صحيح البخاري... ديوان السنة ومفخرة الأمة
الإمام محمد بن إسماعيل البخاري –رحمه الله- جمع كتابه الذي اشتهر بــ«صحيح البخاريّ» من صحيح سنة رسول الله ﷺ، وكان عملُ البخاريّ في هذا الكتاب العظيم: تطبيقَ قواعد المحدّثين بأعلى درجات الدّقّة، فانتقى أصولَ الأحاديث النبوية التي نُقِلت عن رسول الله ﷺ نقلاً صحيحاً، وصار كتابُه أهمَّ وأعظمَ كتابٍ في الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسَلين، نبينا محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنّ الله سبحانه جعل رسالة محمّد ﷺ الرسالةَ الخاتمةَ لكلّ دين، وجعل كتابَه مهيمنًا على ما تقدّمه من الكُتُب والوحي، واختصّه بأكمل شريعة، وأعظمِ منهاج، فدينُ الإسلام هو آخر الأديان، والناسخ لكلّ ما سواه، ولأجل هذا فقد وَعَد بحفظه من أن تندثر معالمُه، أو تُحرَّف نصوصُه أو تُبَدّل أصولُه، قال جلّ وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وهذا وعدٌ مؤكّدٌ متحقّقُ الوقوع، والذّكرُ اسمٌ يتناول الدين كلَّه، فالقرآن ذكرٌ، والسّنّة ذكرٌ؛ إذ كان كلاهما وحيًا من عند الله، نزل به جبريل على نبينا محمد ﷺ، قال تعالى عن نبيه ﷺ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} والحكمةُ: السّنّة([1])، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} قال السمعاني في تفسير الآية: «وقد كان الرّسول مبينًا للوحي، وقد قال أهل العلم: إنّ بيانَ الكتاب في السّنّة»([2]) وقال القرطبيّ: «{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك، فالرسول ﷺ مُبينٌ عن الله عز وجلّ مرادَه، مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفَصّلْه»([3]) فحفظُ الله للقرآن شاملٌ لحفظ بيانه وهو السّنّة النبوية.
وقد تحقق وعد الله بحفظ الكتاب والسّنّة منذ عصر النّبوّة إلى يومنا هذا، وسيبقى إلى أن تقوم الساعة، وكما هيّأ الله لحفظ كتابه: القراءَ والحفّاظَ؛ هيّأ لحفظ سنّة نبيه ﷺ علماء الحديث، فحفظوا ألفاظه ومعانيَه، وكتبوه وأدَّوه إلى مَن بعدَهم، ونفَوْا عنه الكذب والخطأ، وصانوه عن عبثَ العابثين، وتحريفَ المبطلين، ولقد صار علمُ الحديث بدقّة مناهجه، ورسوخ قواعده؛ مفخرةً لهذه الأمّة، إذ لم يكن لغيرها إسنادٌ تَنقُل به موروثَها من العلم والدّين، وبلغ المحدّثون الغايةَ في البحث والتّنقيب، والتّدقيق في جمع الحديث، وتمييزِ صحيحه من سقيمه، وبيانِ أحوال نقَلَته في كلّ طبقةٍ من طبقات الرّواة، ونَقَلة الأخبار.
قال الخطيب البغداديّ مبيناً شرف أصحاب الحديث: «فقد جعل ربّ العالمين الطّائفةَ المنصورة حرّاسَ الدّين، وصرف عنهم كيد المعاندين؛ لتمسّكهم بالشّرع المتين، واقتفائهم آثارَ الصّحابة والتّابعين.
فشأنُهم: حفظُ الآثار، وقطعُ المفاوز والقفار، وركوبُ البراريّ والبحار، في اقتباس ما شرع الرّسول المصطفى، لا يعرّجون عنه إلى رأيٍ ولا هوًى، قبِلوا شريعتَه قولًا وفعلًا، وحرسوا سنّته حفظًا ونقلًا، حتّى ثبّتوا بذلك أصلَها، وكانوا أحقّ بها وأهلَها. وكم من ملحدٍ يَروم أن يَخِلط بالشّريعة ما ليس منها! واللّهُ تعالى يذبّ بأصحاب الحديث عنها؛ فهم الحفّاظ لأركانها، والقوّامون بأمرها وشأنها، إذا صُدِف عن الدّفاع عنها فهم دونها يناضلون، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ([4]).
ومما شاع في الأمّة -عامّها وخاصّها- وذاع: أنّ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري –رحمه الله- جمع كتابه الذي اشتهر بــ«صحيح البخاريّ» من صحيح سنة رسول الله ﷺ([5])، وكان عملُ البخاريّ في هذا الكتاب العظيم: تطبيقَ قواعد المحدّثين بأعلى درجات الدّقّة، فانتقى أصولَ الأحاديث النبوية التي نُقِلت عن رسول الله ﷺ نقلاً صحيحاً، وصار كتابُه أهمَّ وأعظمَ كتابٍ في الحديث، لشدّة تحرّيه فيه، وحُسن تصنيفه وترتيبِه، ووَسَمت الأمّةُ كلُّها هذا الكتاب بأنه: أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله جل وعلا.
وهذه المنزلةُ العظيمة لهذا الكتاب ليست محلَّ شكٍّ ولا نزاع أو اختلاف بين الأمّة؛ لأنها منزلةٌ مبنيّةٌ على مقدِّماتٍ قاطعةٍ يُستفاد منها أنّ هذا الكتابَ هو ديوانُ الأمّة الأوّل لمعرفة سنّة نبيها ﷺ، وهذه المقدّمات يطول تفصيل القول فيها، فلأجل ذلك نذكر في هذا المقال جوامعَ القول فيها، فمن هذه المقدّمات:
أولاً: منزلةُ الإمام البخاريّ -رحمه الله- العلميّة، وتميُّزه الفائقُ وحِذْقُه في علم الحديث.
إنّ البخاريّ -رحمه الله- لم يكن من آحاد العلماء المجتهدين في علم الحديث فقط، بل كان من أفذاذ الأمّة وأفراد العالم مطلقاً، في معرفته العميقة بعلم الحديث، وحدّة ذكائه وقوّة حفظه، ومداومته على الطلب والكتابة والرحلة في تحصيل الحديث، وخبرته التامة برواة الحديث من كل طبقة، ومعرفتِه الدقيقة بخفايا عِلَلِ الحديث وأوهام الثّقات، فضلاً عن أخطاء الضعفاء وأوهام المخلّطين، إضافة إلى ما حباه الله به من الـمُكْنة العجيبة في اللُّغة والفقه وأصوله، مع الورع التام والصّدق وعفّة اللسان، وإنّ القارئ في سيرة هذه الإمام لا يتردد في أنه كان عزيزّ المثال، وأنّه هبةٌ من الله لهذه الأمة.
لقد بلغ البخاريّ منزلةً بين علماء الحديث سابقِهم ولاحقهم تجعله بمنزلة واسطة العِقْد بين فحول المحدّثين، ومن طالع ترجمة البخاريّ وجد الثناء البالغَ عليه من مشايخه يجاوزُ كلَّ ما قاله شيخٌ في تلميذه، حتى لقد فضّله كثيرٌ منهم على أنفسهم.
وإذا كان ثناءُ شيوخه عليه بلغ هذه الدرجةَ فإنّ ثناء أقرانه وتلاميذه ومن جاء بعدهم؛ يزيد على ذلك بدرجات، ويفوقه بأضعاف.
قال النووي –رحمه الله-: «واعلم أن وصف البخاري -رحمه الله- بارتفاع المحل والتقدم في هذا العلم على الأماثل والأقران؛ متفق عليه فيما تأخر وتقدم من الأزمان، ويكفي في فضله أّن مُعظمَ من أثنى عليه ونَشَر مناقبَه: شيوخُه الأعلامُ المبرّزون، والحذّاق المتقنون»([6]).
وسنختار هنا من ترجمته ما يحصل به المقصود من بيان منزلته الفائقة في علم الحديث([7]).
كان الإمام الكبير عليّ بن المدينيّ من أفذاذ علم الحديث، وكان شيخاً للبخاري، وقد ثبت عن البخاريّ أنه قال: «ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلّا عند عليّ بن المدينيّ، وربما كنت أغرب عليه» فلمّا ذكر أحدهم هذا الكلام لعليّ بن المدينيّ قال له: «دع قولَه، هو ما رأى مثل نفسه».
ومن شيوخ البخاري المشاهير الأثبات: قتيبةُ بن سعيد، وكان له في البخاري من القول الحسن، والثناء الكبير ما يُتعجّب منه.
قال قتيبة بن سعيد: «جالست الفقهاء والزهاد والعبّاد؛ فما رأيت منذ عقلت مثل محمّد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصّحابة» وقال: «لو كان محمّد بن إسماعيل في الصّحابة لكان آية».
بل جعله قتيبة حاوياً لعلم أئمة العلم في زمانه؛ كأحمد ابن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق ابن راهويه؛ فقد سئل قتيبة عن طلاق السّكران فدخل محمّد بن إسماعيل البخاريّ، فقال قتيبة للسّائل: «هذا أحمد ابن حنبل وإسحاق ابن راهويه وعلي بن المدينيّ قد ساقهم الله إليك» وأشار إلى البخاريّ.
وفضّله بعضهم في علم الحديث على أمثال أحمد ابن حنبل إمام أهل السنة، وهو الإمام العلَم الذي لا يجارى في معرفة الحديث وعلله.
قال حاشد بن إسماعيل قال: قال لي أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزّهريّ: «محمّد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر بالحديث من أحمد ابن حنبل».
وقال خلف الخيّام: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر الخفاف يقول: «محمد بن إسماعيل أعلم بالحديث من إسحاق ابن راهويه، وأحمد ابن حنبل وغيرهما بعشرين درجة».
وهذا يحيى بن معين الإمام المقدّم في الحديث وعلله ورجاله؛ كان يستفيد من البخاري وينقاد له، قال مِهْيار لما ذكر قتيبة بن سعيد: «أنا رأيته –أي قتيبة- مع يحيى بن معين وهما جميعًا يختلفان إلى محمّد بن إسماعيل، فرأيت يحيى منقاداً له في المعرفة».
وقال إبراهيم بن محمّد بن سلام: «كان الرُّتُوتُ([8]) من أصحاب الحديث -مثل سعيد بن أبي مريم، وحجاج بن منهال، وإسماعيل بن أبي أويس، والحميدي ونعيم بن حمّاد، والعدني، والخلال، ومحمّد بن ميمون، وإبراهيم بن المنذر، وأبي كريب محمّد بن العلاء، وأبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشج، وإبراهيم بن موسى، وأمثالهم- يَقْضون لمحمد بن إسماعيل على أنفسهم في النّظر والمعرفة».
ومن أشهر أئمة الحديث والدراية برجاله، وعلله: إماما الرّيّ؛ أبي زرعة وأبي حاتم –رحمة الله عليهما، ومع ذلك فضّله العلماء عليهما، بل فضّلوه على شيخه محمد بن يحيى الذهليّ الإمام الكبير.
يقول العجليّ: «رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يستمعان إليه، وكان أمّةً من الأمم، ديّنًا فاضلا يحسن كلَّ شيء، وكان أعلمَ من محمّد بن يحيى الذهلي بكذا وكذا».
وقال إبراهيم الخّواص: «رأيت أبا زرعة كالصّبيّ جالسًا بين يدي محمد بن إسماعيل يسأله عن علل الحديث».
وأمّا تفضيلُ العلماء له بإطلاق فكثيرٌ.
قال عبدُ الله بن عبد الرّحمن الدّارميّ: «قد رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشّام والعراق؛ فما رأيت فيهم أجمع من محمّد بن إسماعيل».
وقال أبو سهل محمود بن النّضر الفقيه: «دخلت البصرة والشّام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها؛ فكلما جرى ذكر محمّد بن إسماعيل فضّلوه على أنفسهم».
وقال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي: «فإن المشايخ قاطبةً أجمعوا على قدمه، وقدّموه على أنفسهم في عنفوان شبابه»([9]).
ونصّ الأكابر على تفرّده بالحفظ التامّ والمعرفة الدقيقة بالحديث وعلومه.
قال عمرو بن عليّ الفلاس: «حديث لا يعرفه محمّد بن إسماعيل ليس بحديث».
وقال له مسلم بن الحجاج: «أشهد أنه ليس في الدّنيا مثلك» وسمّاه: «أستاذ الأستاذين، وطبيب الحديث في علله».
وقال أبو عيسى التّرمذيّ: «لم أر أعلم بالعلل والأسانيد من محمّد بن إسماعيل البخاريّ».
وقال إمام الأئمّة أبو بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة: «ما تحت أديم السّماء أعلم بالحديث من محمّد بن إسماعيل».
ولأجل ما في ترجمة هذا الإمام من العَجَب والأخبار الباهرة؛ استطال العلماء الكلام فيها، وأفردوها بمصنفات مستقلة لطول ما فيها وحُسنه.
قال النووي بعد أن ذكر شيئاً من ترجمة البخاري: «ومناقبه لا تُستَقصى؛ لخروجها عن أن تحصى، وهي منقسمة إلى حفظ، ودراية، واجتهاد في التحصيل، ورواية، ونسك، وإفادة، وورع، وزهادة، وتحقيق، وإتقان، وتمكّن، وعرفان، وأحوال، وكرامات، وغيرها من أنواع المكرمات، ويوضح ذلك ما أشرت إليه من أقوال أعلام المسلمين أولي الفضل والورع والدين، والحفاظ والنقاد المتقنين، الذين لا يجازفون في العبارات، بل يتأملونها ويحررونها، ويحافظون على صيانتها أشد المحافظات، وأقاويلهم بنحو ما ذكرته غير منحصرة»([10]).
وقال الحافظ الذهبي: «قد أفردتُ مناقب هذا الإمام في جزء ضخم فيها العجب»([11]).
وقال ابن كثير: «ولو ذهبنا نسطّر ما أثنى عليه الأئمّة في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وتبحّره؛ لطال علينا»([12]).
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر طرفاً من ثناء أعلام الأمّة المتقدّمين على الإمام البخاري: «ولو فتحتُ باب ثناء الأئمّة عليه ممّن تأخّر عن عصره؛ لفني القرطاس، ونفِدت الأنفاس»([13]).
ثانياً: شروط الحديث الصحيح التي اعتمدها البخاري في جمع كتابه وتحريره؛ شروطٌ متفقٌ عليها بين العلماء، فليست صحّةُ أحاديث كتابه مأخوذةً من تسميته لها بالصّحة تسميةً مجرّدة! بل لأنه طبّق عليها قواعدَ النقد، وأصولَ التصحيح والتضعيف بدقّةٍ متناهية، وهي قواعد مأخوذة في أصلها من الكتاب والسنة.
قال أبو بكر الإسماعيليّ -وقد ذكر كتب الحديث التي اعتنت بانتقاء الأحاديث الصحيحة-: «وكلٌّ قصَد الخيرَ وما هو الصّواب عنده، غير أنّ أحدًا منهم لم يبلغ من التّشديد مبلغ أبي عبد اللّه»([14]).
وقال الحافظ ابن الصلاح عن الشيخين: «وكتاباهما أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه العزيز...ثمّ إنّ كتاب البخاريّ أصحّ الكتابين صحيحًا، وأكثرهما فوائد»([15]).
وإذا كان الحديث الضعيف يتفاوت في درجة الضعف؛ فإن الحديث الصحيح يتفاوت في درجات الصحة أيضاً، وكان منهج البخاري في كتابه: انتقاءَ أصحّ الصحيح، ولذلك جعل العلماءُ أحاديثه في أعلى درجات الصحة.
قال ابن كثير: «وشرطُه في صحيحه هذا أعزُّ من شرط كلّ كتابٍ صنّف في الصّحيح، لا يوازيه فيه غيره؛ لا صحيح مسلمٍ ولا غيره»([16]).
وذكر ابن الصلاح ومن تبعه من علماء مصطلح الحديث أقسامَ الحديث الصحيح، ورتّبوها هكذا([17]): أوّلها: صحيحٌ أخرجه البخاريّ ومسلمٌ جميعًا. الثّاني: صحيحٌ انفرد به البخاريّ عن مسلمٍ. الثّالث: صحيحٌ انفرد به مسلمٌ عن البخاريّ. الرّابع: صحيحٌ على شرطهما لم يخرجاه. الخامس: صحيحٌ على شرط البخاريّ لم يخرجه. السّادس: صحيحٌ على شرط مسلمٍ لم يخرجه. السّابع: صحيحٌ عند غيرهما، وليس على شرط واحدٍ منهما.
قال ابن الصلاح: «هذه أمّهات أقسامه، وأعلاها: الأوّل»([18]).
فما أخرجه البخاري هو الأعلى صحةً بعد المتفق عليه، كما هو ظاهر من هذا الترتيب.
وقال السخاوي: «وخُصّ ما أسنده في صحيحه بالتّرجيح على سائر الصّحاح»([19]).
وقال السيوطي: «وأرفع الصحيح ما اتفقا على إخراجه في صحيحيهما، وذلك بالإجماع»([20]).
والمقصود أن أحاديث البخاري لم تكن صحيحةً لمجرّد وجودها في كتاب البخاريّ، بل لأن شروط الحديث عند كافة العلماء منطبقةٌ عليها، ولا يمكن لأحد أن يدّعِي خلاف ذلك، فشروط صحّة الحديث شروطٌ وُجوديّةٌ، أي أنّه يلزم وجودُها مِن تَصوُّر معنى الحديث الصحيح، وهي موجودةٌ بأعلى درجاتها وأكمل حالاتها في صحيح البخاريّ.
ثالثاً: عَرَض البخاريّ –رحمه الله- كتابَه على بعض أشهر علماء عصره، فنظروا فيه نَظَر فحصٍ ونقد وتتبّعٍ، فلم يجدوا فيه شيئاً يُنتقَد عليه، بل أقرّوا له بدقّته المتناهية في عمله، سوى بعض الأحاديث اليسيرة التي كان لهم فيها رأيٌ غيرُ رأيِه.
قال أبو جعفر العُقَيليّ: «لما ألَّف البخاريّ كتابَ الصّحيح عَرَضَه على: أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وعليّ بن المدينيّ وغيرهم؛ وكلُّهم قال له: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث» قال العقيليّ: «والقول فيها قول البخاريّ وهي صحيحة»([21]).
وهؤلاء الثلاثة الأئمة المذكورون هم رؤوس هذا العلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- عن الصحيحين: «وكذلك في عصرهما، وكذلك بعدهما، قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما، ووافقوهما على تصحيح ما صححاه، إلا مواضع يسيرة»([22]).
رابعاً: لقد أبرز البخاريُّ كتابَه للناس، وسماه صحيحاً، وقرأه خلائقُ من علماء عصره لا يحصيهم إلا الله، بل أخذه عنه من التلاميذ المشتغلين بالحديث: أممٌ كثيرة يُعدّون بالآلاف، ولم يُحفظ عن أحٍد منهم إنكارُ صَنيع البخاريّ، أو مناقشتُه في صحّة أحاديثه، سوى أحاديث يسيرة انتقدها بعض العلماء كما تقدّم ذكرُ ذلك.
قال الفِرَبْرِيُّ تلميذ البخاري وراويةُ كتابه: «سمع كتابَ (الصّحيح) لمحمّد بن إسماعيل تسعون ألف رجلٍ»([23]).
وقال علامة الظاهرية أبو محمّد ابن حزم –رحمه الله-: «ما وجدنا للبخاريّ ومسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلّا حديثين؛ لكل واحد منهما حديث تمّ عليه في تخريجه الوهم، مع اتصافهما وحفظهما وصحّة معرفتهما»([24]).
وأشهر من أُثِرَ عنه تعقُّب البخاري ومسلم في بعض ما أورداه من أحاديث: الحافظُ الإمام الدراقطني، ولم يَذكر –بعد التتبع- سوى أحاديثَ يسيرةٍ، والصواب في أكثر ما انتقده على البخاري إنما هو مع البخاريّ، وكثيرٌ مما انتقده لا يرجع إلى أصل الحديث ولا إلى متنه، بل هو راجع إلى بعض الأسانيد والرجال، وسيأتي زيادة بيان لذلك.
خامسًا: لم ينفرد البخاريّ ولا مسلمٌ برواية حديثٍ واحد من أحاديث كتابيهما ولا بتصحيحه، فكلُّ ما في كتابَيهما من الأحاديث رواه قبلهما وبعدهما خلقٌ كثيرٌ من الرواة، وهي أحاديث صحيحةٌ مشهورة معروفة عند العلماء قبلهم، فليس للبخاريّ ومسلم فيها إلا الجمعُ والانتقاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية متعقّباً بعض من غمز في صحّة بعض ما في الصحيحين: «ومثلُ هؤلاء الجهّال يظنّون أن الأحاديثَ التي في البخاريّ ومسلم إنما أُخِذت عن البخاريّ ومسلم، وأن البخاريَّ ومسلماً كان الغلطُ يَروج عليهما، أو كانا يتعمّدان الكذبَ، ولا يعلمون أن قولنا: (رواه البخاري ومسلم) علامةٌ لنا على ثبوت صحّته، لا أنه كان صحيحاً بمجرد رواية البخاري ومسلم، بل أحاديث البخاري ومسلم رواها غيرُهما من العلماء والمحدّثين مَن لا يحصي عددَه إلا الله، ولم ينفرد واحد منهما بحديث، بل ما من حديث إلا وقد رواه قبل زمانه وفي زمانه وبعد زمانه طوائف، ولو لم يُخلق البخاريُّ ومسلمُ لم ينقص من الدين شيء، وكانت تلك الأحاديث موجودةً بأسانيد يحصل بها المقصود وفوق المقصود.
وإنما قولنا: (رواه البخاري ومسلم) كقولنا: (قرأه القراء السبعة) والقرآن منقول بالتواتر، لم يختصَ هؤلاء السبعة بنقل شيء منه، وكذلك التصحيحُ؛ لم يقلّدْ أئمةُ الحديث فيه البخاريَّ ومسلمًا، بل جمهور ما صحَّحاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقًى بالقبول...
والمقصود أن أحاديثهما انتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم، ورواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله، فلم ينفردا لا برواية ولا بتصحيح»([25]).
سادساً: أجمع العلماء المعتدّ بأقوالهم على صحّة أحاديث البخاريّ ومسلم إجماعاً صحيحاً معلوماً، وتلقّوا كتابَيهما بالقبول العامّ، وهذا الأمرُ من أهمّ ما يجب معرفته والعناية به، لأنّ الإجماع حجّة شرعيّة لا يجوز مخالفتها، ومخالفها مبتدع.
وهذا الإجماع والتلقي بالقبول يؤخذ من وجوه:
أولها: النّصُّ الصّريح من العلماء على ذلك، وقد نصّ على ذلك جمع كبيرٌ من العلماء؛ منهم من صرّح بلفظ الإجماع أو الاتّفاق، ومنهم من نصّ على ثبوت تلقّيهما بالقَبول، وهو من صُوَر الإجماع، ونذكر هنا بعض هؤلاء العلماء:
- قال الحافظ أبو نصرٍ السّجزيّ: «أجمع أهل العلم -الفقهاءُ وغيرهم- على أنّ رجلًا لو حلف بالطّلاق أنّ جميع ما في كتاب البخاريّ ممّا روي عن النّبيّ ﷺ قد صحّ عنه، ورسول اللّه ﷺ قاله لا شكّ فيه؛ أنّه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته»([26]).
- وقال أبو إسحاق الإسفرائيني: «أهل الصّنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوعٌ بها عن صاحب الشرع، وإن حصل الخلاف في بعضها فذلك خلاف في طرقها ورواتها»([27]).
- ورد عن الجوينيّ أنه قال قريباً من مقالة السجزيّ المتقدّمة، فقد نُقِل عنه أنه قال: «لو حلف إنسان بطلاق امرأته أنّ ما في كتاب البخاري ومسلم -مما حكم بصحته- من قول النبي ﷺ؛ لما ألزمته الطلاق ولا حنّثتُه؛ لإجماع علماء المسلمين على صحتهما»([28]).
- وقال محمد بن طاهر المقدسي: «أجمع المسلمون على ما أُخرِج فيهما أو ما كان على شرطهما»([29]).
- أطال الحافظ ابن الصلاح في مواضع من كتبه في تقرير تلقّي الأمة للصحيحين بالقبول، وبيان أن ذلك يقتضي إجماعهم في الجملة على صحّة ما فيهما، وصار كلامه أصلاً مشهوراً في هذه المسألة، يتناقله العلماء ويَبْنون عليه.
ومن ذلك أنه ذكر من أنواع الحديث الصحيح: (المتفق عليه) بين الشيخين، وبيّن المراد به فقال: «يطلقون ذلك ويعنون به اتّفاقَ البخاريّ ومسلمٍ، لا اتّفاق الأمّة عليه؛ لكنّ اتّفاق الأمّة عليه لازمٌ من ذلك وحاصلٌ معه، لاتّفاق الأمّة على تلقّي ما اتّفقا عليه بالقبول».
ثم بيَّنَ أن هذا التلقّيَ بالقبول ليس مختصًا بالمتفق عليه، بل هو شامل لكلا الكتابين، فقال: «ما انفرد به البخاريّ أو مسلمٌ مندرجٌ في قبيل ما يُقطَع بصحّته لتلقّي الأمّة كلّ واحدٍ من كتابيهما بالقبول، سوى أحرفٍ يسيرةٍ تكلّم عليها بعض أهل النّقد من الحفّاظ، كالدّارقطنيّ وغيره، وهي معروفةٌ عند أهل هذا الشّأن»([30]).
- قال النوويّ –رحمه الله-: «اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصحَّ الكتب بعد القرآن العزيز: الصحيحان؛ البخاريُّ ومسلم، وتلقتهما الأمّة بالقَبول، وكتابُ البخاريّ أصحُّهما وأكثرهما فوائد ومعارفَ ظاهرةً وغامضةً»([31]).
وقال أيضاً: «أجمعت الأمةُ على صحة هذين الكتابين، ووجوب العمل بأحاديثهما»([32]).
- وممن قرر هذا الإجماع شيخُ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مواطن من كتبه، ومن ذلك قولُه: «جمهور متون الصحيحين متفقٌ عليها بين أئمّة الحديث، تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها، وهم يعلمون علماً قطعياً أن النبي ﷺ قالها»([33]).
وقال رحمه الله: «فالخبر الذي رواه الواحد من الصحابة والاثنان: إذا تلقته الأمة بالقبول والتصديق أفاد العلم عند جماهير العلماء، والعلم هنا حصل بإجماع العلماء على صحته؛ فإن الإجماع لا يكون على خطإ؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يُعلم صحتُه عند علماء الطوائف: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وإنما خالف في ذلك فريق من أهل الكلام»([34]).
وهو يشير بقوله: «أكثر متون الصحيحين» إلى استثناء الأحاديث اليسيرة التي انتقدها بعض العلماء.
- نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية –رحمهما الله- أنه قال بعد نقله معنى ما كلام ابن الصلاح المتقدّم: «وجميع أهل الحديث على ما ذكره الشّيخ أبو عمرٍو –أي: ابن الصلاح-، والحجّة على قول الجمهور: أنّ تلقّي الأمّة للخبر تصديقًا وعملًا إجماعٌ منهم، والأمّة لا تجتمع على ضلالةٍ... واعلم أنّ جمهور أحاديث البخاريّ ومسلمٍ من هذا الباب كما ذكره الشّيخ أبو عمرٍو ومن قبله من العلماء كالحافظ أبي طاهرٍ السّلفيّ وغيره»([35]).
- قال الحافظ ابن كثير مترجماً للبخاريّ: «أبو عبد اللّه البخاريّ الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدّم على سائر أضرابه وأقرانه، وكتابه الصّحيح أجمع على قبوله وصحّة ما فيه أهلُ الإسلام»([36]).
- قال العلائي: «أحاديث الصّحيحين -لإجماع الأمة على صحّتها وتلقيهم إيّاها بالقبول- تفيد العلم»([37]).
- قال الزركشي: «اتّفقت الأمة على أن ما اتّفق البخاريّ ومسلم على صحّته فهو حق وصدق»([38]).
- قرر الحافظ ابن حجر هذه المسألة أيضا في مواطن من كتابه، ومن ذلك قوله: «ما أخرجه الشّيخان في صحيحيهما ممّا لم يبلغ حدّ المتواتر؛ فإنّه احتفّت به قرائن؛ منها: تلقّي العلماء كتابيهما بالقبول»([39]).
- قال العينيُّ عن صحيح البخاريّ: «أطبق على قبوله بلا خلاف: علماءُ الأسلاف والأخلاف»([40])
وقال: «اتفق علماءُ الشرق والغرب على أنه ليس بعد كتاب الله تعالى أصحّ من صحيحي البخاري ومسلم»([41]).
- قال السخاويّ –رحمه الله-: «الذي أورده البخاري ومسلم مجتمعَين ومنفردَين بإسناديهما المتصل: مقطوع بصحته؛ لتلقي الأمة -المعصومة في إجماعها عن الخطأ- لذلك بالقبول من حيثُ الصّحة، وكذا العمل»([42]).
- قال السيوطي عن البخاريّ: «وخُصّ كتابه بالترجيح على كلّ كتاب في الحديث بالإجماع»([43]).
هذه بعض النقول الصريحة في نقل الإجماع القطعيّ على صحّة كتاب البخاريّ رحمه الله، تقنع المتردّد، وتُلجم المشكّك.
ويحسُن هنا أن نختم هذه الإجماعات بكلمة لطيفة للشيخ عبد السلام المباركفوري (ت 1342هـ) تبيّن إجماع جميع المسلمين -من كلّ طبقة وتخصّص وبلدٍ ومذهب- على صحة البخاري وجلالته، حيث يقول: «وتوجَد الآن أربعةُ مذاهب في أهل السنة، تعرف بالحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وهناك تقسيمات فرعية أخرى من حيث العقائد الصوفية([44])، ولكنهم كلهم مجتمعون على الاعتراف بأن هذا الكتاب أصحّ الكتب بعد كتاب الله، ويتساوى في ذلك: العربي والعجميّ، والحجازي والشامي والعراقي، والهندي والتركي والكابلي، والبربري والإفريقي، والرومي والروسي، والبدوي والحضري، والمحدث والفقيه، والمتكلم والصوفي»([45]).
الوجه الثاني: الإجماع السّكوتيّ؛ إذ إن البخاريّ –رحمه الله- وَسَم كتابَه بالصّحّة، وَعَرضه على العلماء، وقرأه من شيوخه وأقرانه وتلاميذه الجمُّ الغفيرُ، ولم يُخطّئه أحدٌ منهم في تسمية كتابه بالصحيح أو في تصحيح عامة ما جمعه من الحديث، ولم ينتقدوا عليه سوى مواضع يسيرة، ولم يُحفظ عن أحد خلافُ ذلك، فكان هذا إجماعاً على صحّة كتابه، وهذا الإجماع أظهر من كثير من الإجماعات الفقهية وغيرها؛ مما يثبته العلماء بما هو أقلّ وضوحاً من هذا الطريق.
الوجه الثالث: الإجماع العمليّ المستقرّ منذ أزمان طويلةٍ على الاكتفاء بعزو ما في البخاريّ إليه دون بحث عن صحته؛ اكتفاءً بما هو معلوم لدى الخاصة والعامة من صحة أحاديث كتابه، وهذا الإجماع ليس خاصاً بالمحدّثين، بل يشاركهم فيه أصناف العلماء وطلاب العلم والباحثون، والأقسامُ البحثية في الجامعات المنتشرةِ في طول بلاد الإسلام وعرضها؛ كلهم على رأي واحد في أحاديث البخاري ومسلم، وهو تلقّيها بالقبول، والانتهاءُ في شأنها إلى مجرّد عزوها إلى الصحيح، دون بحث في شأنها، أو شك في ثبوتها، أو توقف في الاحتجاج بها.
سابعاً: ثناءُ العلماء على صحيح البخاريّ زيادة على ما تقدّم.
قال أبو أحمد الحاكم عن البخاريّ: «كان أحدَ الأئمّة في معرفة الحديث وجمعه، ولو قلت إنّي لم أر تصنيف أحد يشبه تصنيفه في الحسن والمبالغة؛ لفعلت»([46]).
وقال أيضاً: «رحم الله تعالى محمد بن إسماعيل، فإنه ألّف الأصول وبيّن للناس، وكلّ من عمِل بعده فإنما أخذه من كتابه»([47]).
وقال الإمام النسائي صاحب السنن: «ما في هذه الكتب كلِّها أجودُ من كتاب محمد بن إسماعيل»([48]).
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي –وتبعه المزّيَ رحمهما الله- في ترجمة البخاري: «إمام هَذَا الشأن والمقتدى بِهِ فيه، والمعوَّل على كتابه بين أهل الإسلام»([49]).
وقال الذهبي وابن السبكي: «وأمّا جامعه الصحيح فأجلُّ كُتُب الإسلام وأفضلُها بعد كتاب اللّه تعالى»([50]).
وقال ابن الملقن: «هو أصحُّ الكتب بعد القرآن، وأجلُّها، وأعظمها، وأعمُّها نفعًا بعد الفرقان»([51]).
واستحسن العلماء الأبيات التي قالها الأديب الفضل بن إسماعيل الجرجاني، وهي قوله:
صحيحُ البخاريّ لو أنصفوه ... لما خُطّ إلاّ بماء الذّهبْ
هو الفرقُ بين الهدى والعمى ... هو السّدُّ بين الفتى والعطبْ
أسانيدُ مثلُ نجوم السّماء ... أمام مُتونٍ كمِثْل الشُّهُبْ
به قام ميزانُ دينِ الرّسول ... ودان به العُجْم بعد العربْ
فيا عالماً أجمع العالمون ... على فضل رُتبته في الرُّتَبْ
سبَقْتَ الأئمّة فيما جمعْتَ ... وفُزْتَ على رُغْمهم بالقَصَبْ
نَفَيتَ الضّعيفَ من النّاقلين ... ومَن كان متّهماً بالكذِبْ
وأبرزْتَ في حُسن ترتيبه ... وتبويبه عَجَباً للعَجَبْ([52])
وقال ابنُ السّبكيّ في ثنايا ترجمته للبخاريّ:
علا عن المدح حتّى ما يُزانُ به ... كأنّما المدحُ مِن مقداره يضعُ
له الكتابُ الذي يتلو الكتابَ هُدىً ... هَذِي السّيادةُ طَودًا ليس يَنْصَدِعُ
الجامِعُ المانعُ الدّينَ القويمَ وسنّةَ ... الشّريعة أَن تغتالهَا البِدعُ
قاصي المراتبِ داني الفضلِ تحسبه ... كالشّمس يبدو سَناها حِين ترتفِعُ
ذَلَّتْ رقابُ جماهير الأنام له ... فكلُّهمُ وهْو عالٍ فيهمُ خضعوا([53])
ولأثير الدّين أبي حيّان في مدح البخاريّ وكتابه قصيدةٌ رائقةٌ بديعةٌ، منها قوله:
هلِ الدّينُ إلا ما رَوَتْهُ أكابرٌ ... لنا نقلوا الأخبار عن طيّبٍ خُبْرا
وأدَّوْا أحاديثَ الرسولِ مَصونةً ... عَنِ الزَّيف والتَّصحيف فاستوْجَبوا الشُّكْرا
وإنّ البخاريَّ الإمامَ لجامعٌ ... بجامعه منها: اليواقيتَ والدُّرَرا
على مَفْرِقِ الإسلام تاجٌ مُرَصَّعٌ ... أضاءَ به شمساً ونار به بدرا([54])
إلى أن يقول:
إلى أنْ حوى منها الصحيحَ صحيحُه ... فوافى كتاباً قَدْ غدا الآيةَ الكُبرى
ولعمر الله! إنّ كتاب البخاريّ آيةٌ من آيات الله في أرضه، وإنّ مؤلفَه «معجزةٌ للرّسول البشير النذير، حيث وُجِد في أمته مثلُ هذا الفرد العديم النّظير، مَن كان وجوده من النّعم الكبرى على العالم»([55]).
هذا «ونقلُ كلام الأئمة في تفضيل كتاب البخاريّ يَكْثُر» كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله([56]).
وأخيراً لا بد من التنبيه على أمور:
الأول: الأحاديث المنتقَدة على البخاريّ يسيرةٌ جدًّا، وغالب انتقادات العلماء ترجع إلى أسانيدها دون متونها، ويكون البخاريّ غالباً قد ذكر السند أو اللفظ الصحيح، وذكر أيضاً السند المنتقد أو اللفظة المنتقدة لبيان أمرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الانتقادات التي وجّهها بعض العلماء إلى الصحيحين: «المواضع المنتقدة غالبها في مسلم... وفيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري، فإنه أبعد الكتابين عن الانتقاد، ولا يكاد يروي لفظًا فيه انتقاد إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد، فما في كتابه لفظ منتقَدٌ إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد»([57]).
وكثير من هذه الانتقادات متوجّه إلى ما هو خارج عن شرط البخاريّ في كتابه؛ مثل الآثار غير المرفوعة، أو الأحاديث المعلقة، وهي في مآلها ليست نقداً مستقيماً([58]).
الثاني: يجب أن يفرَّق بين انتقادات العلماء المبنيَّة على النّظر العلميّ المنضبط، والبحث الصحيح، وبين غَمْزِ المستشرقين، وتلبيس أعداء السنة، وطعونات الملاحدة والمنافقين، فهذا لون، وذلك لون؛ الأول محلُّ مناقشة وبحث ومدارسة وترجيح، والثاني لا يجوز الالتفات إليه ولا التعلُّقُ به، بل يتعيّن ردُّه وعدم قَبوله.
الثالث: العبرةُ في كلّ فنّ بكلام أهله المختصّين به دون غيرهم، فالمرجع في علم الحديث إلى علماء الحديث، وفي الفقه إلى الفقهاء، وفي النحو إلى اللغويين، وهكذا، ومن طعن في صحة البخاري أو بعض أحاديثه أو انتقد بعضها وليس هو من أهل الحديث المختصين بمعرفته ولو كان منتسباً إلى العلم؛ فإن كلامه غير مقبول، ويجب «تقديم كلام أهل كلّ فنٍّ على كلام غيرهم في ذلك الفن الذي اختصّوا به»([59]).
قال ابن القيم –رحمه الله-: «الاعتبار في الإجماع على كلّ أمرٍ من الأمور الدّينيّة بأهل العلم به دون غيرهم، كما لم يُعتَبرْ في الإجماع على الأحكام الشّرعيّة إلّا العلماء بها دون المتكلّمين والنّحاة والأطبّاء، كذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلّا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيّهم، الضّابطون لأقواله وأفعاله المعتنون بها أشدّ من عناية المقلّدين بأقوال متبوعيهم»([60]).
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
([1]) هذا من التفاسير المشهورة عند أهل السنة، وأكثر ما اشتهرت نسبته إلى الإمام الشافعي رحمه الله، وقد ذكره في كتابه الرسالة (90).
([2]) تفسير السمعاني (3/ 174).
([3]) الجامع لأحكام القرآن (10/ 109).
([4]) شرف أصحاب الحديث (ص10).
([5]) «صحيح البخاري» هو لقب هذا الكتاب العظيم، واسمه الذي وضعه له مصنفه هو: «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه». انظر: فهرست ابن خير (ص82) ومقدمة ابن الصلاح (ص26).
([6]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 71).
([7]) انظر أغلب ما يأتي ذكره في مصادر ترجمته المشهورة، ومن أهمها: تاريخ بغداد (2/ 322) للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق (52/ 50) لابن عساكر، وسير أعلام النبلاء (12/ 391) وتاريخ الإسلام (6/140) كلاهما للذهبي، وهدى الساري مقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر، وسيرة الإمام البخاري سيد الفقهاء وإمام المحدثين للمباركفوري.
([8]) الرتوت: الرؤساء. كذا نقل شرحها الحافظ ابن حجر في هدى الساري (ص482)
([9]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 70).
([10]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 76).
([11]) تذكرة الحفاظ (2/ 105).
([12]) البداية والنهاية (14/ 531).
([13]) هدى الساري (ص485).
([14]) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/ 46)
([15]) معرفة أنواع علوم الحديث المعروف بالمقدمة (ص18).
([16]) البداية والنهاية (14/ 534).
([17]) انظر: مقدمة ابن الصلاح (ص27) والتقريب والتيسير (ص28) والتقييد والإيضاح (ص41) والتوضيح الأبهر (ص31) وفتح المغيث (1/ 61) وتدريب الراوي (1/ 131) وشرح التبصرة (ص38) وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي (1/ 123).
([18]) مقدمة ابن الصلاح (ص28).
([19]) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/ 42).
([20]) شرح التبصرة (ص38).
([21]) فهرست ابن خير (83) وانظر: هدى الساري (ص7).
([22]) منهاج السنة النبوية (7/ 215).
([23]) سير أعلام النبلاء (12/ 469).
([24]) النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (1/ 288)
([25]) منهاج السنة النبوية (7/ 214- 216).
([26]) مقدمة ابن الصلاح (ص26).
([27]) النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (1/ 280) والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 377).
([28]) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 372).
([29]) محاسن الاصطلاح للبلقيني بهامش ابن الصلاح (172).
([30]) مقدمة ابن الصلاح (ص28-29) وانظر ما نقله عنه النووي في شرح مسلم (1/ 20) والحافظ في النكت (1/ 372).
([31]) شرح النووي على مسلم (1/ 14).
([32]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 74).
([33]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص189).
([34]) مجموع الفتاوى (18/ 70)
([35]) مختصر الصواعق المرسلة (4/ 1499-1501) ونقله الحافظ ابن حجر أيضاً بنحوه في النكت محتفياً به (1/ 374).
([36]) البداية والنهاية (14/ 526-527) باختصار، وانظر: اختصار علوم الحديث له (ص35).
([37]) تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد (ص114).
([38]) النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (1/ 276) وانظر له: تشنيف المسامع بجمع الجوامع (3/ 513).
([39]) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر (ص52) باختصار، وطوّل الكلام في المسألة في كتابه النكت (1/ 171) وما بعدها.
([40]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 2).
([41]) السابق (1/ 5).
([42]) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/ 72) باختصار، وانظر: (1/ 63).
([43]) شرح التبصرة (ص29).
([44]) هذا إخبار عن الواقع، وإلا فإن التصوف في أصله بدعة لا تُجامِع السنة، إلا إذا قُصِد به معنى صحيح موافق للشرع.
([45]) سيرة الإمام البخاري (1/ 321).
([46]) هدى الساري (ص485).
([47]) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 285).
([48]) تاريخ دمشق (52/ 74).
([49]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (24/ 431).
([50]) تاريخ الإسلام (6/ 142) وطبقات الشافعية الكبرى (2/ 215).
([51]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (1/ 336).
([52]) انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 471) والبداية والنهاية (14/ 534) وإرشاد الساري (1/ 30) للقسطلاني.
([53]) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 212) ولم ينسبها، والظاهر أنها له، وقد صرح بذلك العجلوني في الفوائد الدراري (ص153).
([54]) ذكرها العجلونيّ في الفوائد الدراري (ص153–154).
([55]) هذه الكلمة للفقيه الحنفيّ ابن عابدين، نقلها المباركفوري في سيرة البخاري (1/ 230).
([56]) النكت (1/ 286).
([57]) منهاج السنة النبوية (7/ 216) وقد أطال الحافظ ابن حجر في الجواب عن الانتقادات التي وجهها الدراقطني إلى البخاري وأجاب عنها جميعا. انظر: هدى الساري (ص346) والنكت على ابن الصلاح (1/ 383).
([58]) انظر: المصدرين السابقين.
([59]) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (2/ 429) لابن الوزير.
([60]) مختصر الصواعق المرسلة (4/ 1502).
- التصنيف:
- المصدر: