في ظلال الدعاء والتضرع إلى الله
وهكذا تتنوع أحوال العبد في مقام الدعاء والتضرع لله سبحانه وعبر هذه الأحوال يتذكر معية الله وقربه
إن الله قريب ومجيب، هو معنا أينما كنا، يرانا بكل حين ولكن استحضار هذه المعاني فى النفس المسلمة له حالات وكل حالة تختص بدرجة من درجات الإيمان فنجد أن من يشعر دائما بمعية الله له و رؤيته له هو المحسن، قال نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تعريف الإحسان: " «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك» ".
بينما نجد أن المسلم والمؤمن قد تعتريهما الغفلة أحيانا وإن كان هناك أحوال نفسية وعبادات متنوعة تزيل هذه الغفلة، فمنها ما ورد بقوله تعالى: " {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون} " (الأعراف آية 201) أَي إِذا أَصابهم من الشيطان وسوسة تزين لهم المعصية، تذكروا مقام ربهم، واستحضروا هيبته وجلاله سبحانه فهذه أحد أحوال المسلم أو المؤمن التي يستحضر فيها معية الله ورؤية الله تعالي له. ومنها حالة إقامة عبادة الصلاة أو تلاوة القرآن أو الأذكار المتعددة سواء كانت مقيدة بوقت أم لا، فكل هذه عبادات المفترض أنها تضع المسلم في حالة مراقبة لله واستحضار لمعيته وقربه ولكن للأسف لا يحدث هذا في كل الحالات إذا لكي يحدث هذا فعليه أن يكون خاشعا متدبرا وأن يطهر قلبه من الغفلة واللهو، فالاستفادة من هذا المقام من مقامات العبودية تحتاج عزيمة إيمانية ونفسية قوية تطرد الغفلة واللهو عن القلب وتستحضر التدبر والخشوع ومن ثم الشعور بمعية الله تعالى وقربه.
لكن من الملاحظ أن عبادة الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل هي أحد العبادات التي تجلب المسلم بسهولة أكثر إلى مقام مراقبة الله واستحضار معيته وقربه سبحانه، فعبادة الدعاء على عظمها تحتاج عزيمة إيمانية ونفسية أقل من العزيمة المطلوبة للخشوع في عبادات الصلاة وتلاوة القرآن والذكر، لماذا؟؟
لأن للنفس الإنسانية حظ شخصي في الدعاء فالإنسان يأمل من الدعاء تحقيق حوائجه الشخصية مما يقوي عزمه على الدعاء ونجد الطفل فور وصوله عمر تمييز الأشياء والأفكار فإنه يعرف الدعاء واللجوء إلى الله من أجل أن يحقق له مراده وآماله، ومن هنا فإن التوجه لعبادة الدعاء هو أسهل أول خطوة أو أول مرحلة في الطريق إلى مقام "استشعار معية الله ومراقبته تعالى ومن ثم تقواه وتاليا الأنس به سبحانه" فهو الخطوة والمرحلة الأسهل لأن النفس يسهل عليها اللجوء إلى الله والطلب منه، وهذا اللجوء لله سبحانه والطلب منه خير معين على الطاعة وعلى كل مطلوب لأن الله تعالى يقول " {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} " [سورة البقرة آية 186] ، فمن يطلب من الله يعطه، وخير ما نلجأ إلى الله طالبين تحقيقه هو العون على حسن عبادته سبحانه إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم " «يَا مُعَاذ: وَالله إِنِّى لأُحِبُّكَ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» " رواه أحمد وأبو داوود وغيرهما وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
ونجد البر والفاجر والمسلم والكافر لا ينفك عن الدعاء واللجوء إلى الله تعالي لأن الكل مفتقر الى الله، والله هو اللطيف الصمد، ولكن نجد أن الناس مؤمنهم وكافرهم لهم أحوال ومقامات متنوعة في الدعاء فمنهم من يدعو ليحقق معصية ومنهم من يدعو لتحقيق مقصد دنيوي مباح ومنهم من يدعو لتحقيق خيري الدنيا والآخرة ومنهم من يدعو طالبا ما عند الله في الدار الآخرة ولا يهتم بأهداف دنيوية، وهذا أمر يحتاج أن يفرد بدراسة بمناسبة أخرى لمعرفة أبعاده وآثاره و عواقبه، ولكن من المفيد الآن أن نجول جولة حول تقلب حالات المسلم مع الدعاء من طور إلى طور من أطوار مسيرته مع هذه العبادة المهمة.
البعض دنيويون فيركزون على اللجوء لله تعالى طلبا لصلاح أمورهم الدنيوية فقط ولا يدعون بأمر من أمور الآخرة وهؤلاء ذمهم القرآن فقال تعالى: " {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} "(البقرة من الآية 200).
وهناك فريق من المسلمين يدعو طالبا خيري الدنيا والآخرة وهؤلاء مدحهم الله فقال سبحانه: " {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} " (البقرة: 201، 202) فـ"يجمعون في دعائهم بين الدنيا والآخرة، ويعملون لكلتيهما، ويطلبون الوقاية من عذاب النار. فالحسنة في الدنيا: المال، والجاه، والولد، والسلطان. والحسنة في الآخرة: الجنة ثوابًا لما قدموا من طاعة، ورضوان من الله أكبر"أ.هـ (مجمع البحوث، التفسير الوسيط ، جـ1 ص 317).
ويتقلب أهل التدين في عبادة الدعاء بحسب حالاتهم النفسية فتارة يدعون بالشهادة في سبيل الله كما حدث من صحابة ومسلمين كثر وتارة أخرى يطلبونها بقيد "ما" كما دعا سعد بن معاذ رضى الله عنه بعد اصابته بالخندق: "اللهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا، فَأَبْقِنِي لَهَا، وَإِنْ كُنْتَ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ"، وتارة يطلبون تأخير الشهادة كما في هذا الدعاء الأنف نفسه وكما في دعاء لسعد بن معاذ نفسه دعاه فور إصابته وقبل هذا الدعاء حيث قال:"اللهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ قُرَيْظَةَ".
ومن تحولات مقامات أهل التدين في القيام بـ"عبادة الدعاء" التحول من الدعاء المرتجل إلى الدعاء بالأدعية المأثورة في السنة إذ وردت أدعية كثيرة في أحاديث نبوية صحيحة وحسنة وهي غير مقيدة بوقت ومنها:
- «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ» .. رواه مسلم وغيره.
-وفى البخارى ومسلم: " «تَعوَّذُوا بِاللَّه مِن جَهْدِ البَلَاءِ، وَدَركِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ» ".
-و كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) «اللهم إنى أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى» .. رواه مسلم وغيره.
- كان أكثر دعاء النَّبِىِّ (صلى الله عليه وآله وسلم): يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.. رواه احمد والترمذي وغيرهما وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 2091 وفي صحيح الجامع برقم 4801.
- وبحديث آخر "كان أكثر دعوة يدعوبها: { {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} }.. متفق عليه.
- و كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آله وسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ فَقَالَ: « «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» » . [رَوَاهُ مُسلم] .
ومن تحولات مقامات أهل التدين في عبادة الدعاء أيضا الإكثار من الدعاء بالأدعية الواردة في القرآن الكريم من مثل:
- " {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ".. سورة البقرة آية 250.
-" {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ".. سورة البقرة آية 286.
- " {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} " ال عمران آية 8.
-" {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ".. ال عمران آية 16.
-" {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} " ال عمران آية 147.
-" {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} " ال عمران آية 193.
-"رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ".. الأعراف 126.
-" {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ".. يونس85 – 86.
-" {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} " الأحقاف من الآية 15.
وحينئذ يهتم المسلم بأدعية الأنبياء الواردة في القرآن من مثل: دعاء نبي الله يوسف " {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} " يوسف آية 101.
وتسترعي الانتباه دائما أدعية إمام الأنبياء الذي قال الله تعالى عنه " {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأوَّاهٌ حَلِيمٌ} " التوبة آية 114، أي إن إبراهيم عليه السلام كثير التأَوه من خوف الله تعالى متضرع إليه، كثير الدعاء والتوبة، وقد قص ربنا الكريم علينا الكثير من ادعية سيدنا إبراهيم ومنها:
-" {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} " الشعراء آية 83-86.
-" {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} " إبراهيم آية 40-41.
وهكذا تتنوع أحوال العبد في مقام الدعاء والتضرع لله سبحانه وعبر هذه الأحوال يتذكر معية الله وقربه ويشعر أنه تعالى يسمعه و يراه ويدرك العبد حينها معاني أسمائه تعالى وصفاته فهو سبحانه السميع العليم الخبير القريب المجيب الودود اللطيف الصمد البر المعطي الجواد الكريم.
- التصنيف: