من مقامات النبوة - (1) بين يدي المقـامات
محَمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي هو في نظَر المسْلمين خَاتم الأنبياء والرُّسل ومعَلم الأبطَال، هو في نظَر المفَكرين من الملل الأخرَى، أكبَر المصْلحين على الإطلاق، فلا يحِق لنا أن نتحَدث عن سِيرة رجُل دون أن نشَرف حديثَنا به أولاً
لا يَزال المؤمن يجتَني أطَايب الحكَم، وجَوامع الكَلم، وكَرائم الأخْلاق، وفرَائد الآدَاب، كلمَا أعَاد النظَر في سِيرة الحبيْب صلى الله عليه وسلم وأمعَن القرَاءة فيها، فَهي بحَق مأدُبة فضَائل، ومَائدة شمَائل، ينهَل منها الكبَار، ويتَربى على مُثُلها الصِّغار، فليسَ لأحَدٍ الاستغنَاء عنهَا، عَالماً أو مُتعَلماً، صَغيراً أو كَبيراً، ذَكراً أو أُنثى، فَهي المعين الصَّافي، والسَّبيل الشَّافي، لكلِّ من أراد الأنسَ والسَّعادة والفَائدة..
لذَا فقَد عُني بها السَّلف والأئمَّة عنايةً شَديدة، فَهذا علي بن الحسَين -رحمَه الله- يقول " كنَّا نُعلَّم مغَازي النبي _عليه الصَّلاة والسَّلام_ كمَا نُعلَّم السُّورة من القُرآن " ويقُول إسماعيل بن محمَّد بن سَعد بن أبي وقَّاص " كان أبي يعَلمُنا مغَازي رسُول الله يعدُّها عَلينا، ويقول: هذه مآثر آبائكُم فلا تضيِّعوا ذكرَها ". ويقول الإمام ابن كَثير –رحمَه الله –: "ولا يجمُل بأولي العِلم، إهمَال مَعرفة الأيام النبَويَّة، والتَّواريخ الإسْلامية" وبناءً على ذلك ورغبةً في الإسهَام في رشْفةٍ من رَحيق إمام هذه الأمة ونَبيهَا وقائدهَا، ذكَرت إشَاراتٍ وإلماحاتٍ، وإضَاءاتٍ وَوَمضَاتٍ، من عَبير تلك المقَامات، التي قامهَا - عليه الصَّلاة والسَّلام -....
أسْأل الله أن ينفَع بها قارئهَا وكَاتبهَا.. إنه جَوادٌ كريمٌ..
من مَقَامَاتِ النُّبُوَّة:
لما أرَدت استِهْلال هذه المقَدمَة وكتَابتهَا، ووضَعت قَلمي على الورق، جَرى بسُرعةٍ ومضَى بخفَّة، يسَطر غَرامَه وأشوَاقه، وحُبه وموَدته، ولهفَتَه وحُرقَته وهو يلتَفت يَمنةً فيرى المحبِّين في لُهَاثهم، ويسْرة فإذا الغَارقون في شَهواتهم، وأمَامه فإذا اللاهُون في سُبَاتهم، فسَطر بمِداد الحُب حُروف الأشواق، وأخَذ يدبِّج العبَارات، ويصُوغ المقَامات، ويصْدح بهذه الكلمَات...
فمن شَاء فليَذكر جمَال بُثينَةٍ *** ومن شَاء فليَغزل بحُب الرَّبائبِ
سَأذكُر حُبي للحَبيب محمَّدٍ *** إذا وصَف العشَّاق حُب الحبَائبِ
ويبْدو محيَّاه لعَيني في الكَرى *** لنفْسِي أفديْهِ إذاً والأقَاربِ
وتُدركُني في ذكرِه قَشعَريرةٌ *** من الوَجد لا يحوِيه عِلم الأجَانبِ
إن لكِل رسَالة من الرسَالات وأمةٍ من الأمم أمجَاداً وحضَارات، ومزَايا ومآثر تتَشَرف بها وتتَبنى فضَائلها، وإن لهذه الأمَّـة مقَاماً خَاصاً، وشَرفاً رَفيعاً، ومنَاقب متَميزة؛ فلكُل فرد من أفرادها وسَام شَرف، وعلى جَبينه شَامة عِز، وفي طَريقه نُور يتلألأ ومِشعَل يُضئ، وآية تَهدي، وسُنةٌ تَشفي؛ ذاك أنها "تُوفِي وتُتِم سبَعين أمة يوم القيَامة، هي خيرها وأكرمُها على الله عز وجل" [1].. بل جَعلها الله شَاهدةً وشهيدةً على الأمم قبلها، فعَلى كل مؤمن أن يسبِّح من أعمَاق قلبه، مغتبطاً مجتذلاً رافعاً أسمَى آيات الثنَاء والمدْح والتمجِيد، مبتهلاً إلى المالك الأحَد، قائلاً في صِدق وحب ووفَاء:
وممَّا زَادني شَرفاً وتيهَاً *** وكدتُ بأخمُصِي أطَؤ الثُّريَّا
دخُولي تحْت قولك يا عبَادي *** وأن صَيَّرت أحمَد لي نبيَّا
إذا أرَدت أن تجعَل يومَك عيداً، ولحظَاتك أنسَاً، وحَياتك سعادةً فلتكن مع محمد صلى الله عليه وسلم.
"عَزَفت الأقلام بسِيرته فكَانت أروَع ما كتبَت، وهتَفَت الشِّفَاه بصدقه فكانت أجمَل ما نطَقَت، وتنَاقل الأجيَال أخبَاره فكان أمتَع ما سمعَتْ؛ أُذن الخَير الذي استَقبل آخرَ رسَائل السَّماء لهدَاية الأرض، خير من مشَى على قدَم، وخَير من أُرسِل للأمَم، وخير من حَكم وعَدل، سبَّح الحصَى في يديه، وسَلم الحجَر عليه، وشَكا الجمَل إليه، وبكَى الجذع على فرَاقه، ونبع الماء بين أصَابعه، وشَهد الذئب لرسَالته، وكثُر الطعَام ببرَكته، وكلَّمَه ذرَاع الشَّاة، وظَلله الغَمَام، وحَدثه الطَّير" [2].
وله كمَال الدِّين أعلَى همَّةً *** يعْلو ويسْمُو أن يقَاس بثَانِ
لما أضَاء على البَريَّة زانهَا *** وعَلا بهَا في طاعة الرحمنِ
فَوجَدت كل الصَّيد في جَوف الفِرا *** ولقِيتُ كُل النَّاس في إنسَانِ
مهمَا أوتي الأدَباء من أعنَّة الفَصَاحَة، وأزِمَّة البَلاغة، وجَوامع الكَلم، وبَديع النَّثر، وجَزيل الشِّعر، ورَوائع النَّظم، ومهمَا تبَارت القَرائح تشْدو أناشِيْد عَظمَته، فسَتَظل خَجْلى أمَام زكَاء سِيرته وصَفَاء سَريرته.
يَروحُ بأروَاحِ المحَامدِ حُسنهَا *** فَيرْقى بهَا في سَاميَاتِ المفَاخِرِ
وإن فُضَّ في الأكْوان مِسْك ختَامهَا *** تعَطرَ منهَا كُل نجْدٍ وغَائرِ
ما من نَبي من الأنبيَاء ولا مَبعُوث من الرُّسل إلا وأُيِّد بآية ثم ذَهبَت، ومعْجزَة ثم انصَرمت، وشَريعةٍ ثم نُسخَت؛ لكِن آيتَه ومعجِزته خَالدَةً تَالـدَةً باقيـةً ما بقي النيِّران، وما وجد في الأرضِ إنسَان.
جَاء النَّبيون بالآيات فانصَرمَت *** وجِئتنَا بحَكيمٍ غَير مُنصَرمِ
آياتُه كلمَا طالَ المدَى جُددٌ *** يزينهُن جَلالُ العِتق والقِدمِ
"جَاءت أخْلاقه بنَسَق متَكَافئ فَزهْده كَجُوده، وكرَمُه كصَبره، وشُكره كَحِلمِه، وهَكذا أرسَله الله- سُبحَانه وتَعَالى - ليصِيغَ منظُومَة الأخْلاق الأبَدية بأقْلام من نُور الهدَاية، ثم أسَّس أول مدرسَة لتَواضُع العظَمَاء، وقَف على جُثمَان كبريَاء النَّفس يوَدعه، وغَزَا الأفئِدة بتوَاضُعه، وأخَذ مكَانه بين البُسطاء والضُّعفَاء" [3].
كان يخصِف نعله، ويَحلب شَاتَه، ويكون في مهنَة أهْله، ويلبَس الصُّوف، ويركَب الحمَار بل ويُردف عليه..، ومع هذا فقد ميَّزه الله بكريم الخِلال وشَريف الخصَال، وشَرح صَدرَه، وأعْلى ذِكرَه.
وضَم الإله اسْم النَّبي إلى اسمِه *** إذا قال في الخَمس المؤَذن أشهَدُ
وشَق له من اسمِه ليُجلَّهُ *** فذو العَرش مَحمُودٌ وهذا محمَّدُ
جمَع في شَخصِه وبين جنبَيه أجَلَّ المقَامَات وأسمَى المرَاتب وأكمَل المنَاقِب، فإذا ذُكِرَ العُبَّاد وتهجُّدهم فهو إمامُهم، وإذا أشِير إلى العُلمَاء وفقههم فهو أستَاذُهم، وإذا امتُدح الشُّجعان وبسَالتهم فهو قَائدهم، وإذا تميَّز الدُّعاة بأسْلوبهم فهو قُدوتهم، فله في كُل منقُبةٍ أوفَر حَظ وأكمَل نَصيْب..
فلقَدسَرَت مسرَى النجُوم هُمومه *** ومَضَت مُضي البَاترات عَزائمه
"ألقَى الله على كَلامه المحبَّة، وغَشَّاه بالقَبول، وجمَع له بين المهَابَة والحكمَة، فلم تَسقُط له كَلمة، ولا زَلت به قدَم، ولا بارَت له حُجة، ولم يقُم له خصْم، ولا أفحَمَه خَطيب، بل يبُذ الخُطب الطِّوال بالكَلام القصِير، ولا يلتَمس إسكَات الخَصْم إلا بما يعْرفه الخَصْم، ولا يحتَج إلا بالصِّدق، ثم لم يسمَع الناس بكَلامٍ قَط أعمّ نَفعاً، ولا أصْدق لفْظَاً، ولا أعدَل وزناً من كَلامه".
يا أيُّها الأُمي حَسبُك رُتبَةً *** في العِلم أن دانَت لك العُلمَاء
وُلِدَ فلمَّا ظهَر للدُّنيا أضَاء الكَون، واستَبشر التَّاريخ، وسَعِدت البشَرية كُلها بمَولده، ورَأت أمه نُوراً خَرَج منها فأضَاء مَدَائن بُصْرى والشَّام، فللَّه ما أجمَل تلك اللحَظَات، وما أسعَد تلك البقعَة، وما أجَل ذلك اليَوم الذي ولدَ فيه.
يومٌ يتيه على الزَّمان صَبَاحُه *** ومسَاؤه بمحمَّدٍ وضَّـاءُ
كانت لحَظَاتُ حيَاته وأيام ولادَته مِلأها البرَكَات والنفَحَات، فلم تَعرف البشَرية أكمَل خَلْقاً، ولا أنبَل خُلُقاً، ولا أكرَم نسَباً، ولا أشرَف حسَباً، ولا أعظَم برَكةً وصَفَاءً وطهراً وصِدقاً منه - عليه الصَّلاة والسَّلام- فقد كانَت سيرَته نبرَاسَاً وضَّاءً في طَريق كُل مؤمن، ونورَاً وهَّاجاً في درب كل مسْلم، فقَد نُقلت بأدق تفصِيل وأكمَل بيَان، وأوضَح حَال؛ كما قال أحَد النُّقاد الغَربيين:"إن محَمداً (عليه الصَّلاة والسَّلام) هو الوحيْد الذي ولد على ضَوء الشَّمس"؛ وقد شَهد بكمَال أخْلاقه وسُمو روحِه وصِدق لهجَته، القَريب والبَعيد، والموَالي والمعَادي، والموَافق والمخَالف، فدُونك صُورٌ من أقوال بعضِ المستَشرقين الذين ما ملكُوا أنفسَهم أمام تلك العظَمَة التي بهَرتهم إلا أن يسَطروهَا بأقلامهِم:
يقول أحَدهم وهو أديْب أيرلَنْدا (برنَارْدشُو):"ما أحوَجَنا اليوم إلى رجُل كمُحَمَّد يحُل مشَاكل العَالم وهو يحتَسي فنَجاناً من القَهوة".
ويقول السِّير مُوير:"لم يكُن الإصْلاح أعسَر ولا أبعَد منه منَالاً وقت ظهُور محمَّد، ولا نعْلم نجَاحاً وإصْلاحَاً تم كالذي تركَه عند وفَاته".
وقال ليونَارد: "إن كان رجُل على هذه الأرض قد عَرَف الله، وإن كان رجُل على هذه الأرض قد أخلَص له، وفَني في خدمَته بقصْدٍ شَريف، ودافع عَظيم فإن هذا الرجُل بلا ريْب هو محمَّد نبي العَرَب".
وفي دائرة المعَارف البريطَانية: "لقَد صَادف محمد النجَاح الذي لم ينل مثْله نبي ولا مصْلح ديني في زَمن من الأزمنَة".
وقال بوزَورث سميث:"إن محَمداً بلا نزَاع هو أعظَم المصْلحين".
فمحَمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي هو في نظَر المسْلمين خَاتم الأنبياء والرُّسل ومعَلم الأبطَال، هو في نظَر المفَكرين من الملل الأخرَى، أكبَر المصْلحين على الإطلاق، فلا يحِق لنا أن نتحَدث عن سِيرة رجُل دون أن نشَرف حديثَنا به أولاً؛ فتَنَقل في بسَاتين هذا الكتاب لتَستَنْشِق من عَبيْر مقَامَاتِه، ولتَقطِف من زَهر أخْلاقه وحيَاته، ولتَتَذوق من مَعِين شمَائله وصفَاته
-صلى الله عليه وسلم-؛ ولا يسَعني إلا أن أرَدد قَول مَن قَال:
ولئن مَدَحْت محمَّداً بمقَالتي *** فلقَد مَدَحت مقَالتي بمحمَّدِ
بقلم/ نايف بن محمد اليحيى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه أحمد (33/219)، وقال ابن تيمية: حديث جيد. الجواب الصحيح (2/232).
[2] الزهاد مائة (ص7)، وانظر هذه المعجزات في كتابي: دلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي.
[3] الزهاد مائة (ص14).
- التصنيف:
- المصدر: