مسائل وأحكام في تربية الأيتام: المقال الأول

منذ 2019-02-04

والكفالة الحقة لليتيم ليست فى بعض المال الذى يلقى إليه ، ولا فى بعض الطعام الذى يأكله ، أو اللباس الذى يلبسه ، إنما الكفالة الحقة هى الرعاية الكاملة المتكاملة لهذا اليتيم

اليتيم لغة : هو الانفراد ، أو الفرد من كل شيء ، قال ابن السكيت : اليتم في الناس من قبل الأب ، في البهائم من قبل الأم ، ولا يقال لمن فقد الأم من الناس يتيم ، ولكن منقطع . قال ابن بري : اليتيم الذي يموت أبوه ، واللطيم الذي يموت أبواه ، قال المفضل : أصل اليتم الغفلة ، وبه سمي اليتيم يتيما لأنه يُتغافل عن بره ، وقال أبو عمرو : اليتم الإبطاء ، ومنه أخذ اليتيم ، لأنه البر يبطئ عنه .

أما تعريف اليتيم اصطلاحا ، هو الصغير الذي فقد أباه وهو دون سن البلوغ . وعرفه ابن تيمية بأنه : "هو الصغير الذي فقد أباه" .ويقول النسفي: "اليتيم هو من لا أب له ولم يبلغ الحلم " ، روى أبو داوود فى سننه والطبرانى فى الأوسط والصغير ، والبيهقى فى السنن الكبرى عن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" « لا يتم بعد احتلام ، ولا صُمات يوم إلى الليل» " ، وعند بعضهم زيادة صححها الألبانى ـ رحمه الله فى إرواء الغليل " ... ولا طلاق إلا من بعد نكاح ، ولا عتاق إلا من بعد ملك ، ولا وفاء لنذر في معصية ، ولا وصال في الصيام " ، ومن خلال ما سبق من توضيح يتبين لنا أن اليتم صفة تلزم الطفل الذي فقد أباه سواء كان ذكرا أو أنثى .

وقد يُطلق على اليتيم بعد بلوغه لفظ يتيم وهو إطلاق مجازي ، وليس بإطلاق حقيقي ,وذلك باعتبار ما كان , كما كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم - وهو كبير - يتيم أبي طالب, لأنه رباه بعد موت أبيه .

وجاء ذكر اليتيم فى آيات القرآن الكريم في اثنين وعشرين آية , ذُكِرت فيها كلمة (يتيم ) بالإفراد ثماني مرات , وبالتثنية مرة واحدة , وبالجمع (يتامى) أربع عشرة مرة , إن دل ذلك على شىء إنما يدل على اهتمام الشريعة السمحاء بهذا اليتيم ، وتعويضه حنانا ورحمة بدلا من التى افتقدها بموت الوالد ، كذلك تؤكد على حقوق اليتيم المتعددة والمتنوعة من الناحية النفسية والمالية والاجتماعية .

والإٌحسان إلى اليتيم مؤكد عليه فى كل الشرائع ، فهى مسألة إنسانية بالدرجة الأولى ، قال الله تعالى : " {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } " { البقرة : 83 } ، " وفي مشهد آخر من المشاهد التي نرى فيها رعاية اليتيم واضحة عبر الشرائع السابقة نجد القرآن الكريم يتعرض لقصة موسى والخضر عليهما السلام حيث وجدا في سفرهما « {جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَه} »{الكهف:77} وأصلحه الخضر بدون أجر يأخذه على ذلك العمل .ويكشف القرآن سبب ذلك الإكرام في قول الخضر لموسى: " {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} " {الكهف:82 } ، وهكذا كان صلاح الآباء سببًا في حفظ حقوق الذرية ورعاية ما أودع لهما من كنز مالي ، أو علمي على اختلافٍ في التفسير في بيان نوعية الكنز "

وفى قصة كفالة مريم عليها السلام من قبل زكريا عليه السلام ما يؤكد اهتمام المجتمع بكفالة اليتيم ورعايته والتسابق والمسارعة من أجل الفوز عظيم الجر وجزيل الثواب ، قال الله تعالى :" {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } " { آل عمران : 44 } ، قال الإمام الطبرى ـ رحمه الله ـ :" وكفلها الله زكريا ، أى ، ضمها إليه ، لأن زكريا عليه السلام ضمها إليه بإيجاب الله تعالى له ، ضمها إليه بالقرعة التى أخرجها الله له ، والآية التى أظهرها لخصومه فيها فجعله أولى بها منهم ، إذ قرع فيها من شاحه ( نافسه ) فيها ، وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه فى مريم تنازعوا فيها أيهم تكون عنده ، وتساهموا بقداحهم ، ورموا بها فى نهر الأردن ، فقال بعض أهل العلم : وثب قدح زكريا أى : انتصب وثبت فى الماء ، فلم يجر به الماء ، وجرى بقداح الآخرين ، فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحق المتنازعين فيها " .

واهتمت السنة النبوية المطهرة أيضا باليتيم رحمة وتربية ورعاية وحفظا لحقوقه وترغيبا فى تكريمه وترهيبا من ظلمه والإساءة إليه ، فقد روى البخارى فى صحيحه عن سهل بن سعد الساعدى " أَنَا وَكافِلُ اليَتِيْمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُما" ، وروى الطبرانى وأحمد وصححه الألبانى عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه فقال صلى الله عليه وسلم : " أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك » " .

والكفالة الحقة لليتيم ليست فى بعض المال الذى يلقى إليه ، ولا فى بعض الطعام الذى يأكله ، أو اللباس الذى يلبسه ، إنما الكفالة الحقة هى الرعاية الكاملة المتكاملة لهذا اليتيم ، حيث يربى على كل خلق كريم ، ويوجه لما فيه مصلحته دنيا وأخرى ، ويكون تحت أعين الكافلين له ليل نهار ، وإذا أردت أن تتأكد من قولنا هذا لاحظ بدقة وتدبر قول الله تعالى عن كفالة زكريا لمريم عليهما السلام :" { كلما دخل عليها زكريا المحراب} " { آل عمران : 37 } ، فكلمة ( كلما ) تدخل على الفعل

الماضى وتدل على التكرار ، أى أن زكريا عليه السلام يكرر بين الحين والحين دخوله على مريم ، ومراقبته لها ، فهو لا يغفل عنها لأنه يعرف عظم المسئولية عن هذه البنت اليتيمة .

كمال عبد المنعم خليل

  • 10
  • 1
  • 12,714

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً