الإمام الطبري - (5) ثناء العلماء على الإمام الطبري
... وهؤلاء أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم، وليس لهم غرض مع أحد؛ بل يرجِّحون قول هذا الصاحب تارة، وقولَ هذا الصاحب تارة، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع..
حَظِي الشيخ ابن جرير بثناء العلماء في القديم والحديث، وما نال ذلك إلا بتوفيق الله - سبحانه وتعالى - له، ثم جِدِّه وحرصه على العلم بما هيَّأ الله له بذاته من أسباب النبوغ والذكاء، وما تميز به من الإخلاص لله في الطلب، وبذل الأسباب الممكنة في التحصيل، حتى فاق أقرانَه، بل تميَّز واشتهر على مشايخه، فكان - رحمه الله - من أفراد العلماء في الزمان، ولا تزال تلهج الألسنة بالثناء عليه، والدعاء له، والترحُّم والاستغفار، ومعرفة قدره في الفنون الشرعية، وإمامته فيها.
ومِن أجمع ما قيل في الثناء عليه ما ذكره الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد )، إذ قال:
"محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، كان أحدَ أئمة العلماء، يُحكَمُ بقوله، ويُرجَعُ إلى رأيه؛ لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره؛ فكان حافظًا للكتاب، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمـًا بالسُّنة وطرقها، صحيحِها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في أخبار الأمم وتاريخهم، وله كتاب (التفسير) لم يُصنَّف مثله، وكتاب سمَّاه (تهذيب الآثار) لم أرَ سواه في معناه، لكنه لم يُتمَّه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حُفِظت عنه".
وأثنى عليه الحافظ الذهبي بعد كلام الخطيب المتقدم، فقال عنه: كان ثقة، صادقًا، حافظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علاَّمةً في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات وباللغة، وغير ذلك.
ولشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ثناء كثير عليه، لو جُمِع لكان في جزء لطيف، وما ذاك إلا لما عرفه من مؤلفاته وتراجمه السؤدد في العلم والحفظ والدين، فقد وصفه بأنه من العلماء الكبار، وعدَّه في عِداد أئمة الإسلام العِظَام؛ كمالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي والليث بن سعد وأمثالهم، في المنهاج (7 /13، 286، 179).
وقال في المنهاج أيضًا (6 /52 - 53):
"... وهؤلاء أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم، وليس لهم غرض مع أحد؛ بل يرجِّحون قول هذا الصاحب تارة، وقولَ هذا الصاحب تارة، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع؛ كسعيد بن المسيب - وذكر طبقته -...، ومَن بعدَهم كابن شهاب الزهري - وذكر طبقته -...، إلى سفيان الثوري، إلى وكيع بن الجراح، ثم الشافعي وأحمد بن حنبل، ومحمد بن جرير الطبري وأبي بكر بن المنذر..."؛ فجعله في آخر العلماء المجتهدين المشهورين بذلك في القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية على الناس من أمَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال فيه ابن حجر الحافظ في (الميزان) كلمةً أَجمَلت فضائله، وأنصفته من خصومه (5 /100):
" محمد بن جرير بن يزيد الطبري الإمام الجليل المفسر أبو جعفر صاحب التصانيف الباهرة، مات سنةَ عشر وثلاثمائة، ثقة، صادق، فيه تَشيُّعٌ يسير، وموالاةٌ لا تضر...".
و لئلا أطيلَ بذكر ثنائه من أقوال العلماء - وهو كثير جدًّا - أختم بما قدَّمه بترجمته الشيخ الفقيه عبدالله بن حميد لكتابه (تهذيب الآثار) حيث قال:
(... فكان من أثر ذلك تأليفُ المؤلَّفات الضخمة العديدة التي حوت على تراث نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، من هؤلاء الجهابذة الأفذاذ الإمام أبو جعفر محمدُ بن جريرٍ الطبريُّ، فقد أجمع المسلمون على إمامته وجلالة قدره وسَعَة علمه، وألف في ذلك المؤلفات الكثيرة النافعة التي أثنى عليها أئمة العلماء، وذكروها ومؤلِّفَها بما هو أهل...، والإمام ابن جرير أشهر من أن يُذكَر وأَعرَفُ من أن يُنكَر (ثم شرع في نبذة يسيرة مختصرة عن حياته، ومما قال فيها):... ما زال العلماء في زمانه وبعده يُثْنون عليه ويذكرون فضله وعلمه وزهده وتُقَاه، فقد كان - رحمه الله - عالمـًا بتفسير القرآن، والحلال والحرام، وعالمـًا بأخبار الناس وأيامهم، وهو من فضلاء الصالحين المتقين، شهد له أهل العلم بالفضل والتقَى؛ فقد كان إمامًا في التفسير والحديث والجرح والتعديل، وعالمـًا بالأحكام وأصولها، وله أقوال واختيارات جيدة انفرد بها"[1].
وهذا في الحقيقة تطواف في التاريخ مما أُثنِي به على الإمام ابن جرير، وما ترك من الثناء لا يقاس بما قيل هنا، من ثناء أقرانه كابن خزيمة وعموم تلاميذه، ومترجمو الشافعية يذكرونه في طبقاتهم كابن كثير وابن السبكي، والفرغاني عبدالله، وابن رجب الحنبلي وغيرهم كثير، وهو - رحمه الله - أهل لهذا، وليس بكثير عليه.
[1] مقدمة الشيخ ابن حميد تلك على اختصارها، إلا أنها حافلة ومركزة عن الإمام ابن جرير وحياته العلمية - رحم الله الجميع.
- التصنيف: