الإمام الطبري - (11) زهد الإمام الطبري وورعه
الزهد والورع اختلفت عبارات العلماء في الفرق بينهما، وبيان حدِّهما، إلا أنه بينهما اشتراك، والورع أخص من الزهد؛ بل يتضمنه.
الزهد والورع اختلفت عبارات العلماء في الفرق بينهما، وبيان حدِّهما، إلا أنه بينهما اشتراك، والورع أخص من الزهد؛ بل يتضمنه.
فالزهد: ترك شهوات الدنيا إيثارًا لنعيم الآخرة، والزاهد: هو الذي ترك ملذات الدنيا بعد أن قدَر عليها.
أما حد الورع، فهو عزيز جدًّا، حتى سئل الإمام أحمد: هل للورع حدٌّ يعرف؟ فتبسم - رحمه الله - وقال: لا أعرفه.
وقال تلميذه أبو بكر أحمد المَرْوَزيُّ: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل وذكر أخلاق الوَرِعِين، فقال: أسأل الله ألا يمقتَنا! أين نحن من هؤلاء؟! يقول هذا الإمامُ أحمد؛ فأين نحن منه؟ ومما يقوله عن نفسه؟ الله المستعان!
والإمام ابن جرير لا ينزل عن مرتبة أولئك العلماء في هذا، فقد كان عفيفًا زاهدًا وَرِعًا تاركًا أهل الولايات، كارهًا التزلف للسلاطين والأمراء وقبول هداياهم ومنائحهم، قنوعًا بما يرد عليه من المزرعة التي تركها له أبوه بطبرستان؛ ولذا كثيرًا ما يقرأ - ويقال: إنه من شعره -:
إذا أعسرتُ لم يعلم شقيقي
و أستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظٌ لي ماءَ وجهي
ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي
لكنت إلى الغنى سهل الطريق
هذه نظرته - رحمه الله - للدنيا، ومضى على هذه النظرة في كل حياته، حتى إنه ربما أبطأت عنه نفقته، فيضطر إلى فَتْق قميصه وبيعه.
وسبقت قصته مع محمد المروزي وابن خزيمة والروياني لما اجتمعوا في الطلب بمصر، وضاقت عليهم النفقة جدًّا، حتى طووا أيامًا لا يجدون ما يأكلون، فكانت كرامتهم نفقة الأمير عليهم وهم لم يسألوه، بل رأى منامًا بحال المحامد الأربعة هؤلاء.
ومن شواهد زهده أن الخليفة المكتفي بالله (289 - 295) قال لوزيره الحسن بن عباس: أريد أن أوقف وقفًا تجتمع أقاويل العلماء على صحته ويسلم من الخلاف، قيل له: لا يقدر على ذلك إلا ابن جرير، فأحضر ابن جرير، فأملى عليهم كتابًا لذلك،
فلما تم ذلك الكتاب، أعطي جائزة سنية (ثمينة)، فأبى رحمه الله قَبولَها فعزم عليه، أنه لا بد من قبول الجائزة أو تُقضَى لك حاجة، فقال: نعم، الحاجة، أسأل أمير المؤمنين أن يتقدَّم إلى الشُّرَط أن يمنعوا السُّؤَّال من دخول المقصورة يوم الجمعة للاستعطار، فعَظُم رحمه الله في نفوس الخليفة وأمرائه، وتقدَّم بذلك عندهم.
فانظر إليه لم يتحرَّ شيئًا لنفسه، وإنما منع المسألة في المسجد يوم الجمعة، فهي مصلحة عامة.
ومن نماذج زهده ما رواه الفرغاني في ذيله على تاريخ الطبري: أن ابن جرير لما دخل بغداد في أول أمره في الطلب، سرقت بضاعتُه التي يتقوت منها، فباع كمَّيْ قميصه.
فقال له بعض إخوانه: تنشَّط لتأديب ولد الوزير أبي الحسن يحيى بن خاقان؟ قال أبو جعفر: نعم، فمضى ذلك الصديق وسهل هذا الأمر، وأعار ابن جرير ثوبًا، فقربه الوزير ابن خاقان ورفع مجلسه وأجرى عليه عشرة دنانير في الشهر للتأديب.
فقبل أبو جعفر مشترطًا رخصة له في وقت طلبه العلم وللصلاة وللراحة، وسأله أن يسلفه رزق شهر ففعل الوزير.
فلما دخل حجرة التأديب، وخرج إليه ابن الوزير وهو المشهور بعدئذٍ بأبي يحيى، أخذ يعلمه حتى كتب على اللوح، فأخذه خادمه فرحًا وأدخله على أهله وخدمه لتعلمه الكتابة، فلم تبق جارية في القصر إلا أهدت لابن جرير صينيةً فيها دراهم ودنانير، لكنه - رحمه الله - ردَّ الجميع، وقال: قد شورطت على شيء، فلا آخذ سواه، فعلم بذا الوزير فأدخله عليه واعتذر منه، وعظُم في نفسه.
أقول هذا دلالة على عدم مبالاته لهذا الحطام وإن كَثُرَ، ولو أخذه لم يلحقه حرج؛ لأنه ليس مقابل تعليمه، بل هدية له زيادة على راتبه الذي رتبه مع الوزير واتفق معه عليه، ولكنه شأن الزهد وفراغ القلب من الدنيا.
وثالثة أختم بها الكلام عن زهده: أن الوزير العباس بن الحسين أرسل إلى ابن جرير قائلاً: أحببت أن أنظر في الفقه، وطلب من ابن جرير أن يعمل له مختصرًا فيه، فكتب ابن جرير كتابه (اللطيف من الخفيف في أحكام شرائع الإسلام)، وهو مختصر عن كتابه الكبير (لطيف القول)، فلما تم المختصر أرسله للوزير فأعجبه وأرسل إليه بألف دينار هدية، لكنه - رحمه الله - لم يقبلها، ولما طلب منه أن يأخذها ويتصدق بها على من يرى، قال: لا، هم أعرف بمن يستحق عطاياهم، أو هم يرون أهلها.
وهذه شبيهة بما سبقها من طلب الخليفة المكتفي، ويظهر أنها واقعة ثانية؛ لاختلاف السياقين، وربما تكون قصة واحدة لوحدة الموضوع والهدف.
أما ورعه - رحمه الله - فشيء ليس بمستغرب على أمثاله، لكنه عزيز في منواله، وأكثر ما يعتري العلماء مما يبيِّن ورَعَهم عزوفُهم عن تولي القضاء، وهو ما وقع لشيخنا أبي جعفر الطبري.
وذلك أن الوزير يحيى بن خاقان - في عهد المتوكل وبعده - لما تقدم في وزارته، بعث لأبي جعفر بمال كثير، فأبى رحمه الله أن يقبله، ثم عرض عليه القضاء فامتنع منه ابن جرير، ولكنَّ أصحابه ومحبِّيه عاتبوه على امتناعه، وقالوا له: لك في هذا ثواب، وتُحيي سنةً قد اندرست، وطمعوا أن يقبل ولاية المظالم، لكنه - رحمه الله - انتهرهم وقال: قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه، فاستحيوا من جوابه.
ومن ورعه إباؤُه عن أخذ ما دفعته له الجواري لما أدب ابن الوزير وعلمه الكتابة؛ حيث أساء إليهن عدم أخذه لهداياهن، فبلغت الإساءة الوزير فقال له: يا أبا جعفر، سَرَرْتَ أمهات الأولاد في ولدهن فبَرَرْنَك، فغممتهن بردِّك الهدية، فأجابه ابن جرير: لا أريد غير ما وافقتني عليه.
كانت هذه القصة وأبو جعفر شابًّا لم يصل الثلاثين من عمره، والدنيا حينئذٍ زهرة في حال مثله.
وقد وصفه تلميذه عبدالعزيز بن محمد الطبري: بكونه شديد التوقِّي والحذر مما ينافي تدينه وورعه، خصوصًا مما يدخل عليه من زهرة الدنيا، وأنه كان على قسط عظيم من النزاهة والبعد عن المشتبهات، واقتصاره الشديد على ما يصله من إرثه بطبرستان، حتى إنه لما دخل مصر وعَظُم شأنه عند العلماء هناك، ونزل جوار شيخه الربيع بن سليمان الشافعي بأمره له، جاءه أصحاب الربيع فقالوا له: تحتاج إلى قصرية، وزير، وحمارين، وسدة (وهي السرير).
فأجابهم ابن جرير: أما القصرية، فأنا لا ولد لي، وما حللت سراويلي على حرام ولا حلال قط.
وأما الزير، فمن الملاهي، وليس هذا من شأني.
وأما الحماران، فإن أبي وهب لي بضاعة، وأنا أستعين بها في طلب العلم، فإن صرفتها في ثمن الحمارين، فبأي شيء أطلب العلم؟!
فتبسموا، فقلت: إلى كم يحتاج هذا؟ فقالوا: إلى درهمين وثلثين، فأخذوا ذلك مني، ثم علمت أنها أشياء متفقة.
وجاؤوني بإجَّانة وحب للماء (وهما إناء لغسل الثياب، وزير) وأربع خشبات قد شدوا وسطها بشريط (وهي السرير)، وقالوا: الزير للماء، والقصرية للخبز، والحماران والسدة تنام عليها من البراغيث.
قال: فنفعني ذلك، وكنت لما كثرت البراغيث ودخلت داري نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته، واتزرت وصعدت إلى السدة خوفًا منها.
هذه حال الإمام في داره، وهي غاية الزهد والتواضع وقلة ذات اليد، مع عفافه وإبائه عما عند الناس، ولو كان حقيرًا قليلاً، فما أدري لو دخلها سارق ما يجد فيها ليخرج إلا بحسرة الندامة، وربما التوبة والإنابة؟
- التصنيف:
- المصدر: