إيضاح قول الجويني في مسألة عدد أهل الاختيار  في عقد الإمامة

منذ 2018-12-11

ومن عادة المُتكلِّمين أنهم يُقرِّرُون القولَ بوجوب الإمامة وجوبًا شرعيًّا، ويُبطِلون قولَ من أوجبها بالعقل

محمد براء ياسين

من الاعتراضات العصريَّةِ الشهيرة على التراث الإسلامي في باب الإمامة: عدم إعطائه مسألةَ الشورى حقَّهَا من تأصيل القواعد وبيان الآليات التي تتيح تفعيل الشورى في نظام الحكم.

ويقولون: إن تراث المسلمين في باب الإمامة يُنظِّر للاستبداد.

وفي هذا السياق: يضرب هؤلاء المعترضون قول إمام الحرمين أبي المعالي الجويني رحمه الله تعالى (ت:478) في الاكتفاء برجلٍ واحدٍ في عقد الإمامة؛ يضربونه مثالًا على تكريس التراث الفقهي للاستبداد وسلبِ الأمة حقَّها في اختيار من يحكمها ويلي أمرها، ويصِفُونَه بأنَّهُ «استخفافٌ بعُقُول المُسلِمين»([1]).

فما حقيقةُ قولِ الجويني (ت:478)؟ وما أصلُه؟

من المعلوم لدى الدارسين لكتب الاعتقاد أن بابَ الإمامة هو أحد الأبواب الأصليَّة فيها، إذ لما كان مقصود علم الاعتقاد تقرير العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، وكان لطوائف المبتدعة من الخوارج والشيعة مخالفات في هذه المسألة= احتاجَ العلماء أن يُفرِدوا بابًا لتحقيق ذلك المقصود في هذه المسألة.

وقد صنَّف الجويني (ت:478) كتاب «النِّظَامي» أو «العقيدة النظامية» وضمَّنَه أبواب الاعتقاد عدا باب الإمامة، ثُمَّ أتبَعَه بكتاب «الغياثي» أو «غياثِ الأمم في التِيَاث الظُّلَم» وجعلَه خاصًّا بباب الإمامة، وبحث فيه بعض المسائل الجديدة التي احتِيج إليها في وقته، مثل مسألة الوظائف السلطانية المرصودة للجهاد([2])، وشغور الزمان عن الأئمة، وكلا الكتابين صنفهما للوزير السلجوقي نظام الملك (ت:485) رحمه الله تعالى.

ومن عادة المُتكلِّمين أنهم يُقرِّرُون القولَ بوجوب الإمامة وجوبًا شرعيًّا، ويُبطِلون قولَ من أوجبها بالعقل، ثم يحصُرون مسالكَ إثباتها في النصِّ والاختيار، ثم يُبطِلون القولَ بالنصِّ، فينحصر طريقُ إثباتها في الاختيار، فيحتاجون إلى الكلام عن أهل الاختيار وعدَدِهم.

وقد ذكر إمام الحرمين (ت:478) وظيفة أهل الاختيار، وحاصل ذلك: النظرُ في من يستحقُّ الإمامة، ثم تعيينُ واحدٍ من الذين اجتمعت فيهم الصفات المشروطة شرعًا في الإمام حتى يعقدوا له عقد الإمامة، وخلع الإمام إذا استحق الخلع.

وهذا ينبغي التَّفطُّن لهُ، إذ قد يُتوَهَّم أن أهل الاختيار - أو أهل الحل والعقد - الذين يتحدَّث عنهم الجويني (ت:478) وغيرُه تقوم وظيفتهم في النظام الإسلامي مقام السلطة التشريعية في الدولة الحديثة، وهذا غلطٌ جليٌّ، بل قد قرر الجويني (ت:478) أنَّ أهل الاختيار يُمكِن الاستغناء عنهم في العقد عندما ينفرد في الزمان مُتأهِّل للإمامة، مُستجمِع لشروطها، ذو شوكة يحصل بها مقصود الإمامة.

ثم ذكر الجويني (ت:478) صفات أهل الاختيار: كالذكورة، والحرية، والعلم، وخلافًا في اشتراط الاجتهاد، ومن أهم الصفات التي ذكرها: أن «يستعقِبَ عقدُه منعةً وشوكة للإمام المعقود له، بحيث لا يبعد من الإمام أن يصادِمَ بها من نابذَهُ وناواه، ويقارع من خالفه وعاداه».

وهذه الصفةُ حاصلةٌ في الإمامة القهرية كما هو معلوم، لكنها مشروطةٌ أيضًا في الإمامَة الاختيارية - التي يعقدها أهل الاختيار -؛ يشترط فيهم أن يكون وراءهم من الشوكة والعدة ما يحصُل به مقصود الإمامة من إقامة الدين وسياسة الدنيا به، وإلا لم تكن إمامةً.

ولما جاء الجويني (ت:478) إلى ذكر عدد أهل الاختيار قال: «وأقرب المذاهب ما ارتضاه القاضي أبو بكر (ابن الطيب)، وهو المنقول عن شيخنا أبي الحسن (الأشعري) رضي الله عنهما، وهو أن الإمامة تثبت بمبايعة رجل واحد من أهل العقد.

ووجه هذا المذهب: أنَّه تقرَّر أن الإجماع ليس شرطًا في عقد الإمامة، ثم لم يثبت توقيفٌ في عددٍ مخصوص، والعقودُ في الشرع مولاها عاقد واحد، وإذا تعدَّى المُتعدِّي الواحد فليس عددٌ أولى من عدد، ولا وجه للتحكم في إثبات عددٍ مخصوص، فإذا لم يقم دليلٌ على عدد لم يثبت العدد، وقد تحققنا أنَّ الإجماع ليس شرطًا، فانتفى الإجماع بالإجماع، وبطل العدد بانعدام الدليل عليه، فلزم المصير إلى الاكتفاء بعقد الواحد»([3]).

فهذا القول في عدد أهل الاختيار هو قول أئمة الأشعرية، وقد نصب القاضي أبو يعلى الحنبلي رحمه الله تعالى (ت:458) الخلاف معهم فيه في كتاب «المعتمد في أصول الدين»([4])، واختارَ أنه لا بد من اتفاق أهل الحل والعقد جميعًا، واستدلَّ عليهم بأن الله أمرنا بلزوم الجماعة، وهذا لا يصدق على الواحد، وبحديث: «إن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد».

وبصرف النظر عن التَّرجيح بين ما اختاره أبو يعلى (ت:458) ونحوه وبين قول الأشعرية، فهو خلافٌ من جنس الخلافات الفقهية، وليس قولًا مبتدَعًا عجيبًا، بل هم يستدلُّون له بصنيع الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (ت:728) هذه المسألة في «منهاج السنة»([5]) فقال ردًا لقول الرافضي: «إنهم يقولون: إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم  أبو بكر، بمبايعة عمر، برضا أربعة»: «ليس هذا قول أئمة أهل السنة، وإن كان بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أئمة السنة.

بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشوكة عليها، الذين يحصُلُ بطاعتِهم له مقصودُ الإمامة، فإنَّ المقصودَ من الإمامةِ إنَّما يحصلُ بالقدرة والسلطان، فإذا بُويع بيعةً حصلتْ بها القدرة والسلطان صار إمامًا.

ولهذا قال أئمة السلف: من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية، فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ما لم يأمُرُوا بمعصية الله، فالإمامة مُلكٌ وسُلطان، والملِكُ لا يصير ملكًا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقَةَ غيرِهم بحيث يصير مَلِكًا بذلك».

وبالمقارنة بين هذا النصِّ لابن تيمية (ت:728) وما تقدم شرحه من مذهب الجويني (ت:458): يتبيَّنَ أن هذا الاستثناء الذي ذكره ابن تيمية (ت:728) في آخر كلامه: «إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكًا بذلك»= يقارب قول الجويني في شرط الواحد العاقد أن: «يستعقِبَ عقدُه منعةً وشوكة للإمام المعقود له، بحيث لا يبعد من الإمام أن يصادِمَ بها من نابذَهُ وناواه، ويقارع من خالفه وعاداه».

والمعتمدُ عند الشافعية، وهو ما صحَّحَه الإمامان الرافعيُّ (ت:623) والنوويُّ (ت:676) أنَّ «المُعتَبَر بيعةُ أهل الحلِّ والعقد من العُلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذين يتيسَّرُ حضورهم، ولا يُشترط اتفاقُ أهل الحل والعقد في سائر البلاد والأصقاع، بل إذا وصلهم خبر أهل البلاد البعيدة، لزمهم الموافقةُ والمتابعةُ، وعلى هذا لا يتعيَّنُ للاعتبار عددٌ، بل لا يعتبر العدد، حتى لو تعلَّقَ الحلُّ والعقدُ بواحدٍ مُطاعٍ، كفتْ بيعتُه لانعقاد الإمامة»([6]).

وقد استدلَّ الأشعرية لمذهبهم بسنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، قال أبو بكر ابن فورك (ت:406): «وكان أبو الحسن الأشعري يقول في عدد المُختارِين: أن ليس لذلك حدٌّ في العدد لا يُزاد فيه ولا ينقص منه، بل يجب أن يكونوا ممن يصلحون لذلك إذا كانوا جماعة، وأقلُّهم واحد، وكان يستشهد على ذلك بعقد أبي بكر لعمر، وإجماع الأمة عليه، وتركهم النكير عليه في تفرُّدِه بالاختيار والعقد له»([7]).

وقال أبو الحسن الآمدي (ت:631): «وإذا ثبت ما قررناه إلى هنا وجوبُ ثبوت الإمامة بالاختيار دون التنصيص؛ فذلك مما لا يفتقر إلى الإجماع من كُلِّ أهل الحل والعقد، فإنَّه مِمَّا لم يقُم عليه دليلٌ عقليٌّ ولا سمعٌ نقليٌّ، بل الواحد أو الاثنين من أهل الحل والعقد كافٍ في ذلك، ووجوب الطاعة والانقياد للإمام المختار، وذلك لعلمنا بأنَّ السلف والصحابة رضوان الله عليهم مع ما كانوا عليه من الصلابة في الدين والمحافظة على أمور الدين؛ اكتفوا في عقد الإمامة بالواحد والاثنين من أهل والعقد، كعقد عمر لأبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا إجماع من  في المدينة من أهل الحل والعقد، فضلًا عن إجماع من عداهم من أهل الأمصار، وعلماء الأقطار، وكانوا على ذلك مُتَّفقين، وله مجوزين من غير مخالف ولا نكير، وعلى هذا انطَوتِ الأعصارُ في عقد الإمامة إلى يومنا هذا»([8]).

ولا يخفى أنَّ عقدَ عمرَ لأبي بكر رضي الله عنهما تحصّل فيهما الشرطُ الذي ذكره الجويني وهو أن «يستعقِبَ عقده منعة وشوكة للإمامِ المعقودِ له»، وفي تقرير هذا المعنى يقول الجويني (ت: 478): «الذي أراه أن أبا بكر لما بايعَهُ عمرُ لو ثار ثائرون، وأبدَوا صفحة الخلاف، ولم يرضَوا تلك البيعة، لما كنتُ أجدُ مُتعلقًا في أن الإمامة كانت تستقلُّ ببيعة واحد، وكذلك لو فُرضت بيعةُ اثنين أو أربعة فصاعدًا، وقدرت ثوران مخالفين، لما وجدت متمسكًا به اكتراث واحتفال، في قاعدة الإمامة.

ولكن لما بايعَ عمرُ تتابعتِ الأيدي، واصطفقتِ الأكفُّ، واتَّسعتِ الطاعة، وانقادتِ الجماعة.

فالوجه عندي في ذلك أن يُعتبر في البيعة حصولُ مبلغٍ من الأتباعِ والأنصارِ والأشياعِ تحصلُ بهم شوكةٌ ظاهرة، ومنعةٌ قاهرة، بحيث لو فُرِض ثورانُ خلاف لما غلب على الظن أن يُصطَلَمَ أتباعُ الإمام، فإذا تأكَّدَتِ البيعة، وتأطَّدَت بالشوكة والعَدد والعُدد، واعتضدت وتأيَّدَت بالمُنَّة، واستظهرت بأسباب الاستيلاء والاستعلاء، فإذ ذاك تثبت الإمامة وتستقر، وتتأكد الولاية وتستمر.

ولما بايع عمرُ مالت النفوس إلى المطابقة والموافقة، ولم يُبدِ أحدٌ شراسًا وشماسًا، وتظافرُوا على بذل الطاعة على حسب الاستطاعة، ويتعيَّنُ اعتبار ما ذكرته بأني سأوضح في بعض الأبواب الآتية أن الشوكة لا بد من رعايتها. ومما يؤكد ذلك اتِّفاقُ العلماء قاطبة، على أن رجلًا من أهل الحل والعقد، لو استخلى بمن صلح للإمامة، وعقد له البيعة لم تثبت الإمامة. وسببُ تعلُّقي بذلك أن مثل هذا لو قُدِّر لم تستتب منه شوكة، ولم تثبت به سلطنة، فلئن كُنَّا نتَّبِع ما جرى، فقد كانتِ البيعة على هذه القضية التي وصفتُها، وظهر اعتبار حصول الشوكة; فليتبع ذلك»([9])

 ويقول أبو حامد الغزالي (ت:505): «والذي نختارُه أنه يُكتفى بشخصٍ واحد يعقدُ البيعةَ للإمام، مهما كان ذلك الواحد مُطاعًا ذا شوكةٍ لا تطال، ومهما كان مال إلى جانب مال بسببه الجماهير، ولم يخالفه إلا من لا يكتَرثُ بمُخالفته، فالشخصُ الواحدُ المتبوعُ المُطاعُ الموصوفُ بهذه الصفة اذا بايع كفى، إذ في موافقتِه موافقةُ الجماهير، فإن لم يحصل هذا الغرض إلا لشخصين أو ثلاثة فلا بُدَّ من اتِّفاقهم، وليس المقصود أعيان المبايعين، وإنما الغرض قيام شوكة الإمام بالأتباع والأشياع، وذلك يحصل بكل مُستولٍ مطاع.

ونحن نقول: لما بايع عمرُ أبا بكر رضي الله عنهما انعقدتِ الإمامة له بمُجرَّدِ بيعته، ولكن لتتابع الأيدي الى البيعة بسبب مُبادرته، ولو لم يبايعه غير عُمَرَ وبقي كافة الخلق مخالفين، أو انقسموا انقسامًا متكافئًا لا يتميز فيه غالبٌ عن مغلوب لما انعقدتِ الإمامة، فإنَّ شرطَ ابتداء الانعقاد قيامُ الشوكة، وانصرافُ القلوب إلى المُشايعة، ومُطابقة البواطن والظواهر على المبايعة، فإن المقصود الذي طلبنا له الإمام جمعُ شتاتِ الآراء في مصطدم تعارض الأهواء، ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة على متابعة رأيٍ واحد إلا إذا ظهرتْ شوكتُه وعظُمَتْ نجدتُه، وترسَّخَت في النفوس رهبتُه ومهابتُه، ومدارُ جميع ذلك على الشوكة، ولا تقومُ الشوكة إلا بمُوافقة الأكثرين من مُعتَبَرِي كُلِّ زمان»([10]).

ويقول ابن تيمية في بيعة أبي بكر بعد كلامه المتقدّم: «ولو قُدِّرَ أنَّ عُمَر وطائفةً معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إمامًا بذلك، وإنما صار إمامًا بمُبَايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة.

ولهذا لم يضر تخلُّف سعدِ بن عبادة؛ لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية، فإنَّ المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالحُ الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك»([11]).

فإذا تبين هذا؛ فما هي الاتجاهات العصريَّةُ التي تتعجَّبُ من قَولِ الجُويني (ت:478) في هذه المسألة، ويُشنِّعُون عليه بسببِ قوله هذا؟

والجواب: هما اتجاهان:

الاتجاه الأول: الاتجاه التنويري، وهؤلاء خلافهم مع الجويني (ت:478) بل مع أئمة المسلمين ليس في هذه المسألة فحسب، وإنما في غايةِ النظام السياسي، فالواجب البحث في ذلك أولًا، وشرح هذا: أنَّهُم لا يَرون الغايةَ من النظام السياسي سياسةَ الدنيا بالدين، كما يراها علماء المسلمين، وإنما هو نظام يتَّجِهُ نحو تحقيق الغايات والمصالح واللذائذ المادِّيَّة الليبرالية.

وقد تفرَّعَ عن هذا الخلاف خلافٌ في الصفات المشترطة في الإمام، وذلك أن العلماء قرَّرُوا أن «الشُّروط التي تُدَّعى للإمامة شرعًا لا بُدَّ من دليلٍ يدلُّ عليها، والدليل إما نصٌّ من صاحب الشرع وإما النّظرُ في المصلحة التي طُلبت الإمامة لها»([12])، وأنَّهُ «لم يرد النص من شرائط الإمامة في شيء إلا في النسب، فأما ما عداه فإنما أخذ من الضرورة والحاجة الماسة في مقصود الإمامة إليها»([13]).

ولما كانت المصلحة التي تُطلَبُ الإمامةُ لها لدى علماء المسلمين مغايرةً للمصلحة التي تُطلبُ لها الإمامة لدى أصحاب هذا الاتجاه، نجدُ علماء المسلمين يُقرِّرون أنَّ «عصام شرائط الإمامة: صحة العقيدة وسلامة الدين»([14])، بينما نجد هؤلاء يجيزون أن يتصدر لإمامة المسلمين من ليس على دينهم([15])! وقولهم هذا أجدر أن يُتَعجَّبَ منه.

ومن فروع هذا الخلاف في الغايات: ما نحن بصدده هنا، إذ مَنَع هؤلاء تعيين حاكم دون موافقة الأغلبية من الناس، لأن هذا مصادمٌ لقيمة الحرية التي هي أولى القيم بالرعاية لديهم، ومناقضٌ لجوهر الديمقراطية التي يدعون إليها.

والاتجاه الثاني: بعضُ الباحثين في السياسة الشرعية من الإسلاميين، وهؤلاء يشترطون موافقة الأغلبية في اختيار الحاكم، ولذا يتعجَّبُون ممن يرى انعقادَها بعددٍ قليل من الشعب فضلًا عن أن يكون رجُلا واحدًا، مع أنَّ قاعدتهم بجعل رأي الأغلبيةِ مُلزمًا للإمام، لو تأمَّلُوا فيها لوجدُوها أجدرَ بأن يُتعجَّبَ منها، ذلك أنهم يجعلون مجال الأخذ برأي الأغلبية مسائلَ الرأي والاجتهاد، ثم إنهم يقررون أن هذه المسألة نفسها، أعني الأخذ برأي الأغلبية، مسألةً اجتهاديَّةً، فهي إذًا تدخل في ذلك المجال المذكور. وإذا علمت أنهم أيضاً يُقرِّرُون أن جمهور السلف على أن الأخذ برأي الأغلبية ليس مُلزِمًا([16])، فإعمال قاعدتهم هنا يقتضي أن لا يُؤخذَ برأي الأغلبية، لأن الأغلبية هنا - جمهور السلف - لا يقولون إن رأي الأغلبية ملزمٌ! فهي إذًا قاعدة تعود على نفسها بالإبطال!

ومن تناقضاتهم: أنَّهم يتمَسَّكُون بآخرِ كلام الغزالي آنف الذكر وهو قوله: «ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من مُعتَبَرِي كُلِّ زمان»، ويتركون أوله وهو قوله: «والذي نختارُه أنه يُكتفى بشخصٍ واحد يعقدُ البيعةَ للإمام»([17]).

وتمسُّكُهم باعتبار «الأكثرية» في انعقاد البيعة في آخر كلام الغزالي، هو كتمسُّكِهم باعتبار «الجمهور» في انعقاد البيعة في كلام ابن تيمية آنف الذكر، والفرق بين قاعدتهم في اشتراط رضا أغلبية الشعب في انعقاد البيعة وبين كَلامَي الغزالي وابن تيمية اللذين يتمسكون بهما من وجهين:

الوجه الأول: أن الأكثريَّةَ في قول هؤلاء بالنسبة للشعب، وفي قول الغزالي وابن تيمية بالنسبة للمُعتَبَرين، الذين تحصل بهم الشوكة والقدرة، وهؤلاء لا يلزم أن يكونوا أكثرية الشعب. أي أن كلامي الغزالي وابن تيمية ليسا في ما يسمونه الشورى العامة للأمة.

الوجه الثاني: أن وصف الكثرةِ في قول هؤلاء مُعتَبَرٌ في شرعية الإمام، فلو حصل رأس الدولة عندهم على أصوات أغلبية الشعب كانت رئاسته ثابتة ولو بلا شوكة ولا قدرة، وهو عند الغزالي وابن تيمية مُعتَبَرٌ في تحقُّقِ الشوكةِ والقدرة التي هي شرطٌ لحصول مقاصد الإمامة.

 

 

([1]) «الفقه اللاهب» لمحمد أحمد الراشد (ص45).

([2]) انظر «جامع المسائل» لابن تيمية  (5/395-396)؛ حيث أشار ابن تيمية إلى تقرير الجويني في هذه المسألة في رسالته «قاعدة في الأموال السلطانية».

([3]) «الغياثي» (ص249-250)، ونقله ابن الرفعة في «كفاية النبيه» (18/12).

([4]) (ص239).

([5]) (1 / 526 -527).

([6]) انظر «شرح الوجيز» للرافعي (11/73)، و«روضة الطالبين» للنووي (10/43)، و«أسنى المطالب» للشيخ زكريا (4/109).

وعبارة «المنهاج» وشرحه: «(والأصح) أن المُعتبرَ، هو (بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم) حالةَ البيعة، بأن لم يكن فيه كُلفةٌ عرفًا فيما يظهر، لأن الأمر ينتظمُ بهم ويتبعُهُم سائرُ الناس، ويكفي بيعةُ واحدٍ انحصرَ الحلُّ والعقدُ فيه». «تحفة المحتاج» (9/76).

ومن كتب السياسة الشرعية التي صنَّفَها الشافعية وقرَّرُوا فيها هذا القول: «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» لابن جماعة. انظره (ص256-257). 

  وبتتبع أصل هذا القول في مذهب الشافعية: يتبين أن ما ذكره الرافعي مُفرَّعٌ على قول ذكره القاضي حُسين في تعليقته على «مختصر المزني» وصححه البغوي. انظر «التهذيب» للبغوي (7/273)، و«كفاية النبيه» لابن الرفعة (18/10).  

([7]) «مقالات الأشعري» (ص191).

([8]) «أبكار الأفكار» (5/188)

([9]) «الغياثي» (ص250-251). ونقله ابن الرفعة في «كفاية النبيه» (18/12).

([10]) «المستظهري» (ص175-176).

([11]) «منهاج السنة» (1/530).

([12]) «المستظهري» (ص191).

([13]) «المستظهري» (ص191).

([14]) «المستظهري» (ص172).

([15]) مقال «الفقه الامبراطوري والدولة العقارية المعاصرة» لمحمد المختار الشنقيطي ضمن «مجلة التشريع الإسلامي والأخلاق» ربيع /2014م (ص120).

([16]) «حكم الشورى في الإسلام ونتيجتها» لمحمد عبد القادر أبو فارس (ص89).

([17]) قارن بين  (ص56) و (ص101) من «قضية الأغلبية من الوجهة الشرعية» لأحمد الريسوني.

  • 8
  • 2
  • 7,789

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً