أثر أبي بكر رضي الله عنه في تورعه من أكل الحرام

منذ 2018-03-15

هؤلاء الناس هم الذين يأكلون من الطيِّبات التي أحلَّ الله لهم، فبقدر تقيُّدهم بالحلال الطيِّب يكون طيبهم كما بقدر تَورُّعهم وصيانة أنفسهم من الحرام يكون طيبهم.

أثر أبي بكر رضي الله عنه في تورعه من أكل الحرام

بسم الله الرحمن الرحيم


أثر أبي بكر رضي الله عنه في تَورُّعه من أكل الحرام:

عَن عَائِشَة - مَوْقُوف - قَالَت: كَانَ لأبي بكر الصّديق غلامٌ يخرج لَهُ الْخراج، وَكَانَ أَبُو بكر يَأْكُل من خراجه، فجَاء يَوْمًا بِشَيْء فَأكل مِنْهُ أَبُو بكر، فَقَالَ لَهُ الْغُلَام: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بكر: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كنت تكهَّنت لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَمَا أُحسِن الكهانة، إِلَّا أَنِّي خدعته، فلقيني فَأَعْطَانِي بذلك، فَهَذَا الَّذِي أكلت مِنْهُ. فَأدْخل أَبُو بكرٍ يَده، فقاء كل شَيْء فِي بَطْنه. رواه البخاري رحمه الله.

شرح الأثر:

في هذا الأثر دلالة على حرص الصحابة على التورُّع وأن لا يدخل في جسمهم شيءٌ من الحرام، كما يدل على خوفهم العظيم من عقاب الله العظيم خوفاً من أن لا يُقبل منهم عباداتهم وأدعيتهم.

لأن في الحديث «لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به» رواه الإمام أحمد في ‏مسنده رحمه الله.

وهذا معناه ذنب كبير وكبيرة من كبائر الذنوب وكلما توعد به الشارع النار فهو كبيرة، ولكننا - وللأسف- نرى الناس في هذا الزمان تساهلوا في الحرام حتى قالوا: الحلال ما حل في يدك، ويقصدون بذلك أن لا يهتموا ما وقع في أيديهم أمن حلال أو من حرام.

ومما لا شكَّ فيه أن الإنسان سيُسأل يوم القيامة عن ماله من اين اكتسب وفيم أنفقه فعن معاذ رضي الله عنه «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن جسده فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما وضعه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟» (رواه الطبراني رحمه الله).

فترى هذا يأكل الربا ويتَّخذ منها مسكناً ومركباً وملبساً ومأكلاً وقد علمنا أن المُرَابي حرب مع الله، وأيضاً علمنا كيف شدَّد الله فيها حيث لعن متعاطيها وفي الحديث: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنيَّة» (رواه الإمام أحمد رحمه الله).

وقد قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة:100]، وأيضاً ترى هذا يحتال في أموال الناس بالغش والخيانة، وآخر بالظلم وآخر بالسرقة أو بالنهب، وآخر بالغصب وتقطيع الطرق بالسلاح، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد «أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة».

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر: أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟». (رواه مسلم رحمه الله).

والله سبحانه لا يتقبل إلا من المتقين الطيِّبين، والدليل على ذلك قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27 ].

ففي قصة هابيل وقابيل عبرة هذا أي هابيل أنفق من طيِّب ماله طيِّبة بها نفسه فتقبَّل الله منه، وهذا أي قابيل أنفق من خبيث ماله وقد خبثت به نفسه فردَّه الله عليه ولم يتقبل منه.

ثم خرج من النفس الطيِّبة لهابيل أمر طيِّب آخر وهو الكف عن قتل أخيه، وعبَّر ذلك بقوله حاكياً عنه الله جلَّ شأنه {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28].

ولكن الشقيَّ هو قابيل الذي ما كان يخاف من ربِّه بل طوَّعت له نفسه قتل أخيه، والنفس أمَّارة بالسوء إلا ما رحم ربي أو إلا التي خافت من ربها، والنفس إذا كانت لا تأبى الشر فتكون مطواعة للإقدام على الشرور فاعلم إنما هي نفس خبيثة لا تخاف من ربِّها غير مرحومة بل يقودها الشيطان إلى المهالك والعطب، فيُزيِّن لها السُّوء في صورة أشياء جميلة والجميل في سورة خبيث كما يُمنِّيه ويُوعد لوليِّه الإنسي أنه سيكون في خيرٍ ونعمةٍ ورخاءٍ بل هذا هو كما قال السَّامريُّ {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96 ].

إذاً أولاً: يحصل التسويل ثم المطاوعة ثم التفيذ كالركوب على الشرك أو المعاصي ثم تحصل الخسارة ثم الندم ثم المذلة ثم العذاب الدنيوي قبل الآخرة كما قال تعالى {فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31].

أما الخسارة والندم فظاهر في الآيات، أما المذلة فهي كونه جعله الله تلميذاً لغُرابٍ لأن الله بعثه ليريه كيف يواري سوءة أخيه!، أما العقوبة الدنيويِّة فظاهرة، وهي في فقد أخيه وندمه عليه، وربما وقعت عليه أمور أخرى لم نقف عليها.

ومعلوم أن أبانا آدم كان نبياً يُوحَى إليه، ولذلك كان يُعلِّم ويربِّي أبناءه بالوحي ولكن كثيراً من الناس يصير مسرفاً بعدما تأتيه البيِّنات والهدى والبرهان كما ختم الله في آخر هذه القصة الآنفة الذكر بقوله {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [ المائدة: 32 ].

ومعلوم أن الجنَّة لا يدخلها إلا الطيِّبون كما قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].

وهؤلاء الناس هم الذين يأكلون من الطيِّبات التي أحلَّ الله لهم، فبقدر تقيُّدهم بالحلال الطيِّب يكون طيبهم كما بقدر تَورُّعهم وصيانة أنفسهم من الحرام يكون طيبهم،بل وبقدر طيبهم تخرج منهم الطيبات المباركات من نور وحكمةٍ وإيمانٍ وعلمٍ مثلاً، حتى يكون مثلهم كمثل النحلة لا تأكل إلا طيباً، ولا تُخرج إلا طيباً، ولا تقع إن وقعت على شيء إلا طيباً، ولا تشمُّ رائحةً إن شمَّت إلا طيباً، بل ولا تقبل الاستضعاف والاعتداء عليها أو الإهانة بل تغار أشد الغيرة فتدافع عن نفسها وتنافح ولا تستسلم حتى آخر واحدة منها بما تستطيع.

إذ لا يُخرج البلد الطيِّب إلا الطيِّب كما لا يخُرج البلد الخبيث إلا نكداً كما قال تعالى {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58 ].


وطبعاً، في الأثر دروس وعبر كما يلي:-

أولا: قول الغلام: " كنت تكهَّنت لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَمَا أُحسِن الكهانة، إِلَّا أَنِّي خدعته " فيه جمع بين أمرين خبيثين وهو محاولة التكهن وفعله والخديعة وما حمله على ذلك إلا الحرص على الأموال.

ثانيا: والعجيب في الأمر أن هذا الحرص الذي كان قبل الإسلام استمر حتى بعد الإسلام والدليل على ذلك أنه يقول: " فلقيني فَأَعْطَانِي بذلك ".

ثالثا: استعجال أبي بكر رضي الله عنه بتخلية ما في بطنه فور إخباره أن ما أكله هو هذا الذي تكهَّن له غلامه يدل على شدِّة كُرهِهِ للحرام إذ لا يصلح الطيِّب إلا الطيِّب كما لايصلح الخبيث إلا الخبيث.

رابعا: أهمية صحبة الوَرِعين الخيِّرين الأخيار غير الحريصين لأن الإنسان الورع لا يُؤكِّلك إلا الطيِّب بينما غير الوّرِع لا يمكن إلا أن يُؤكِّلك إلا الخبيث فليُحذر منهم وقد قال تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26].


والله وليُّ التَّوفيق.

  • 13
  • 0
  • 50,060

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً