الإمام الطبري - (9) مذهب الإمام الطبري الفقهي وعبادته وتدينه
كان - رحمه الله - مع ما أوتي من استعداد وتحصيل وبلوغ في العلم، لم يستمر طويلاً في اتباع مذهب الشافعي بل ذهب إلى الاجتهاد، فكان من الأئمة المجتهدين اجتهادًا مطلقًا، ولم يلتزم مذهبًا معينًا.
درَس الإمام ابن جرير الفقه - وهو علم فروع الشرع وتفاصيل الأحكام - على أئمة المذاهب في زمنه، حيث تلقَّاه عن أصحاب الإمام الشافعي في بغداد ومصر كالحسن بن محمد الزعفراني، وأبي سعيد الإصطخري في بغداد، والربيع بن سليمان الأزدي، وإسماعيل بن يحيى المزني.
ولذا أظهرَ رحمه الله في أول حياته التمذهب بالمذهب الشافعي مدة من الزمن، مع دراسته للمذهب المالكي في مصر على أبناء عبدالله بن عبدالحكم تلاميذِ ابن وهب صاحب مالك، وتلقى فقهَ الظاهرية على يد مؤسس المذهب الظاهري: داود بن علي الأصبهاني ببغداد، وقبل ذلك تلقَّى مبادئ الفقه الحنفي على أبي مقاتل بالري[1].
لكنه - رحمه الله - مع ما أوتي من استعداد وتحصيل وبلوغ في العلم، لم يستمر طويلاً في اتباع مذهب الشافعي بل ذهب إلى الاجتهاد، فكان من الأئمة المجتهدين اجتهادًا مطلقًا، ولم يلتزم مذهبًا معينًا.
قال الفرغاني أبو محمد: حدثني هارون بن عبدالعزيز، قال لي أبو جعفر الطبري: أظهرت مذهب الشافعيَّ، واقتديت به ببغداد عشر سنين، وتلقَّاه مني ابن بشار الأول أستاذ ابن سُرَيْج، قال هارون: فلما اتَّسع علمه أداه اجتهاده وبحثُه إلى ما اختاره في كتبه، وكان مذهبه هذا المختار لديه عند تلميذه ابن طرار المعافى بن زكريا بعد ابن جرير.
ولذا نلاحظ وجود ترجمة ابن جرير في طبقات الشافعية؛ لأنه كان في مبتدئه على مذهب الإمام الشافعي، ثم انتقل منه إلى الاجتهاد المطلق - على اصطلاح الأصوليين - بعد اتساع العلم والتجرد لمدلول النصوص، فلم يقلِّد أحدًا.
وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يعده في عداد المجتهدين الكبار من أئمة المسلمين.
•••
عبادته وتدينه:
إن الميزة الواضحة للعلماء في كل عصر هي التدين، بالتمسك بما علِموه من أحكام الشريعة وسلوكها ظاهرًا وباطنًا.
ومن هؤلاء: الإمام ابن جرير الطبري - مع ملاحظة النسبة والتناسب بين تدينه وحال عموم أهل عصره، وهم أحسن تدينًا ممن بعدهم - فداوَمَ على التمسك والعبادة حتى في الأوقات الحرجة في المرض، أو الكبر وبلوغ الأجل.
ويروي أبو بكر الدينوري صاحبه: أنه في يوم الاثنين الذي تُوفِّي فيه ابن جرير طلب ماءً ليتوضأ أو ليجدد وضوءه، فقيل له: تُؤخِّرُ صلاة الظهر - التي كان يستعد لها - وتجمع بينها وبين العصر؛ لأن الله سبحانه رخص الجمعَ بين الصلاتين للمريض وأهل الأعذار في حديث ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما، لكنه رحمه الله أبى، وصلى الظهر مفردة، والعصر في وقتها، صلاهما أتمَّ صلاةٍ وأحسنها، ثم توفي في آخر اليوم.
وابن جرير من العلماء العُزَّاب فلم يتزوج ولم يتسرَّ، وكان من عفافه أنه قال: ما حللت سراويلي في حرام ولا حلال قطُّ.
وكان رحمه الله يؤم الناس في رمضان، وله صوت شجيٌّ مجوَّد حسن، كان يسعى إلى سماع قراءته العلماء، قال أبو علي الطوماري: كنت أُحمَل إلى بغداد في شهر رمضان بين يدي أبي بكر بن مجاهد[2] إلى المسجد لصلاة التراويح، فخرج ليلة من ليالي العشر الأواخر من داره، واجتاز على مسجده فلم يدخله وأنا معه، وسار حتى انتهى إلى آخر سوق العطش، فوقف على باب مسجد محمد بن جرير، وابن جرير يقرأ سورة الرحمن، فاستمع قراءته طويلاً ثم انصرف، فقلت له: يا أستاذ، تركت الناس ينتظرونك؛ وجئت تسمع قراءة هذا؟ فقال: يا أبا علي، دَعْ هذا عنك، ما ظننت أن الله خلق بشرًا يحسن أن يقرأ هذه القراءة، أو كما قال.
فهذا شيخ المقرئين في زمنه ببغداد يثني على قراءة ابن جرير هذا الثناء، ولعمري فإن القراءة إن صدرت من قلب خاشع خاضع منيب كان لها وَقْعٌ في النفوس وأثر عليها، والواقع يشهد لهذا.
ومما يدل على عبادته ما ذكره مترجموه مما أودعه في كتابه "أدب النفوس الشريفة" من معالم وآثار التدين في التوكل والورع والإخلاص والتواضع ومراعاة النفوس وأحوالها.
وهو مع ما كان فيه من الاشتغال بالتدريس والتأليف والتصنيف والإملاء والإقراء... كان مع كل هذا لا يدع حزبَه من القرآن، بل ذُكر أنه يقرأ كل ليلة ربع القرآن فيختم في أربع ليالٍ.
وهذا لا شك أنه من توفيق الله له ومباركته لوقته وعمره، وإلا فما الوقت الذي يسع بعض هذا، فضلاً عن كله؟!
وإذا نظرت إلى التَّقِيِّ وجدته
رجلاً يُصدِّقُ قولَه بفعالِ
وإذا تناسبتِ الرجال فما أرَى
نسبًا يُقاس بصالح الأعمالِ
[1] ومما يتبادر هنا إلى الذهن: لمَ لم يدرس ابن جرير المذهب الحنبلي؟
وجوابه: أن ابن جرير كان معاصرًا لأحمد بن حنبل ولم يدركه مشاهدةً، بل أدرك أبناءه وتلاميذه، ولم يكن حينئذٍ المذهب الحنبلي الفقهي قد قُعِّد ودُوِّن - كما عليه فيما بعد القرن الرابع - بل كان مذهب أحمد المشهور عند تلاميذه هو مذهب كبار المحدثين الاستنباطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن ابن جرير كان يميل إلى أن الإمام أحمد كان محدِّثًا ولم يكن فقيهًا، فأهمل ذكر مذهبه في (اختلاف الفقهاء)، مع ذكر مذاهب المجتهدين كأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي والليث بن سعد مما أشغب به عليه من جهته.
[2] هو الإمام المقرئ المحدث النحوي، بل شيخ المقرئين أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي (245 - 324)، مؤلف كتاب (السبعة في القراءات ). انظر: السير (15/ 273)، وتاريخ بغداد (5/ 144)، ومعرفة القراء (1/ 216)، ومعجم الأدباء (5/ 65)، وغاية النهاية (9/ 139).
- التصنيف: