما قيل:
مَنْ يأخذِ العلمَ عَنْ شَيْخٍ مُشَافَهَةً
يَكُنْ عَن الزَّيْغِ وَالتَّصْحِيفِ فِي حَرَمِ
وَمَنْ يَكُنْ آخِذًا لِلْعِلْمِ مِنْ كُتُبِ
فَعِلْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَالْعَدَمِ
• إذا سلَّمنا أن بعض المشايخ قرأ على شيخِه هذين المَتْنَينِ - كما يقول البعض - فما يدرينا أن شيخَه معه إجازة خاصة بذلك المتن؟ وأيضًا ما يدرينا أن شيخه قرأ على شيخه، وشيخه على شيخه، وهكذا، حتى يتصل السند بالقراءة - دون انقطاع أو سقط - إلى صاحبه؟
فينبغي البحث عن شيخ قرأ المتن على شيخه، وشيخه على شيخه، وهكذا؛ حتى يتصل السند إلى صاحبه بالقراءة.
• بعد فتح المجال الآن للقراءة من المصحف نظرًا عند بعض المشايخ، هل هذا يجعل الطالب يحفظ متني "التحفة والجزرية"؟ فكيف يكون حال الطالب الذي لم يحفظ القرآن، وربما يقع في أخطاء جلية وهو يقرأ من المصحف، فكيف نقول عن هذا الطالب: إنه مجاز في "التحفة والجزرية"، وهو قرأ القرآن كله من المصحف؟! وبالتالي نادرًا مَن يحفظ المتنين بهذه الطريقة، إلا أن تكون همته عالية، فيقرأ القرآن من المصحف، ويقرأ التحفة والجزرية على شيخه غيبًا عن ظهر قلب.
تنبيه:
القراءة بالنظر في المصحف، وإن كانت مضبوطةً مع التجويد، لكن ينقصُها التلقِّي عن ظهر قلب؛ حتى يبقى جميع السند مسلسلاً بهذه الصفة، والأصل أن الطالب يعرضُ القرآن الكريم كلَّه على شيخه حفظًا عن ظهر قلب، والعرض من المصحف، وإن جوَّزه بعض العلماء كالسيوطي في الإتقان (1/ 131)، ولكن هذا الأمر فتح الباب على مصرعَيه الآن، فأصبح الذي يقرأ من المصحف يستوي مع َمن يقرأ من حفظه، فضلاً عن الاستواء في السند عن الشيخ!
قال الدكتور/ محمد بن فوزان - حفظه الله - في إجازات القراء ص59: "والذي يظهر لي - والله أعلم - جواز هذا النوع من الإجازات بشروط، هي: عدم قدرة القارئ على الحفظ - الإفادة في الإجازة بأنه أُجِيز بقراءته من المصحف مباشرة - يُمنع المجاز بهذه الطريقة من إجازة غيره، فهي له بمثابة إجازة خاصة - عدم فتح هذا النوع من الإجازة أمام عامَّة الناس، والضرورات تقدَّر بقدرها".
أقول: وبعضهم قال: إذا أراد المُجاز أن يُقرئ غيره، فليقرئه من المصحف كما قرأ هو على شيخه من المصحف، والله أعلم.
رابعًا: افترضنا أن الطالب قرأ "التحفة والجزرية" على شيخه مع قراءته للقرآن، هل شيخه قرأ هذين المتنينِ على شيخه، وشيخه كذلك؛ حتى نتيقَّن أن السند متصل بالقراءة إلى صاحب المتن؟
وقد رددتُ على هذه الجزئية في الكلام الذي مضى، والحمد لله.
الخلاصة:
1- السند في "التحفة، والجزرية، والشاطبية"، وغيرها من المتون، ليس بدعةً على حد قولهم، وهذه المتون فيها سند خاص إلى صاحب المتن، يأخذه الطالب إذا حَفِظ وقرأ المتن على شيخه، سواء قرأ المتن غيبًا عن ظهر قلب، أو قرأه نظرًا؛ لأن الهدف هو معرفةُ ألفاظ المتن مع فهمه جيدًا، والعمل بمقتضى ذلك.
2- ليس كل مَن قرأ حفصًا على شيخه، أصبح مجازًا في متني "التحفة والجزرية" بالتضمن، كما وضَّحت ذلك، فلا يخلط سند القرآن بسند المتن؛ لما بينَّته سالفًا.
3- الأفضل لطالب القرآن أن يبحثَ عن شيخ مُسنِدٍ ومُتقِن في هذه المتون؛ ليحفظها ويقرأها عليه، ليأخذ سندًا متصلاً إلى صاحبه.
4- وجودُ إجازةٍ خاصة في المتن يجعل الطالب أكثر همَّة في حفظ هذا المتن وتَعَلُّمِه؛ فكثير - كما قلت - لا يحفظون متني "التحفة والجزرية"، فإذا قلت للطالب: احفظ متني "التحفة والجزرية" جيدًا، كي تأخذ فيهما الإجازة مع إجازة القرآن، فيذهب ويحفظهما حفظًا جيدًا؛ لينال الإجازة فيهما.
5- على الطالب الذي يريد إجازة في متنٍ ما، أن يقرأ شرح هذا المتن جيدًا حتى يفهمَه، وحتى لا تكون الإجازة خالية من العلم، وكذا الشيخ لا يعطي لأي أحد جاء إليه يطلب الإجازة، إلا بعد أن يتأكَّد منه في إتقانه وحفظه للقرآن، أمَّا أن يأتي بعض الناس وهو لم يحفظ القرآن ولم يدرِ شيئًا عن التجويد والمتون، ويأخذ سندًا في هذين المتنين! فلا ينبغي التساهل في ذلك.
6- الأفضل للطالب أن يعرض المتن كلَّه من أوله إلى آخره على شيخه، ولا يكتفي بعرض بعضه إلا إذا كان متقنًا وقرأ المتن على أكثر من شيخ.
7- نحن نثبت ونقول: إن هناك أسانيد بالمتون متصلة إلى أصحابها، ويجوز قراءتها على الشيخ الذي معه سند متصل، ثم نأخذ السند من الشيخ، ومعنا الأدلة على ذلك، وأنتم تنفون هذا الشيء، فأين دليلُكم على هذا النفي مع وجود ضده - الإثبات - عند كثير من القراء؟
8- وأخيرًا: أمامك - أخي الكريم، يا صاحب القرآن - الفرصة بأن تقرأ متني "التحفة والجزرية"، وغيرهما من متون التجويد والقراءات على الشيوخ المسنِدين ولا تستكبر، وتواضع، عسى الله أن ينفع بك.
وهذا آخر ما تيسَّر قوله في هذه المسألة، أسأل الله -تعالى- أن يرزقَنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنِّبنا شر الخلاف، وأن يوفِّقنا للحق والعمل به، آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هذا المبحث منقول بتمامه عن كتاب: "إعانة المستفيد بضبط متني "التحفة والجزرية" في علم التجويد"؛ للشيخ حسن بن مصطفى الوراقي - حفظه الله.
- التصنيف:
- المصدر: