مسائل وأحكام في تربية الأيتام:المقال الثالث
ومن المسائل الهامة المتعلقة بمال اليتيم أن يخرج الولى الزكاة إذا وجبت فى مال اليتيم ، وهذا راجح عند جمهور الفقهاء
وتأتى هنا مسألة فى غاية الأهمية وهى الأكل من مال اليتيم من قبل القائم عليه ، وهو ( أى ولى أمر اليتيم ) بين حالين إما ان يكون غنيا وإما أن يكون فقيرا ، وقد بين القرآن كيف يكون التصرف منه على أية حالة ، قال الله تعالى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} " { النساء : 6 }، نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجاً أن يأكل منه ، عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في والي اليتيم " ومن كان غنيّاً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف "
بقدر قيامه عليه ، قال الفقهاء : له أن يأكل من أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر حاجته ، واختلفوا هل يرد إذا أيسر ؟ على قولين : أحدهما : لا ؛ لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيراً ، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي ؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل ، والثاني : نعم ؛ لأن مال اليتيم على الحظر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة . روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما عن أبى سعيد الخدرى ـ رضى الله عنه ـ إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ : " « مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ » " لتعلم أن الطريق إلى قضاء دينك هو الاستعفاف والاستغناء والصبر .قال المباركفوري :( ومن يستغن ) أي : يظهر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس ، والتعفف عن السؤال حتى يحسبه الجاهل غنيا من التعفف .( يغنه الله ) أي : يجعله غنيّاً أي : بالقلب ففي الحديث الذى رواه مسلم عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال :" «ليس الغني عن كثرة العرَض إنما الغني غنى النفس» ".( ومن يستعفف ) الاستعفاف : طلب العفاف والتعفف وهو الكف عن الحرام والسؤال من الناس ,أي : من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها.( يعفه الله ) : أي يجعله عفيفا ، فيحفظه عن الوقوع في المناهي ، يعني : من قنع بأدنى قوت وترك السؤال تسهل عليه القناعة وهي كنز لا يفنى .( ومن يتصبَّر ) أي : يطلب توفيق الصبر من الله ؛ لأنه قال تعالى : " وَاصْبِرْ {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} " { النحل : 127 } ، أو : يأمر نفسه بالصبر ويتكلف في التحمل عن مشاقه ." يصبِّره الله " : أي يسهل عليه الصبر .(4)
أما مخالطة اليتيم فى طعامه وشرابه فلا بأس إن كان ذلك بالمعروف بعيدا عن التبذير وإتلاف ماله ، وجاء فى تفسير ابن كثير ـ رحمه الله ـ عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : لما نزلت : " {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } " { الإسراء : 34 } و " {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } " { النساء : 10} انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} " { البقرة : 220 } فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .
أما اليتيم الفقير الذى لا مال له فقد اهتم به الإسلام اهتماما عظيما ، ونزلت الآيات تترى فى سور كثيرة وأماكن متعددة تحث على إعطاء اليتيم من المال ، فى أكثر من صورة سواء كان ذلك بالزكاة المفروضة ، أو صدقة التطوع ، أو الغنيمة من الكفار ، أو الفىء المتحصل عليه من الكفار بغيرقتال ، وغير ذلك من صور إغناء اليتيم الفقير وإعطائه المال الذى يلزمه ، قال الله تعالى : {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} ...." {البقرة:177}، وقوله تعالى:" {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} " {البقرة: 215} وقوله سبحانه : " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} " { الأنفال:41} ، وقال تعالى: " {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} " {الحشر:7 }، وجعل لهم أيضًا نصيبًا غير محدد - جبرًا لخاطرهم- إذا حضروا قسمة الميراث ,ولم يكن لهم نصيب من هذا الميراث قال تعالى:" {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} " {النساء: 8 } سواء كان هذا النصيب على سبيل الوصية لهم من الميت فيما لا يزيد على ثلث التركة , أو كان من الورثة إحسانًا منهم لهؤلاء اليتامى وغيرهم ممن ذُكِر في الآية.
وهذا كله بالإضافة إلى ما يستحقه اليتامى من الزكوات إن كانوا فقراء أو مساكين ,إذ يدخلون في عموم قول الله تعالى: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} "{التوبة:60 }.
ومن المسائل الهامة المتعلقة بمال اليتيم أن يخرج الولى الزكاة إذا وجبت فى مال اليتيم ، وهذا راجح عند جمهور الفقهاء وقال ابن قدامة رحمه الله في "المغني": "الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ... إذا تقرر هذا , فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما ; لأنها زكاة واجبة , فوجب إخراجها , كزكاة البالغ العاقل , والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه ... وتعتبر نية الولي في الإخراج .
- التصنيف: