حياة في معمل الكتابة!
أما بلديّها أورهان باموق فيرى في الكتابة طريقًا نحو السّعادة، ويلفت النّظر إلى قيمة الحبكة مهما كان النّص
تضطرم العواطف، وتزدحم الأفكار، في قلوب وعقول كثير من الشّبان والفتيات، ويتكرر منهم سؤال ملح عن كيفيّة الكتابة، واستدعاء إلهامها، وإبقاء جذوتها حيّة في النّفوس، ومع أهميّة التّجارب والمغامرات الشّخصيّة، إلا أنّ الإفادة من مسيرة الكتّاب مسلك لا تخفى آثاره دون تقيّد بها.
فالكاتب إدواردو غاليانو يعلي من شأن قوّة القصّة التي تصنع الخيال، بينما تؤكد الكاتبة إليف شافاك على أهميّة قوّة الملاحظة، وضرورة القراءة التي تنقذ صاحبها، وتحسّن حياته وتفكيره، وتدعو لتدوين الشّعور وكتابة الأفكار مباشرة، حتى يتمكن الكاتب من عبور الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، وتجزم أنّ كلّ شيء متاح للتّفسير، ومهمّة لكاتب أن يصنع جسرًا ممدودًا بين مكوّنات مخزونه؛ ليمشي على هذا الجسر جيئة وذهابًا، ولا يقطع الصّلة بالثّقافة مكتوبها، ومحكيّها.
أما بلديّها أورهان باموق فيرى في الكتابة طريقًا نحو السّعادة، ويلفت النّظر إلى قيمة الحبكة مهما كان النّص، ويربط بين جمال المكان والذّكريات، هذه الذّكريات التي تصفها إيزابيل الليندي بأنّها المواد الخام لنتاجها، ولولاها لما استطاعت أن تخط حرفًا، وعليه فذكريات الكاتب منجم لا يهمل ولا يسترخص، والكاتب فيما تعتقد يعاني أوّلًا وأخيرًا من حاجته غير المتحكم فيها إلى سرد القصّة المختزنة في ذاكرته، ولا شيء أكثر من ذلك!
وتصف الليندي صنيع الكتّاب بأنّه مثل من يأخذ شيئًا واقعيًا، ثمّ يحولّه إلى منتج جديد جميل، فسرّ الكتابة يكمن في العثور على الكنز المخفي، وإعطاء الأحداث البالية بريقًا، وإنعاش الرّوح المتعبة بالخيال، وإيجاد حقيقة معينة من افتراضات كثيرة، ويتأتى للكاتب ذلك من لغته وأسلوبه، وهما خاصّان له مثل دمائه التي لا يشاركه أحد فيها.
وتعيد إيزابيل القول بأنّ أحداث الحياة للكاتب مثل الأستاذ، والملهم، وأنّ الوجع والفقد يمنحان خبرة إضافيّة، بينما يساعد الحب على التّحمل، ويمنح السّرور والبهجة، وأمّا خير ما يجعل الكاتب منجزًا ومبدعًا فهو الانضباط في البدء، والتّعامل مع الوقت باحترافيّة، ويظلّ حب الّلغة والقصص على قمّة الضّرورات لديها.
وتقول الكاتبة بأنّ الأدب منقذ من الإحباط، وبه تسكن لواعج النّفوس، وأنّ الكتابة تبقي على نشاط عقل صاحبها وسلامته، والكتابة عندها عمليّة مثيرة، ولذيذة، وتشعر الكاتب بالشّباب، والقوّة، والحيويّة. وتعتبر التّرحال المستمر من ضرائب الكتابة، فالكاتب حاج متجول خاصّة إذا كان يكتب عن مكان، أو حدث، أو فئة من البشر.
كما تحذر الكاتب من الجفاف الدّاخلي، وتراه أمرًا مرعبًا، وتنصح باستدعاء ما يزيل هذا الجفاف بالقراءة، والاستماع، والتّفكير، والسّفر، وتوصي الرّوائي بالاقتباس من نسيج الحياة وشخوصها، والاهتمام بمواد كتابته الخام، والصّبر على ما تطلبه الكتابة من شغف، وجلد، وإخلاص، والتزام تام، وتهمس في أذن الكاتب ألّا يشرع في التّدوين خلال العاصفة بل بعد هدوئها، ولو كتب مع الهبوب فالتّنقيح علاج ناجع.
ويحمل الأدب المنفى بداخله، وهذه العزلة الاختياريّة قرار طوعي للكاتب كما يقول روبرتو بولانيو، ويرى من خصائص الكاتب أنّه يعمل أينما كان داخل البلد وخارجها، وفي أجواء الحريّة أو خلف القضبان أجارنا الله وإياكم، ويجعل كازو إيشيغورو الأولويّة للأفكار أن تنمو وتطفو حتى لو كانت بشعة؛ فللتّصحيح وقته، ومن الكياسة تحديد وقت بداية الكتابة دونما تبكير فج، أو تأخير قاتل.
وينصح الياباني هاروكي موراكامي الكاتب بأن يوجد لنفسه الفرصة لمقابلة أنواع النّاس، وأن يسكب الفكر والمشاعر بحريّة قدر المستطاع؛ حتى يبلغ الكاتب مرتبة صنع أسلوبه الخاص، ولغته الكتابيّة التي تمتاز بوضوح خالص، وتعبير عن صوته الطّبيعي، دون إثقالها بحمولة لغوية يمكن الخلاص منها دون إضرار بالّلغة، وأخيرًا فثلاثيّة الإنجاز لدى يان مارتل هي التّأثر، والإلهام، والعمل الجاد مع الاستمتاع به.
التقطت هذه الأفكار من هواية حسنة نجم عنها هذا المجموع المطبوع في كتاب عنوانه: حياة الكتابة: مقالات مترجمة عن الكتابة، إعداد وترجمة عبدالله الزماي، صدرت الطّبعة الأولى منه عام 2018م عن دار مسكيلياني للنّشر والتّوزيع بتونس، وعدد صفحاته (128) صفحة من القطع المتوسط، ولم يثقله المترجم بمقدّمة، وجعل الإهداء إلى عايض الظّفيري، ويحوي الكتاب تجارب تسعة من كتّاب الرّواية في مختلف بلدان العالم، حيث فتحوا للقرّاء الباب ليشاركوهم طقوس الكتابة، وكيمياء السّحر، كما أشار بلال المسعودي في كلمته القصيرة على الغلاف الأخير.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
- التصنيف:
- المصدر: