خالدون بأعمالهم
إذا مات العبد وفاضَتْ روحُه إلى باريها، وانتقل إلى ربه، فلن يكون معه بعد موته إلا ما قدَّمه في حياته مِن أعمال
الأيام صحائفُ الأعمال، فخلِّدها بأحسن الأحوال، والفُرَص تمرُّ مرَّ السَّحاب، ومَن استوطأ مركبَ العَجز عثَر به، وإذا اجتمع التسويفُ والكسلُ، تولَّد بينهما الخسران.
وهناك أعمالٌ يبقى للعبد أجرُها بعد وفاته ورحيله من هذه الدنيا الفانية، ينبغي على كل طالب نجاةٍ أن يحرص عليها، وألا يفوِّتها، وأن يضرب فيها بسهمٍ ونصيبٍ قدرَ جهده واستطاعته.
إذا مات العبد وفاضَتْ روحُه إلى باريها، وانتقل إلى ربه، فلن يكون معه بعد موته إلا ما قدَّمه في حياته مِن أعمال، إن كانت صالحة فهنيئًا له؛ فلقد فاز بالخير العظيم، وإن كانت سيئةً فواحسرتاه؛ فلقد خاب وخسِر، وضيع نفسه.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( «يتبع الميتَ ثلاثةٌ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد؛ يتبعه: أهله، وماله، وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله» ))؛ [أخرجه البخاري ومسلم] .
وفي حديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنَ ((يُفسَح له في قبره مد بصره))، قال: ((ويأتيه رجلٌ حَسَنُ الوجه، حسن الثياب، طيِّب الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يسرُّك، هذا يومُك الذي كنت تُوعَد، فيقول له: مَن أنت؟ فوجهُك الوجه يجيءُ بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح)).
وقال في الكافر أو الفاجر: ((يأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يسُوءُك، هذا يومك الذي كنت توعَد، فيقول: مَن أنت؟ فوجهُك الوجه يجيء بالشرِّ، فيقول: أنا عملك الخبيث))؛ أخرجه أحمد بسند صحيح.
إن الأعمار مضروبةٌ، والآجال مقسومة، وكل واحدٍ قد كُتِب له حظُّه في هذه الحياة، وأنت أيها الإنسان منذ خرجتَ إلى الدنيا وأنت تهدم في عمرك، وتنقص من أجلك، وتبني في قبرك.
فهَبْ أنك متَّ الآن؟
فما آثارك بعد الموت؟
ما الأعمال المباركة التي تُنسَب إليك بعد موتك، وتنال عليها أجرًا؟
كم مسلمًا علَّمتَ؟
كم تائهًا إلى طريق الحق هديت؟
كم غرسًا غرست؟
كم حديثًا عن رسول صلى الله عليه وسلم بلَّغت؟
قد مات قومٌ وما ماتَتْ مكارمُهم *** وعاش قومٌ وهم في الناسِ أمواتُ
إن آثار الإنسان التي تبقى وتُذكَر بعده من خير أو شر - يجازى عليها؛ قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، فالله تعالى يكتُبُ آثار الخير وآثار الشر التي كان هؤلاء سببًا في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، يكتُب الله الأعمالَ التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خيرٍ يعمله بشرٌ؛ مِن نشرِ علم نافع، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر - يكتبه الله تعالى.
كثيرة أعدادها! تلك الأقدامُ التي مرَّت في هذه الحياة، ثم ارتحلت وانتقلت في الغابرين، فكان مِن بينها أقدامٌ تلاشت معالِمُها، وذهبَتْ آثارها، وأخرى ما زالت آثارها باقية، ومعالِمُها ظاهرة، قد ارتحلوا، لكن بقي ذكرُهم الحسن يملأ الدنيا.
لقد كان مِن دعوة إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]، يا رب اجعل لي ذكرًا جميلًا بين عبادك المؤمنين، واجعل لي أثرًا حسنًا فيمَن يأتي مِن بعدي.
كان الرافعي رحمه الله يقول: "إذا لم تزد شيئًا على الحياة، كنت زائدًا عليها".
إن مِن عظيم نِعَمِ الله تعالى على عبادِه المؤمنين أنْ هيَّأ لهم أبوابًا مِن البر والخير، يقوم بها العبد في هذه الحياة، ويجري ثوابُها عليه بعد موته، فأهل القبورِ في قبورهم مرتهنون، وعن الأعمال منقطعون، وعلى ما قدَّموا في حياتهم يحاسَبون، وأما هذا، فالحسنات عليه في قبره متواليةٌ، والأجور والأفضال عليه متتالية، ينقضي الأجَل، وينتقل مِن دار العمل، ولا ينقطع عنه الثواب، بل تتضاعف درجاته، وتتنامى حسناته، فما أكرمَها مِن حال، وما أجملَه مِن مآل!
ولقد جاءت أخبارٌ بأعمال تبقى أجورُها بعد الموت، إنها أعمالٌ خالدة، وأجور باقية، وأنا أذكُرُ لك ما عرَفتُه منها، فتشبَّث بها، واحرِص عليها:
1- الدعوة إلى الله وسَنُّ سُنة حسنة:
إن مِن أعظم الأعمال أجرًا وثوابًا بعد الموت الدعوةَ إلى طريق ربِّ العالَمين، وإرشاد الحائرين، وهداية الضالِّين، ولأجل هذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه: ( «(والله لأَنْ يُهدَى بك رجل واحدٌ، خيرٌ لك مِن حُمْر النَّعَ» م))؛ متفق عليه.
إنها لتجارةٌ رابحة أن تأخذَ أجرًا على ما لم تعمل يدُك، لقد كنت سببًا في هداية غيرك، فكلُّ ما يعمله مِن خير يُكتَب لك مِن الأجر مثلُ ما يكتب له، فهنيئًا لكم يا دعاة الهُدى!
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (( «مَن دعا إلى هدًى كان له مِن الأجر مثلُ أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مِن تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» ))؛ [أخرجه مسلم] .
وعن جَرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: «كنا عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قومٌ حُفاةٌ عُراةٌ مُجتابِي النِّمار أو العَبَاء، مُتقلِّدي السيوف، عامَّتُهم مِن مُضَر، بل كلهم مِن مُضَر؛ فتمعرَّ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لِما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذَّن وأقام، فصلى ثم خطب، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [النساء: 1]، إلى آخر الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، ((تصدَّق رجلٌ مِن ديناره، مِن درهمه، مِن ثوبه، مِن صاع بُرِّه، مِن صاع تمره))، حتى قال: ((ولو بشِقِّ تَمرة))، قال: فجاء رجل مِن الأنصار بِصُرَّةٍ كادت كفُّه تَعجِزُ عنها، بل قد عَجَزَتْ، قال: ثم تتابَعَ الناس حتى رأيت كَوْمينِ مِن طعام وثياب، حتى رأيت وجهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلَّل كأنه مُذْهَبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم» : (( «مَن سنَّ في الإسلام سُنة حسنة، فله أجرُها وأجرُ مَن عمِل بها بعده، مِن غير أن ينقص مِن أجورهم شيء، ومَن سنَّ في الإسلام سُنة سيئة، كان عليه وِزرُها ووِزرُ مَن عمل بها مِن بعده، مِن غير أن ينقص من أوزارهم شيء» ))؛ [أخرجه مسلم] .
وعن أبي مسعودٍ الأنصاري قال: «جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أُبْدِعَ بي فاحمِلْني، فقال: ((ما عندي))، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أنا أدلُّه على مَن يحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن دل على خيرٍ، فله مثلُ أجرِ فاعله))» ؛ [أخرجه مسلم] .
لن تخسرَ شيئًا إذا دعوتَ غيرَك إلى طريق الحق، بل إنك تربحُ ثوابًا عظيمًا بدلالتِك الناس على الخير، فما أغفلَ كثيرًا مِن المسلمين عن هذه الغنيمة الكبرى!
لقد قصَّر كثيرٌ مِن المسلمين في دعوةِ بعضهم بعضًا إلى الخير، وقلَّ أن يُذكِّر أحدهم الآخر بالله عز وجل، وظنَّ بعضهم أن الدعوة إلى الله ونشرَ سُنة النبي صلى الله عليه وسلم واجبُ الدعاة وطَلَبة العلم، ولو كان هذا حقًّا لضاع الإسلام مِن قديم؛ فإن تبليغ دعوةِ الإسلام واجبُ المسلمين جميعًا، كلٌّ حسَبَ قدرته، وفي الحديث عن عبدالله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «بلِّغوا عني ولو آية» ))؛ [أخرجه البخاري] .
ومُخطِئٌ مَن يتوهَّم أنه يجبُ عليه ألا يَدُلَّ الناس على خيرٍ لا يفعله، فلا يحث الناسَ على صيامِ الاثنين إلا إذا كان يصوم، وفي هذا خسارةٌ لك، بل العاقل اللبيب يجتهد قدرَ استطاعته في فعل الطاعات والواجبات والمستحبَّات، ويدعو غيرَه إلى ذلك، حتى وإن قصَّر هو في العملِ أحيانًا فإنه لا يقصر في الدعوة؛ وإنما المذموم الذي يدعو إلى طاعة الله وهو بعيدٌ عنها؛ استهزاءً وسخرية، ومكابرة وعنادًا، والله أعلم.
2- نشر علم نافع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( «إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عملُه إلا مِن ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له» ))؛ [أخرجه مسلمٌ] .
ويأتي في الحديث: ((إن مما يلحق المؤمنَ مِن عمله وحسناته بعد موته: علمًا علَّمه ونشَرَه...)).
ويأتي في الحديث: ((أربعٌ تجري عليهم أجورهم بعد الموت: رجلٌ علَّم علمًا، فأجرُه يجري عليه ما عُمِل به...)).
قال ابن القيم رحمه الله في "طريق الهجرتين":
"قد ذكرنا مائتي دليلٍ على فضل العلم وأهله في كتاب مُفرَد، فيا لها مِن مرتبةٍ ما أعلاها، ومنقبة ما أجلَّها وأسناها! أن يكون المرءُ في حياته مشغولًا ببعض أشغاله، أو في قبره قد صار أشلاءً متمزِّقة، وأوصالًا مُتفرِّقة، وصحفُ حسناته متزايدة يُملى فيها الحسنات كل وقت، وأعمال الخير مُهداة إليه مِن حيث لا يحتسب، تلك واللهِ المكارمُ والغنائم، وفي ذلك فليتنافَسِ المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون، وذلك فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وحقيقٌ بمرتبةٍ هذا شأنُها أن تُنفَق نفائسُ الأنفاس عليها، ويسبِق السابقون إليها، وُتوفَّر عليها الأوقات، وتتوجَّه نحوها الطلبات، فنسأل الله الذي بيده مفاتيح كل خير أن يفتحَ علينا خزائن رحمته، ويجعلنا مِن أهل هذه الصفة بمنِّه وكرمِه.
فانشُرْ علمًا نافعًا تنعَمْ في قبرك ويَزِدِ اللهُ في أجرك، وانظُرْ كم انتفع خلقٌ لا يحصيهم إلا الله تعالى بكتابٍ مثلِ صحيح البخاري، ولا ريب أن كل قارئٍ حديثًا أخرجه البخاريُّ للبخاري رحمه الله فيه مِن الأجر والثواب الحظُّ الكبير.
وواللهِ ما كتبت كلمة إلا ورجوتُ الله أن يكتبَ لي بها ثوابًا بعد موتي، وهذه الغايةُ التي لأجلها يُتعلَّم العلم، بعد إخلاص العبادة لله تعالى لا ريب.
فاحرِصْ يا أخي على نشرِ العلم النافع بما تيسَّر لك، ولو بشراءِ كتاب وإهدائه لطالب علم، ولو بمساعدةِ طلاب العلم النُّبَهاء على التفرُّغ لطلب العلم، ولو بوضعِ مصحف في مسجد، فلا تحرِمْ نفسك هذا الأجرَ العظيم.
ألَا تحفَظُ آيةً مِن كتاب الله تعالى أو حديثًا مِن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لقد قال صلى الله عليه وسلم: (( {بلِّغوا عني ولو آيةً} ))؛ [أخرجه البخاري] .
فاجتهِدْ في نشر العلم النافع وتبليغ سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتفِعْ مِن الأجهزة الحديثة في ذلك، واعلَمْ أنك تنالُ في ذلك ثوابًا عظيمًا، ويكفيك واللهِ دعاءُ النبي صلى الله عليه وسلم لك بنَضْرة الوجه؛ ففي الحديث: (( «نضَّر اللهُ امرأً سمِع مقالتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها» )) [أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، بسند حسن] .
وقد قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22، 23].
فهنيئًا لكم يا حَمَلة العلم ودعاة الإسلام، والله لقد فزتُم إن أخلصتُم نيَّاتكم لربكم، وربِحتُم المنزلةَ والمكانة العليا في آخرتِكم، فاجتَهِدوا في تعليم الناس الخيرَ، رعاكم الله، وشمِّروا عن ساعدِ الجد، وفَّقكم الله.
3- الصدقة:
قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، وقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( «مَن تصدَّق بعدل تمرةٍ مِن كَسْبٍ طيِّب، ولا يقبَلُ الله إلا الطيِّب، وإن الله يتقبَّلُها بيمينِه، ثم يُربِّيها لصاحبه كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّه، حتى تكون مثلَ الجبل» ))؛ [ أخرجه البخاري] .
إن من أكثر الأعمال نماءً، وأعظمها أجرًا وثوابًا: الصدقةَ والإنفاق في سبيل الله تعالى، فما أربحَها والله من تجارة، تُقرِضُ الله جنيهًا واحدًا هو في غنى عنه سبحانه وتعالى، ثم يردُّه إليك آلافًا بل ملايين، قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].
فتصدَّق يا أخي بما تيسَّر لك ولو بجنيهٍ واحد، وإذا وسَّع الله عليك في الرزقِ فزِدْ في الصدقةِ؛ فإن هذه واللهِ الغايةُ التي لأجلها يجمَعُ الصالحون المال، وأما الذين يجمعون يَكنِزُونه، ولا يتصدَّقون ولا يُنفِقون؛ فإنهم مِن أَغْبَن الناس حظًّا، وأعظمهم خسارةً؛ فإنهم يجمعون ما يتمتَّع به غيرُهم، وهم عنه يوم القيامة يُسألون، فيا ليتَهم تصدَّقوا مِن أموالهم؛ إذًا والله لسعدوا وفازوا.
4- الصدقة الجارية:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( «إن مما يلحق المؤمنَ مِن عمله وحسناته بعد موته: علمًا علَّمه ونشَرَه، أو ولدًا صالحًا تركه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا كَرَاهُ، أو صدقةً أخرجها مِن ماله في صحته وحياته، تلحَقُه مِن بعد موته» ))؛ [أخرجه ابن ماجه، بسند حسن في الشواهد] .
وسبق في الحديث: (( «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا مِن ثلاثٍ: إلا من صدقة جارية» ...)).
وفي الحديث: (( «أربعٌ تجري عليهم أجورُهم بعد الموت: رجل أجرى صدقةً، فأجرُها يجري عليه ما جرت عليهم» ...)).
إن الإنسان الذكيَّ يحرِصُ على أفضلِ الأعمال، وأعظمها ثوابًا، وأجزلها عطاءً؛ فهو إذا جاء يتصدَّق، بَحَثَ عن صدقةٍ يجري عليه ثواُبها بعد موته، ولا تموت بموته أو بصرفها.
ولقد كان في تاريخنا الإسلاميِّ أوقافٌ وقفها رجال صالحون، فماتوا وبقِيَت أوقافهم ينتفع بها المسلمون أزمنة مديدة، فوالله إنَّا لَنَغْبِطُهم على ذلك، ونرجو الله أن يُوفِّقنا لمثل هذا الخير العظيم قبل وفاتنا.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أُصِبْ مالًا قط هو أنفَسُ عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: ((إن شئتَ حبستَ أصلها، وتصدقت بها))، قال: فتصدَّق بها عمر، أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير مُتموِّلٍ فيه"؛ أخرجه مسلم.
فاحرِصْ يا أخي على مثل هذا، إذا فتح الله عليك مِن واسع فضله، وزاد في رزقك، فاغتَنِمْ هذا المال في حَفْر نهرٍ، أو بناء مسجد، أو بناء بيت لمسكين، فإنك تُؤجَر على هذا وأنت في قبرك ما انتفع به الخلق مِن إنسان، بل حيوان، كما يأتي بيانه.
عن أبي عبدالرحمن السلمي، قال: لَمَّا حُصر عثمان، أشرف عليهم فوق داره، ثم قال: أُذكِّرُكم بالله، هل تعلمون أن حراء حين انتفض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اثبُتْ حراءُ، فليس عليك إلا نبيٌّ أو صدِّيق أو شهيد))؟ قالوا: نعم، قال: أذكركم بالله، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جيش العُسْرة: ((مَن يُنفِقُ نفقةً متقبَّلة؟))، والناس مجهَدون معسرون، فجهَّزت ذلك الجيش؟ قالوا: نعم، ثم قال: أذكركم بالله، هل تعلمون أن رُومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمنٍ، فابتعتها فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل؟ قالوا: اللهم، نعم، وأشياء عدَّدها؛ أخرجه الترمذي، والنسائي، بسند صحيح.
ويقال: إن هذه البئر هي أولُ سبيلٍ لسقي الماء في الإسلام، وثاني وقف خيرٍ بعد أرضِ المسجد النبوي، وقد أثمرت هذه البئرُ أشجارًا ومزارع ومباني وحدائق، بل أصبحت حيًّا كاملًا مِن أراضي أحياء المدينة المنورة، بل وصل الأمر إلى أن ما تدرُّه "مزرعة بئر عثمان" مِن أرباح تحوَّلت إلى حساب بنكي باسم عثمان بن عفان في البنوك السعودية، تحت إشراف وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، باعتبار أن البئرَ وما استجد حولها من منشآت وقفٌ أوقفه الخليفة عثمان رضي الله عنه.
5- غرس الغرس:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( «ما مِن مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة؛ إلا كان له به صدقة» ))؛ [أخرجه البخاري ومسلم] .
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «ما من مسلم يغرِسُ غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سُرِق منه له صدقة، وما أكل السَّبُع منه فهو له صدقة، وما أكلتِ الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة» ))؛ [أخرجه مسلم] .
ويُروَى عن أبي الدرداء، أن رجلًا مرَّ به وهو يغرس غرسًا بدِمَشْقَ، فقال له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا تعجل عليَّ، سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( «مَن غرَس غرسًا، لم يأكل منه آدمي، ولا خلقٌ مِن خلق الله عز وجل، إلا كان له صدقة» ))؛ [أخرجه أحمد بسند حسن، إن كان القاسم بن عبدالرحمن سمع أبا الدرداء، وهو صحيح لغيره] .
فأين أنتم يا أصحاب الأموال من هذا الخير العظيم؟
ألا تغتنمون أموالكم في طاعة ربكم، وتستثمرونها في تجارة رابحة، الربح فيها يضاعَف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
والله إنَّا لنغبِطُ رجلًا كصالح بن عبدالعزيز الراجحي على ما منَّ الله به عليه مِن الخير العظيم في هذا؛ فلقد أوقف مزرعةَ نخيلٍ، فيها مائتا ألف نخلة، يُوزَّع تمرُها على الحُجَّاج والمعتمِرين في الحرمين الشريفين، وعلى الجمعيات الخيرية، فهنيئًا له، وفي ذلك فليتنافَسِ المتنافسون.
6- الولد الصالح:
سبق في الحديث الصحيح: (( «إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عمله إلا مِن ثلاث: ... - ومنها - ولد صالح يدعو له» )).
وفي الحديث: (( «إن مما يلحق المؤمنَ مِن عمله وحسناته بعد موته: ولدًا صالحًا تركه» )).
وفي الحديث: (( «أربعٌ تجري عليهم أجورُهم بعد الموت: رجل ترك ولدًا صالحًا يدعو له» ...)).
وعن أبي سلام قال: قال أبو ذر: قال: كأنْ يعني النبي صلى الله عليه وسلم: (( «إن على كل نفس كل يوم طلَعت فيه الشمسُ صدقة منه على نفسه))؛ قلت: يا رسول الله، من أين أتصدَّق وليس لنا أموال؟ قال: ((أَوَلَيْسَ مِن أبواب الصدقة: التكبيرُ، والحمد لله، وسبحان الله، وتستغفر الله، وتأمر بالمعروف، وتنهَى عن المنكر، وتعزِلُ الشوكة عن طريق المسلمين والعَظْم والحَجَر، وتَهدي الأعمى، وتدل المُستَدِل على حاجة له قد علِمتَ مكانها، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كلُّ ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جماعِك زوجتَك أجرٌ» )).
قلت: كيف يكون لي الأجر في شهوتي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «أرأيت لو كان لك ولدٌ فأَدْرَك ورجوتَ خيره، ثم مات أكنت تحتسبه؟))، قال: نعم، قال: ((فأنت خلقتَه؟))، قال: بل اللهُ خلقه، قال: ((فأنت هديتَه؟))، قال: بل الله هداه، قال: ((فأنت كنت ترزقُه؟))، قال: بل الله رزقه، قال: ((كذلك فضَعْه في حلاله، وجنِّبه حرامه، فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجرٌ» ))؛ أخرجه أحمد بسند صحيح.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أطيبَ ما أكل الرجل مِن كسبه، وإن ولدَه مِن كسبه))؛ أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وإسنادُه ضعيفٌ، لكن له شواهد يحسُنُ بها.
إن الولد الصالح مما ينفع والده نفعًا عظيمًا بعد موته، وذلك بأمور:
أولها: بدعائه له، والميت أشدُّ ما يكون حاجةً إلى دعاء صالح، ودعاء الابن لأبيه بعد موته يرجى له الإجابة، بل لقد صحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( «إن الله عز وجل لَيَرفعُ الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك» ))؛ [أخرجه أحمد، بسند حسن] .
ثانيها: بما يعمله من أعمال صالحة يَهَبُ ثوابها لوالده بعد موته؛ فالولد الصالح يعمل عمرةً عن والده، ويتصدَّق عنه؛ كهذا الابن الصالح الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صومُ شهرٍ، أَفَأقضِيه عنها؟ فقال: ((لو كان على أمِّك دَيْن، أكنت قاضيَه عنها؟))، قال: نعم، قال: ((فدَيْنُ اللهِ أحقُّ أن يُقضَى))؛ أخرجه مسلم.
ثالثها: أن كل ما يعمَلُه الابن مِن عمل صالح يكون في ميزانِ والده، إذا كان والده مسلمًا، والله أعلم.
فاحرِصْ يا رعاك الله على تربيةِ ولدك وابنتك تربيةً صالحة، نشِّئهما على طاعة الله عز وجل.
إن كثيرًا من الآباء يحرِصون على تعليم أبنائهم ليحصُلوا على أفضل الوظائف والمناصب، ويغفُلون كثيرًا عن تعليمهم العلمَ الذي يُقرِّبُهم من الله تعالى، بل لا يُكلِّف بعضهم نفسه عناءَ سؤال ولده: يا بُنيَّ، هل صليتَ؟ هل حفِظتَ شيئًا مِن كتاب الله؟ هل قلتَ أذكار الصباح؟ فيشرد ولدُه، ويضل عن طريق الحق، ويتبع سبيل المفسدين، فيشقَى به والده في دنياه وآخرته، ويقرَع سنَّ الندم على تفريطِه في تربية ولده على حبِّ الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
7- الموت في الرباط في سبيل الله:
وعن سلمانَ رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( «رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ مِن صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عملُه الذي كان يعمَلُه، وأُجرِي عليه رزقه، وأَمِنَ الفتَّان» ))؛ [أخرجه مسلم] .
وعن فَضالةَ بنِ عُبَيد رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( «كلُّ ميت يُختَم على عمله إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه ينمو عملُه إلى يوم القيامة، ويأمن فتنةَ القبر» ))؛ [أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، بسند صحيح] .
وعن أبي أُمامة الباهلي قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( «أربعٌ تجري عليهم أجورُهم بعد الموت: رجل مات مرابطًا في سبيل الله، ورجل علَّم علمًا، فأجرُه يجري عليه ما عُمِل به، ورجلٌ أجرى صدقةً فأجرُها يجري عليه ما جرَتْ عليهم، ورجلٌ ترك ولدًا صالحًا يدعو له» ))؛ أخرجه أحمد بسند ضعيف، لكن له شواهد يصح بها إن شاء الله.
قال السيوطي رحمه الله:
إذا مات ابنُ آدمَ ليس يجري
عليه مِن فعالٍ غيرُ عشرِ
علومٌ بثَّها، ودعاءُ نجلٍ
وغرسُ النخلِ والصَّدَقاتُ تَجْري
وراثةُ مصحفٍ، ورِباطُ ثغرٍ
وحفرُ البئرِ، أو إجراءُ نهرِ
وبيتٌ للغريبِ بناه يأوي
إليه، أو بناه محلَّ ذكرِ
وتعليمٌ لقرآنٍ كريمٍ
فخُذْها مِن أحاديثٍ بحصرِ
فتأمَّل يا أخي هذه الأعمال، واحرص على أن يكون لك منها الحظ الوافر والنصيب الأكبر، وسارِعْ إليها قبل انقضاء الأعمار، وانصرام الآجال.
مَن مات فقد انقطع عن دارِ العمل، وانتقل إلى دار الجزاء والحساب، فالحياةُ فرصةٌ عظيمة للأحياء ليعمَلوا الصالحات، ويتزوَّدوا مِن الطاعات، ويستغفروا من السيئات، نسأل الله أن يوفقنا لاغتنامِ أيامنا في طاعته ورضاه.
- التصنيف: