الثابتون على الحق (سحرة فرعون وزوجته وماشطة ابنته)
في التاريخ البشري رجال ونساء حفظت أخبارهم في اتباع الحق، والثبات عليه، والصبر على الأذى فيه، حتى لقوا الله تعالى غير مغيرين ولا مبدلين، ولم يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا مهما كان
الحمد لله العليم الحكيم؛ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار التائبين، ونسأله الثبات على الدين؛ فالقلوب بيده سبحانه يقلبها كيف يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه فلا تعصوه، وسلوه الاستقامة على الدين، والثبات على الحق؛ فإن الدنيا كلمح البصر، وإن الخلد في الدار الآخرة { {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} } [النحل: 77].
أيها الناس: في التاريخ البشري رجال ونساء حفظت أخبارهم في اتباع الحق، والثبات عليه، والصبر على الأذى فيه، حتى لقوا الله تعالى غير مغيرين ولا مبدلين، ولم يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا مهما كان، بل اشتروا رضا الله تعالى، وآثروا الدار الآخرة على الدنيا. ولعظيم مكانتهم عند الله تعالى، وليقتدي المؤمنون بهم حال البلاء؛ خلّد الله تعالى ذكرهم، ونوّه سبحانه بثباتهم، وذكر شيئا من سيرهم، وجعل الأمة تعرف أخبارهم بما نقل عنهم من نصوص الكتاب والسنة.
ومن أولئك الثابتين على الحق: سحرة فرعون، الذين جُمعوا من شتى المدن والأقطار لمبارزة موسى عليه السلام وهزيمته، وكانوا فرحين باختيار فرعون لهم، مغتبطين بحاجته إليهم، يرجون مكافأته والقرب منه، ولكنهم سرعان ما اتبعوا الحق لما تبين لهم، وآمنوا بموسى عليه السلام لما أيقنوا أن ما جاءهم به معجزة وليس سحرا، وخروا لله تعالى سجدا، فأُسقط في يد فرعون، ووعدهم بالقتل والصلب بعد التعذيب، فلم يردهم تهديد فرعون عن اتباع الحق، والثبات عليه حتى لقوا الله تعالى شهداء مقتَّلين ومقطعين، ويا له من حظ عظيم، وفوز كبير أن يعذب العبد ويقطع في ذات الله تعالى وهو ثابت على دينه، فذلك من أعلى منازل الشهادة في سبيل الله تعالى { {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} } [الأعراف: 113 - 126].
وفي مقام آخر نوه الله تعالى بذكرهم وثباتهم على الحق لما صمدوا أمام تهديد فرعون ووعيده { {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} } [طه: 71 - 72].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «كَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَفِي آخِرِ النَّهَارِ شُهَدَاءَ». فرحمهم الله تعالى وأسكنهم جنته.
ومن المؤمنات الثابتات على الحق: امرأة فرعون التي عاشت في بيت الطاغية الذي عبَّد الناس لنفسه، وكانت تحت كنفه، وكانت عصمتها بيده، ولم يمنعها ذلك من الإيمان بالله تعالى، فجعلها الله تعالى مثلا في القرآن الكريم للمؤمنات الثابتات على الإيمان رغم الصعاب { {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} } [التحريم: 11]. وهي التي أنقذ الله تعالى بها موسى عليه السلام لما ألقي في اليم فعثر عليه آل فرعون، فاتخذته ولدا لها، وتربى في حضنها، وشرفت هي بتربيته ورعايته، وكفى بها شرفا أن يتربى في حضنها رسول من أولى العزم { {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} } [القصص: 9]. وعذبت على إيمانها حتى ماتت؛ كما روى سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ بِالشَّمْسِ، فَإِذَا انْصَرَفُوا عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وَكَانَتْ تَرَى بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ» وقال ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: « «وَتَدَ فِرْعَوْنَ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًى عَظِيمًا حَتَّى مَاتَتْ» » [رواهما الحاكم وصححهما] .
ولفضلها وشرفها نوه النبي صلى الله عليه وسلم بذكرها، وذكر فضلها وكمال عقلها؛ ففي حديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» رواه الشيخان. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من ضمن أربع نسوة هن أفضل نساء الجنة؛ كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ» » [رواه أحمد] .
ومن المؤمنات الثابتات على الحق: ماشطة ابنة فرعون؛ فإنها عذبت عذابا شديدا بطبخ أولادها أمامها، وما ردها ذلك عن دينها، حتى ألقيت هي معهم، ومن يقوى على ذلك إلا من امتلأت قلوبهم بالإيمان واليقين، وهانت عليهم نفوسهم في ذات الرب الكريم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « «لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا، فَقَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ -وهي القدر الكبيرة-، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَنَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الحَقِّ. قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، كَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ» » [رواه أحمد وصححه ابن حبان] .
نسأل الله تعالى أن يعمر قلوبنا بالإيمان واليقين، وأن يثبتنا على ما هدانا إليه من الدين القويم، وأن يحيينا مسلمين، ويتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه، وأكثروا من الأعمال الصالحة؛ فإنها من أسباب الثبات على الحق { {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} } [إبراهيم: 27].
أيها المسلمون: قراءة سير الثابتين على الحق سبب للثبات عليه، ولا سيما سير الرسل عليهم السلام؛ فهم أثبت الناس على الحق. أوذوا في سبيل الله تعالى ولم يبدلوا أو يغيروا. ومن الِحكَم في قص القصص تثبيت قلوب قراء القرآن على الحق { {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} } [هود: 120].
وأمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالرسل عليهم السلام في ثباتهم على الحق { {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} } [الأنعام: 90].
وأُمرنا نحن في القرآن الكريم أن نتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو إمام الثابتين على الحق ومقدمهم وأفضلهم، وجاء الأمر بهذا التأسي في ثنايا الحديث عن غزوة الأحزاب التي زُلزلت فيها القلوب، وزاغت فيها الأبصار، من شدة تكالب الأعداء على أهل الإيمان، وثبت فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أصحابه رضي الله عنهم، وبشرهم فيها بالنصر والفتوح والغنائم، وفي سياق قصة الأحزاب { {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} } [الأحزاب: 21].
فتعلموا الثبات على الحق من سير أفاضل البشر عليهم السلام.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
- التصنيف:
- المصدر: