إياكم ومحقرات الذنوب
إنَّ المؤمنَ الصَّادقَ يخافُ ذنوبَه، سواء كان هذا الذنبُ صغيرًا أو كبيرًا، وأما الكافرُ والفاجرُ فهو يعصِي الله تعالى ليلًا ونهارًا ولا يُبالي بذنوبِه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرَجْنا معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ خَيبرَ، فلم نَغنَمْ ذهبًا ولا فِضةً، إلا الأموالَ والثيابَ والمَتاعَ، فأهدَى رجلٌ من بني الضَّبيبِ يُقالُ له رِفاعَةُ بنُ زيدٍ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غلامًا يُقالُ له مِدعَمٌ، فوَجَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى وادي القُرَى.
حتى إذا كان بوادي القُرَى، بينما مِدعَمٌ يَحُطُّ رَحلًا لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا سهمٌ عائِرٌ فقَتَلَه، فقال الناسُ: هَنيئًا له الجنةُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كلَّا، والذي نفْسي بيدِه، إن الشملةَ التي أخَذها يومَ خَيبرَ من المغانمِ، لم تُصِبْها المَقاسِمُ، لَتَشتَعِلُ عليه نارًا». فلما سَمِعَ ذلك الناسُ جاء رجلٌ بشِراكٍ أو شِراكَين إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «شِراكٌ من نارٍ، أو شِراكانِ من نارٍ» .
هل كان يخطر ببال هذا الغلام أن هذه الشملة ستشتعل عليه نارا؟
إنه رداءٌ صغيرٌ ولعلَّه لا يساوي عشرةَ دراهم، وبالرغم من ذلك قال الرسول: «لَتَشتَعِلُ عليه نارًا».
إنَّ المؤمنَ الصَّادقَ يخافُ ذنوبَه، سواء كان هذا الذنبُ صغيرًا أو كبيرًا، وأما الكافرُ والفاجرُ فهو يعصِي الله تعالى ليلًا ونهارًا ولا يُبالي بذنوبِه، وهذا حالُ كثيرٍ من أهلِ زماننا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
عن أنس رضي الله عنه قال: «إنكم لتعمَلون أعمالًا، هي أدقُّ في أعيُنِكم من الشَّعرِ، إنْ كنَّا لنعُدُّها على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من المُوبقاتِ»، يعني المهلكاتِ .
وقال عُبادَةُ بن قُرْطٍ رضي الله عنه: إنَّكم لتأتُون أمورًا هي أدَقُّ في أعيُنِكم من الشَّعرِ، كنا نعُدُّها على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الموبقَات. قال حميد: فذُكِرَ ذلك لمحمدِ بن سيرين، فقال: صدقَ، وأرَى جرَّ الإزارِ منها .
كان أنس وعبادة رضي الله عنهما يقولان ذلك في زمان القرون الخيرية، فكيف لو جاؤوا فرأوا أهلَ زماننا؟
ومُحقَّراتِ الذنوب تحتمل معانٍ:
الأول: ما يفعلُه العبدُ من الذنوبِ، متوهِّما أنه من صغارِها، وهو من كبار الذنوب عند الله تعالى.
والثاني: ما يفعلُه العبدُ من صغائرِ الذنوبِ، دون مبالاةٍ بها، ولا توبةٍ منها، فتجتَمعُ عليه هذه الصغائرُ حتى تُهلِكَه.
والثالث: ما يفعلُه العبدُ من صغائرِ الذنوبِ، لا يبالي بها، فتكونُ سببًا لوقوعِه في الكبائرِ المُهلِكة.
تحذير النبيِّ صلى الله عليه وسلم من مُحقَّرات الذنوب:
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشةَ إيَّاك ومُحقَّرات الأعمالِ؛ فإنَّ لها من الله طالبًا».
قال بعض أهل العلم: إنَّ معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنَّ لها من الله طالبًا» أي: مَلَكًا مكَلَّفًا يطلبُها فيكتُبها، وهذا يدلُّ على أنها عظيمةٌ عند الله تعالى.
قلت: وفي هذا نظرٌ؛ لافتقاره إلى دليلٍ، وهو أمرٌ غيبي، والظاهر لي والله أعلم أنَّ المعنى أنَّ الله تعالى قد وكَلَ ملائكةً لكتابةِ أعمالِ العبادِ، وهم يكتُبون أعمالَ العبدِ كلَّها صغيرَها وكبيرَها، لا كما قد يتوهَّم بعض الناس أن مُحقَّراتِ الذنوبِ لا تُكتَب.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكم ومُحقَّرات الذنوبِ؛ فإنَّما مثَلُ مُحقَّراتِ الذنوبِ كقومٍ نزلوا في بطنِ وادٍ، فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ حتى أنضَجوا خُبزَتَهم، وإن مُحقَّرات الذنوبِ متى يُؤخَذُ بها صاحبُها تُهلِكُه».
قال العلماء: وذلك أنَّ الصغائرَ إذا اجتمعت ولم تُكَفَّر بالتوبةِ والاستغفارِ أهلكَت صاحبَها عياذً بالله.
وروي عن سعد بن جُنَادةَ رضي الله عنه قال: لمَّا فرغَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من حنين، نزلنا قَفْرًا من الأرضِ، ليس فيه شيءٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجمَعوا، من وجدَ عُودًا فليأتِ به، ومن وجدَ عظْمًا أو شيئًا فليأتِ به»، قال: فمَا كان إلا ساعةً حتى جعلنَاه رُكامًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أترونَ هذا، فكذلك تجتَمِعُ الذنوبُ على الرجلِ منكم كما جمعْتُم هذا، فليتَّقِ الله رجلٌ؛ فلا يُذنِبُ صغيرةً ولا كبيرةً، فإنها مُحصَاةٌ عليه».
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "مثَلُ مُحقَّرات الذنوبِ كمثَلِ قومٍ سَفْرٍ نزلوا بأرضِ قَفْرْ معهم طعامٌ لا يُصلِحُهم إلا النارُ، فتفرَّقوا فجعلَ هذا يجيء بالرَّوْثة، ويجيء هذا بالعظْم، ويجيء هذا بالعُودِ، حتى جمعوا من ذلك ما أصلَحوا به طَعامَهم، فكذلك صاحبُ المُحقَّراتِ، يكذبُ الكَذْبة، ويذنب الذَّنبَ، ويَجمُعُ من ذلك ما لعلَّه أن يَكبَّه الله به على وجههِ في نارِ جهنَّمَ" .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الشيطانَ قد أيسَ أن يُعبَدَ بأرضِكم هذه، ولكنَّه قد رَضِيَ منكم بما تَحقِرون».
خلِّ الذنوبَ حقيرَها وكثيرَها فهو التُّقَى
كنْ مثلَ ماشٍ فوقَ أرضِ الشَّوكِ يحذَرُ ما يرَى
لا تحقِرَنَّ صغيرةً إنَّ الجبالَ من الحصَى
وقال أبو عبد الرحمن الحُبُلي رحمه الله : مثَلُ الذي يجتنِبُ الكبائرَ ويقَعُ في المُحقَّرات كرجلٍ لقَاه سبعٌ فاتَّقاه حتى نجَا منه، ثم لقِيَه فحْلُ إبلٍ فاتَّقاه فنجَا منه، فلدَغتْه نملةٌ فأوجعَتْه، ثم أخرى، ثم أخرى، حتى اجتمعْنَ عليه فصَرَعْنَه، وكذلك الذي يجتنبُ الكبائرَ ويقَعُ في المُحقَّرات.
إنَّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها كالقذَرِ الذي يُصيبُ ثوبَك، فهل ترضى أن يُصِيبَ ثوبَك أيُّ وسخٍ ولو كان صغيرًا أو حقيرًا؟
المؤمنُ يخشَى ذنوبَه وإن كانتْ صِغارًا:
عن الحارثِ بن سُويْدٍ رحمه الله قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين: أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسِه، قال: «إنَّ المؤمنَ يرى ذنوبَه كأنَّه قاعدٌ تحت جبلٍ يخافُ أن يقَعَ عليه، وإنَّ الفاجرَ يرى ذنوبَه كذبابٍ مرَّ على أنفِه فقالَ به هكذا»، قال أبو شهابٍ الزهري: بيده فوق أنفه. ثم قال: "لله أفرحُ بتوبةِ عبدِه من رجلٍ نزلَ منزلًا وبه مَهلَكَةٌ..
وأخرجه مسلم عن الحارث بن سُويدٍ رحمه الله قال: حدثني عبد الله حديثين: أحدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه المؤمنِ..».
قال المحب الطبري رحمه الله : إنما كانت هذه صفةُ المؤمنِ لشدَّةِ خوفِه من الله ومن عقوبتِه؛ لأنَّه على يقينٍ من الذنبٍ، وليس على يقينٍ من المغفرةِ، والفاجرُ قليلُ المعرفةِ بالله؛ فلذلك قلَّ خوفُه واستهانَ بالمعصيَةِ.
وانظر إلى أحدِ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخوفه من أن يكون قد عصى الله تعالى وتعرض لسخطه وعقابه؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: لمَّا نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إلى آخرِ الآية، جلسَ ثابت بن قيس في بيتِه، وقال: أنا مِن أهلِ النارِ، واحتبسَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. فسألَ النبيّ صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ، فقال: «يا أبا عمرو! ما شأن ثابت؟ اشتكى؟» ال سعد: إنَّه لَجَاري، وما علمتُ له بشكوَى.
قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أُنزِلت هذه الآية، ولقد علمْتُم أنِّي من أرفعِكُم صوتًا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهلِ النارِ. فذكر ذلك سعدٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل هو من أهلِ الجنةِ».
ما أتقاهم وأورعهم رضي الله عنهم، كانوا يخافون ذنوبَهم مع قلَّتِها وكثرة عبادتهم.
وعن عمار بن دادَا قال: قال لي كَهمس: يا أبا سلمة! أذنبْتُ ذنبًا فأنا أبكِي عليه منذ أربعين سنةً، قلت: ما هو؟ قال: زارَني أخ لي فاشتريتُ له سمكًا بدَانِق، فلمَّا أكلَ قمْتُ إلى حائطِ جارٍ لي، فأخذْتُ منه قطعةَ طينٍ، فغسلَ بها يدَه، فأنا أبكِي على ذلك أربعينَ سنةٍ .
قلت: وهذه مبالغةٌ لا تُمدَحُ، وقد كانت ذنوبُ القومِ خفيفةً، وكانوا يراقبون أحوالَهم، غفرَ الله لهم ورحمَهم، وجمعنا بهم في جناتٍ ونهرٍ.
إنَّ المؤمنَ يخشى ذنوبَه وإن كانت صغارًا للأمور الآتية:
1- الله تعالى يُحاسِبُ عبادَه على الصغيرِ والكبيرِ.
2- المؤمنُ ينظرُ إلى عِظَمِ من عصاه وهو الله سبحانه.
3- قد يظنُّ العبدُ الذنبَ صغيرًا، لكنه عند الله عظيمٌ.
4- العاصي قد عرض نفسه لغضب الله وعقابه.
5- اجتماعُ المُحقِّرات يُهلِك العبدَ.
6- قد يموتُ العبدُ وهو يعصِي الله تعالى.
7- الذنوبُ وإن كانت صغيرةً فإنها تًسبِّبُ ظلمةً في القلبِ إذا لم يعقُبْها استغفارٌ.
8- احتقارُ الذنوبِ واستصغارُها سببٌ للوقوعِ في الكبائرِ والتَّهلُكَةِ.
9- الذنوبً يدلُّ بعضُها على بعضٍ.
10 الذنوبُ الصغار تكبر مع الإصرار.
11- احتقارُ الذنوبِ يعوقُ عن التوبةِ.
12- رُبَّ ذنبٍ يظنُّه الإنسانُ صغيرًا ويدخلُ به نارَ جهنَّمَ.
ونتكلم إن شاء الله عن هذه الأمور في مقال آخر، والحمد لله رب العالمين.
- التصنيف: