مئة سنة مع حمّاد!

منذ 2019-04-03

رحم الله أبا خالد الذي فارق دنيانا عام (1438) وأعلى منازله وبارك في عقبه وعمله، فقد كان المصحف أنيسه، والكتاب رفيقه، وله في مجلسه أحاديث حلوة، وهو مع مجتمعه دائم التّفاعل بالحضور والمشاركة، فضلًا عن وقفه المبارك

 

لكلّ إنسان قصّة عاشت معه، ويتباين ثراء القصص بحسب عمر صاحبها، وجرأته، وصراحته، وما خاضه من تجارب ومغامرات، وما عاصره من مواقف وأحداث، وما تختزنه ذاكرته من روايات وأشخاص، ويبقى في ذمّة المرء واجب الرّواية الأمينة، ومسؤوليّة نقل الخبرة الخالصة، سواء بالكتابة، أو الإملاء، أو التّسجيل، أو الحوار.

 

وتمثّل سيرة الشّيخ حمّاد بن سليم العرّادي البلوي نموذجًا لذلك، عنوانها: سنوات من عمري: رجولة طفل وحماسة شاب وحكمة شيخ، صدرت الطّبعة الثّانية منها عام (1433)، وتقع في (384) صفحة من القطع المتوسط، وعلى غلافها الأمامي صورة وقورة للشّيخ، ويمتاز حرفها بحجم يريح عين القارئ.

 

يتكوّن الكتاب من مقدّمة بقلم الصّحفي علي البلوي، ثمّ ينقسم المحتوى تحت أربعة وعشرين عنوانًا مختلفة الحجم، ابتدأت بالزّمان أيّام الطّفولة منذ عام (1346)، ووقفت عند المكان في الوجه التي اشتهر أهلها بالتّنازع على الضّيف، والتّعاون في الأعراس التي تستمر أسبوعًا، والتقدّم في التّعليم والاتّصالات اللاسلكيّة، وتسبق العناوين الفرعيّة صور قديمة وحديثة.

 

‏ويستبين من سيرة البلوي توقير الدّين، وتبجيل التّقاليد، والبّر بالوالدين والإخوة، وصلة الأقارب، والغيرة على المحارم، وتحمّل المسؤوليّة باكرًا، واقتناص الفرص بعد حسن تقديرها، والالتزام بمحاسن الأخلاق من صدق وكرم ونجدة، وتناءٍ عن الشّبهات وتوافه الأمور، مع حرص على التّوثيق والضّبط والتّطوير، وفيها كفاح وعناء، وعلم وعمل، وسفر وتجارة، ونصائح وخلاصات.

 

كما يمتاز الرّجل بجرأة إداريّة وتجاريّة، ومن جرأته إصراره على أن يوقّع الملك سعود على مصروفاته الشّخصيّة إبّان زيارته للجوف دون اكتفاء بتأكيدات كبار الموظفين، وسماحه لمواطني الكويت بالدّخول من منفذ الرّقعي متجاوزًا إجراءات الحدود، وإخباره الأمير نايف الذي وافق بقيد ذي دلالة، وقسمته العمل بين موظفي الجمارك في منطقة نائية بطريقة تتناسب مع مجمل الأوضاع وتخالف نظام الخدمة المدنيّة، ولم يجد ممانعة من وزير المالية الشّيخ أبا الخيل، أو من مدير الجمارك الرّشودي.

 

بينما يستيقن القارئ من صلابته بتعلّمه القراءة والكتابة بعد صفعة، وممارسته التّجارة منذ طفولته بريالات قليلة، واهتباله أيّ فرصة سانحة للكسب الحلال الذي يفوق مداخيل الوظيفة بمراحل، وعقده صفقات تجاريّة انطلاقًا من الوجه ومرورًا بجازان فالكويت وسوريّة وإيطاليا، وباحتراز شرعي إذ يجزم بأنّ الضّوابط الشّرعيّة أقوى ضمانة لسلامة الاقتصاد، وشملت تجارته الحلوى، والذّرة، ومواد البناء، وهو أوّل من أدخل الدّراجات الهوائيّة للجوف.

 

وفي السّرد وقائع ذات عبر، فحين وصل الفتى حمّاد إلى أحد المواقع ومعه رئيسه الإنجليزي، وجدا الموظفين يصلّون خلف مديرهم؛ فقطع المدير الصّلاة للتّرحيب بالإنجليزي وفتْح باب السّيارة له! فأصدر الإنجليزي قرارًا بفصل مدير الموقع؛ بحجّة أنّ من لا يُستأمن على صلاته لخالقه فلا يُستأمن على عمل، ولهذا الإنجليزي موقف معاكس مع موظف آخر فعل عكس ذلك، وربّما انطلق الإنجليزي في مواقفه من حرصه على مصلحة العمل اعتمادًا على القياس.

 

ومن مفارقات حكاية البلوي أنّ والدته كرهت حملها به لأسبابها، فكان ولدها نعم الظّهير والسّند والخيرة خفيّة، ومن طرائفها أنّ أهل الوجه لم يعرفوا أين تقع نجد التي أمرهم الملك عبدالعزيز ببيع أنعامهم فيها ووقف التّصدير، وافترق سكّان بلدته بسبب المذياع الوحيد فيها ما بين مؤيّد للألمان أو الإنجليز خلال الحرب؛ لكنّ أمّ كلثوم جمعتهم لحفلة الغناء الأسبوعيّة، وارتدى بعضهم أحسن ملابسه، وحضر لمتابعة الحفلة بأناقة كاملة ظنّاً منه أنّ المطربة تراهم!

 

وبعد انتقالهم إلى الجوف سكنوا في بيت صغير يضمّ شمل أربعة أسر تقاسمت نساؤها شؤون المنزل، وتؤول رواتب رجالها إلى كبيرهم حمّاد، وهذا أمر نادر بل أشبه بالمستحيل في عصرنا، ومن المحزن خبر الفساد الإداري والمالي عام (1370) حين أراد مسؤول نافذ صرف رواتب شهريّة لموظفين بعضهم لم يدخل إلى المملكة من الأصل، وفي هذه السّنة تحديدًا كان وقت الدّوام الرّمضاني في الّليل بسبب حرارة الجو.

 

كما يشهد المؤلّف لسفراء عظام هم الشّبيلي، والصّقير، والزّامل، والدّباغ، والزّيد، ويثني على موقف السّفارة في أمريكا أثناء إجرائه عمليّة جراحيّة في القلب، وينقل دفاع شاب عراقي عن الملك فيصل ضدّ سائق حافلة بشّر ركّابها بوفاة ملك أفغانستان متمنيًا ذات المصير لملك السّعودية؛ فانتهره الشّاب العراقي، وأبدى أبو خالد استغرابه من كميّة الذّهب الهائلة في جامع الكاظم.

 

ولم ينس كاتب السّيرة نسبة الفضل لأهله، فامتدح أهل القصيم في الوجه، وأكبر مواقف أسرتي بديوي والعلي وهما أسرة واحدة كبيرة من السّادة الميامين، وروى طرفًا من أخبار أمراء الوجه المبارك والسّليم والسّديري، ولم يترك عمّه عودة البلوي الذي حفظ لهم حلال أبيهم بعد وفاته وهم أطفال، ولم يكتف بالحفظ بل عمل على تنميته؛ ولم يرض بمقابل على صنيعه، وأجر الإحسان على الله.

 

أيضًا حفظ الكتاب أخبارًا طواها النّسيان أو كاد، فمنها أنّ ميناء الوجه أنشط من ميناء جدّة، وتعامل النّاس بالجنيه الفلسطيني، وانتقال الموظفين من الوجه إلى سوريّة في طريقهم إلى الحدود الشّماليّة أو الجوف لصعوبة المواصلات المباشرة آنذاك، وبعد أن اشترى أرضًا في حي الملز بالرّياض قيل له ستأكلنا الكلاب!

 

ولم يغفل عن الإشارة إلى الإبداع الطّبي المبكر لبلديّه حسين بديوي الذي حصّن الاهالي من الجدري بالتّطعيم، وحوى الكتاب تجارب البلوي في جمع الزّكاة وبعضها كادت أن تنتهي بالقتل، وأسفار بريّة دون دليل، وسنوات في مكافحة تهريب البضائع الحلال والحرام، وسلّمه الله من تربّص المجرمين كما صنعوا بسابقيه.

 

كما روى الشّيخ مسيره لأداء الحجّ عام (1365)، وحضور استقبال الملك عبدالعزيز لجموع الحجيج، وفيهم أمراء من اليمن والبحرين، وتولّى الأمير منصور تنظيم الوفود، وحين ألقى أمير الحجّ المصري قصيدة مدح فيها عاهل السّعوديّة فقط، قاطعه قائلًا والأخ فاروق؟ ولم يستعص على بديهة الشّاعر إضافة الملك فاروق إلى قصيدته.

 

ويرى صاحبنا أنّ الأمّ تملك بوصلة حقيقية لمعرفة الأخطار، وأنّ توقير الأضياف يبدأ من القهوة وبها ينتهي، ومن وفائه أن تتبع ذلولًا أثيرة عند والده الرّاحل فاشتراها، وآوى في بيته لسنوات أكثر من امرأة بليت بزيجة لم تنل التّوفيق، ومن حيائه تركه زوجته الأولى من ليلة زفافه ولمدّة أربعة أشهر، وغيابه لأداء عمل حكومي في عمق الصّحراء.

 

ومن الّلطائف أنّه زار النّمسا عام (1392)، فلاحظ أنّ غالب الطّلبة السّعوديين- وجلّهم يدرسون الطّب- متزوجون من فتيات نمساويات، وإحداهنّ صنعت لهم السّليق! ومن بركته شفاعته الحسنة فيهم لدى الأمير عبدالله-الملك لاحقًا- لزيادة رواتبهم الشّهريّة، وإلحاق زوجة واحد منهم بالبعثة وهي سعوديّة.

 

أمّا القصّة التي لا تنسي فهبوطهم في مطار عراقي مهجور على إثر عناد قائد الطّائرة، ورفضه سماع رأي من معه، وفيهم عسكريون وموظفون، ومعهم أموال، ولم تكن العلاقات مع العراق على ما يرام، فأسقط في أيديهم، إلى أن تمكن العمّ يحيى العثمان العسّاف من إرسال نجله عبدالله بسيّارة تطوف حول الموقع، وأقنع العراقيين باستضافة مواطنيه من راكبي الطّائرة، فنعموا عنده بطعام ومأوى وأمان، إلى أن قدم الضّابط العراقي، وكانت علاقته حسنة مع الجانب الحدودي السّعودي، فأذن لهم بالتّحرك بعد تزويد طائرتهم بالوقود، وياله من موقف تبلغ القلوب فيه الحناجر أو تكاد.

 

ويحتاج الكتاب إلى تجلية بعض المواضع، مثل خبر محمد أبو صابر الذي وصفه المؤلّف بالتّاريخي، مع مراجعة نحويّة وإملائيّة وصياغيّة، وإضافة تواريخ الأحداث ولو بالسّنة، وإصلاح علامات التّرقيم، وقسمة الفقرات الطّويلة، وتصحيح بعض الأسماء، وهي ملحوظات قلّما يسلم منها كتاب.

 

رحم الله أبا خالد الذي فارق دنيانا عام (1438) وأعلى منازله وبارك في عقبه وعمله، فقد كان المصحف أنيسه، والكتاب رفيقه، وله في مجلسه أحاديث حلوة، وهو مع مجتمعه دائم التّفاعل بالحضور والمشاركة، فضلًا عن وقفه المبارك الذي ينفع أهله ومنطقته وباقي المحتاجين، ونعم الخبر الصّالح من الرّاوي الصّادق الماتع، ونعم المال الصّالح للعبد الصّالح.

 

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف

  • 1
  • 0
  • 3,260

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً