فوائد من كتاب ذم الهوى لابن الجوزي (1-2)
قال يحي بن معاذ: سقم الجسد بالأوجاع, وسقم القلوب بالذنوب, فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه, فكذلك القلب لا يجد حلاوة العبادة مع الذنوب.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فإن الهوى ميل النفس إلى ما تحبه وتهواه, فإن كان موافقاً للشرع فهو هوى محمود, وإن كان مخالفاً له فهو هوى مذموم, قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23] قال العلامة السعدي رحمه الله: فما هواه سلكه, سواء كان يرضى الله, أم يسخطه.
والهوى المذموم ينبغي التنبه له والوقاية منه قبل الوقوع فيه, ومن ثم المبادرة بالعلاج إذا استزل الشيطان الإنسان فوقع في مرض من أمراضه, وأمراض الهوى المذموم قد تكون في الشبهات, وقد تكون في الشهوات.
وقد وقع رجل في عصر الإمام ابن الجوزي رحمه الله, في مرضٍ من أمراض هذا الهوى المذموم, فطلب النصيحة من ابن الجوزي, فصنف رحمه الله كتاباً في ذلك, سماه " ذم الهوى "
وقد جاء الكتاب في خمسين باباً, وقد يسّر الله الكريم لي فانتقيتُ منه بعض الفوائد, التي أسأل أن ينفع بها, ويبارك فيها.
العقل والهوى:
اعلم أن مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة, ويحثّ على نيل الشهوات عاجلاً, وإن كانت سبباً للألم والأذى في العاجل, ومنع لذات في الآجل, فأما العقل فإنه ينهى نفسه عن لذةٍ تُعقب ألماً, وشهوةٍ تورث ندماً, وكفى بهذا القدر مدحاً للعقل, وذماً للهوى.
مدمن الشهوات شقي من حيث قدر السعادة, واغتم من حيث ظن الفرح:
ليعلم العاقل أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذونها, وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها, لأنها قد صارت عندهم كالعيش الاضطراري, ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ بذلك عشر التذاذ من لم يدمن, غير أن العادة تقتضيه ذلك, فيلقى نفسه في المهالك لنيل ما يقتضيه تعوده, ولو زال رين الهوى عن بصر بصيرته, لرأى أنه قد شقى من حيث قدر السعادة, واغتمّ من حيث ظن الفرح, وألِمَ من حيث أراد اللذة, فهو كالحيوان المخدوع بحبِّ الفخ, لا هو نال ما خُدِعَ به, ولا أطاق التخلص مما وقع فيه.
مجاهدة النفس في مخالفة الهوى:
فإن قال قائل: فكيف يتخلص من هذا من قد نشب فيه ؟ قيل له: بالعزم القوي في هجران مايؤذي, والتدرج في ترك ما لا يؤمن أذاه, وهذا يفتقر إلى صبر ومجاهدة.
...فالنفس مجبولة على حبِّ الهوى, وقد سبق بيان أذاه, فافتقرت لذلك إلى المجاهدة والمخالفة, ومتى لم تُزجر عن الهوى هجم عليها الفكر في طلب ما شغفت به, فاستأنست بالآراء الفاسدة, والأطماع الكاذبة, والأماني العجيبة, خصوصاً إن ساعد الشباب الذي هو شعبة من الجنون, وامتد ساعد القدرة إلى نيل المطلوب.
ما يصدأ به القلب:
قال يحي بن معاذ: سقم الجسد بالأوجاع, وسقم القلوب بالذنوب, فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه, فكذلك القلب لا يجد حلاوة العبادة مع الذنوب.
ما ينقي عن القلوب صدأها:
قال رجل للحسن, يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي! قال: أذبه بالذكر.
روى أن رجلاً سأل عائشة: ما دواء قسوة القلب ؟ فأمرته بعيادة المرضى, وتشيع الجنائز, وتوقع الموت.
وسئل ابن المبارك: ما دواء قسوة القلب؟ قال: قلة الملاقاة
وشكا ذلك رجل إلى مالك بن دينار, فقال: أدمِن الصيام, فإن وجدت قسوة فأطل القيام, فإن وجدت قسوة فأقلّ الطعام.
وقال إبراهيم الخواص: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر, وخلاء البطن, وقيام الليل, والتضرع عند السحر, ومجالسة الصالحين.
الواعظ من القلب:
عن خالد بن معدان قال: ما من عبد إلا وله عينان في وجهه, يبصر بهما أمر الدنيا, وعينان في قلبه, يبصر بهما أمر الآخرة, فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح عينيه اللتين في قلبه, فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب, وإذا أراد الله به غير ذلك تركه على ما فيه, ثم قرأ:{ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]
الأمر بغض البصر:
لما كان إطلاق البصر سبباً لوقوع الهوى في القلب, أمر الشارع بغض البصر عما يُخاف عواقبه, فإذا تعرضت بالتخليط وقد أُمرت بالحمية فوقعت إذاً في أذى فلم تضجُّ من أليم الألم, قال الله عز وجل: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}[النور:30] { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } [النور:31]
النهي عن النظر إلى المردان ومجالستهم:
اعلم وفقك الله, أن هذا الباب من أعظم أبواب الفتن...فإن الشيطان إنما يدخل على العبد من حيث يمكنه الدخول, إلى أن يُدرجه إلى غاية ما يمكنه من الفتن, فإنه لا يأتي إلى العابد فيحسن له الزنا في الأول, وإنما يزين له النظر, والعابد والعالم قد أغلقا على أنفسهما باب النظر إلى النساء الأجانب, لبعد مصاحبتهن وامتناع مخالطتهن, والصبي مخالط لهما, فليحذر من فتنته.
نظر...إلى غلام في بعض الأسواق, فبلي به...وطال به البلاء...ولما سئل عن قصته, قال: رب ذنب استصغره الإنسان هو أعظم عند الله من ثبير, وحقيق لمن تعرض للنظر الحرام أن تطول به الأسقام ثم بكى وقال: أخاف أن يطول في النار شقائي.
معالجة الهم والفكر المتولد عن النظر:
فتفهم يا أخي ما أوصيك به, إنما بصرك نعمة من الله عليك, فلا تعصيه بنعمه, وعامله بغضه عن الحرام تربح, واحذر أن تكون العقوبة سلب تلك النعمة, وكل زمن الجهاد في الغضِّ لحظة, فإن فعلت ذلك نلت الخير الجزيل, وسلمت من الشر الطويل...واعلم وفقك الله, أنك إذا امتثلت المأمور به, من غض البصر عند أول نظرة, سلمت من آفات لا تحصى, فإذا كررت النظر لم تأمن أن تزرع في قلبك زرعاً يصعب قلعه, فإن كان قد حصل ذلك فعلاجه الحِمية بالغضِّ فيما بعد, وقطع مراد الفكر بسد باب النظر, فحينئذ يسهل علاج الحاصل في القلب, لأنه إذا اجتمع سيل فسُدَّ مجراه, سهُل نزف الحاصل, ولا علاج للحاصل في القلب أقوى من قطع أسبابه, ثم زجر الاهتمام به خوفاً من عقوبة الله عز وجل, فمتى شرعت في استعمال هذا الدواء رجي لك قرب السلامة, وإن ساكنت الهم ترقى إلى درجة العزم, ثم حرك الجوارح.
التحذير من المعاصي وقبح أثرها
يا صاحب الذنب لا تأمنن سوء عاقبته ولما يتبع الذنب من الذنب إذا علمته
ضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب
وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب
وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب, ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك, أعظم من الذنب إذا عملته.
كتبت عائشة إلى معاوية: أما بعد: فإن العبد إذا عمل بمعصية الله عاد حامده من الناس ذاماً.
قال المحارب بن ديثار: أن الرجل ليذنب الذنب فيجد له في قلبه وهناً.
قال بشر: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل
قيل لوهب بن الورد: أيجد طعم العبادة من يعصي ؟ قال: لا, ولا من يهم.
اعلم وفقك الله, أن المعاصي قبيحة العواقب سيئة المنتهى, وهي وإن سرّ عاجلها ضرَّ آجلها, ولربما تعجل ضرها, فمن أراد أن طيب عيشه فليزم التقوى
فمتى رأيت وفقك الله تكديراً في حال, فتذكر ذنباً قد وقع, قال الفيضل بن عياض: إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي.
وقال أبو سليمان الدارني: من صفّى صُفيّ له, ومن كدّر كُدِّر عليه, ومن أحسن في ليله كُوفئ في نهاره, ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله.
فتفكر وفقك الله, في أن الذنوب تنقضى لذتها وتبقى تبعتها
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
التحذير من العقوبات
اعلم أن العقوبة تختلف, فتارة تتعجل, وتارة تتأخر, وتارة يظهر أثرها, وتارة يخفى.
وأطرف العقوبات ما لا يحس بها المعاقب, وأشدها العقوبة بسلب الإيمان...ودون ذلك موت القلوب, ومحو لذة المناجاة منه, وقوة الحرص على الذنب, ونسيان القرآن, وإهمال الاستغفار, ونحوه مما ضرره في الدِّين.
وربما دبّت العقوبة في الباطن دبيب الظلمة, إلى أن يمتلئ أفق القلب فتعمى البصيرة
وأهون العقوبة ما كان واقعاً بالبدن في الدنيا.
قال أبو علي الروذباري: من الاغترار أن تسيء فيحسن إليك, فتترك الإنابة والتوبة توهماً أنك تسامح في الهفوات
الصبر على المعصية:
الطاعة مفتقرة إلى الصبر عليها, والمعصية مفتقرة إلى الصبر عليها, ولما كانت النفس مجبولة على حب الهوى..افتقرت إلى حبسها عما تؤذى عاقبته, ولا يقدر على استعمال الصبر إلا من عرف عيب الهوى, وتلمح عقبى الصبر, فحينئذ يهون عليه ما صبر عليه وعنه.
وبيان ذلك بمثل: وهو أن امرأة مستحسنة مرت على رجلين, فلما عرضت لهما اشتهيا النظر إليها, فجاهد أحدهما نفسه وغض بصره, فما كانت إلا لحظة ونسى ما كان, وأوغل الآخر في النظر فعلقت بقلبه, فكان ذلك سبب فتنته, وذهاب دينه
- التصنيف: