إلى من أنار لي الطريق...

منذ 2020-08-11

قضى الله سبحانه – ولا راد لقضائه و لا معقب لحكمه – في صبح يوم الجمعة الثالث من شهر ذي الحجة لسنة ألف و أربعمئة وواحد و أربعين من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم – قبض روح عبده أبي الحسن ساعد بن عمر غازي

بقلم: عبدالمنعم مطاوع
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...
قضى الله سبحانه – ولا راد لقضائه و لا معقب لحكمه – في صبح يوم الجمعة الثالث من شهر ذي الحجة لسنة ألف و أربعمئة وواحد و أربعين من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم – قبض روح عبده أبي الحسن ساعد بن عمر غازي آل مصبّح و كان الشيخ - رحمه الله- يعاني من الأدواء المزمنة، وكانت تزداد شدةً مع تقدم السن – الذي بلغ سبعين عامًا وبضعة أشهر- ومع ذلك كنت – أحسبه – صابرًا محتسبًا على هذا الابتلاء، وكانت - بحمد الله – لا تقعده عن فرض يؤديه، أو عن طاعة يفعلها، أو البحث و التفتيش في الكتب و المراجعة لمسائل العلم – الذي أفنى زهرة شبابه و كهولته و شيخوخته فيه – بهمّة منقطعة النظير إلى آخر يوم في حياته؛ فقد تواصلت معه قبل وفاته ببضع ساعات وظل يكلمني أكثر من ثلث ساعة في مواضيع متنوعة، وكان منها أن قال لي: إن الأخ صلاح هَلَل أرسل إلى ترجمة للشيخ محمد عمرو – رحمه الله- و هي من أحسن التراجم التي ترجمت للشيخ، والتراجم السابقة ظلمته. وقد سألت أخي صلاح – حفظه الله – متى أرسلت للشيخ الترجمة فأخبرني أنه أرسلها ظهر يوم الخميس – أي قبل أن أكلمه أنا بساعتين – فبالله عليك انظر لحب العلم، وشغف المعرفة، مع شدة المرض و الهبوط الشديد لضغط الدم، ومحاليل...إلخ، ويقرأ الترجمة ويخبرني بما سبق من رأيه فيها!! و أحسبه - رحمه الله - ممن قال فيهم نبينا – صلى الله عليه وسلم – "خير الناس من طال عمره وحسن عمله".
كان عاشقًا للعلم بمعنى الكلمة – سيما علم الحديث، محبًّا للحق، باذلًا فيه ما يستطيع من جهد، غير مبالٍ في الوصول إليه بما يلقى من تعب، أو أذىً ، أو إعراض، و لا أدل على هذا التفاني في حب العلم من أنه لم ينشغل طوال عمره من يوم عرف الطريق إليه إلا به، كانت الدنيا مفتحة الأبواب له، تدعوه أن يعيش حياة المترفين المدللين؛ فقد ولد في بيت ثراء، وكان والده من أصحاب البكوِيَّة، وجده من أرباب الباشويَّة، ومع ذلك أراد الله له أن يحيا الحياة السعيدة الطيبة، فحماه الدنيا و فتنتها، حتى الفترة التي سافر فيها إلى السعودية لم ينشغل بغير العلم.
وأيضا مع تقدمه في السن وتوارد وتداعي الأدواء عليه ربما يقرأ في اليوم و يبحث و ينقّب و يكتب أكثر من ست عشرة ساعة، وكان في صدر شبابه يزيد على مثل هذا، وقد تعرفت على شيخي وأستاذي ومن دلني علي الطريق، و أنار لي السبيل، وظل على هذه الحال معي إلى يوم وفاته.
عرفته في مسجد عباد الرحمن بالمنصورة، وكان من المساجد التي تعمر بالنشاط الدعوي، ودروس العلم، وكان يؤمها الشباب من أمثالي ليتعرفوا على دينهم، ويقتبسوا من علوم السالفين، وكان ذلك عام 1989م من القرن الماضي، ومن يوم جلست إليه، أحببته في الله، وأحسب أن الله حببه فيّ، وكنت أكاد لا أتخلف عن درس من دروسه و التي كانت مختلفة عن دروس غيره من أهل العلم في ذلك الوقت ، كان كلام الشيخ من عند نفسه قليلًا، وعامته من الكتب التي يحملها معه – ربما بلغت خمس أو سبع أو أكثر من المجلدات كانت في مصطلح الحديث، و القواعد الفقهية، وبعض الأحكام الفقهية – وقد رزقني الله في هذا المسجد بإخوة صدق، انتفعت بصحبتهم غاية الانتفاع، ولا زال الشيخ يقربني و يدنيني منه حتى كنت أذهب إليه في بيته وكان قد خصص غرفة كبيرة فيه للمكتبة، وكان يحضر معي بعض إخواني وربما ننسى الوقت فإذا به قد انتصف الليل وقد أتينا ربما عصرًا، و كان للشيخ دروسًا أخرى خارج المنصورة أذكر منها درسًا في بلدة "ترعة غنيم" وهي بلد الشيخ محمد رزق ساطور - رحمه الله - وكنت أذهب مع الشيخ وننتهي من الدرس و نبيت ثم نعود صباحًا إلى المنصورة، وأيضًا كان هناك درس في مدينة بلقاس في مسجد الزهراء، وكان فيه كثير من الأفاضل كالشيخ/ مجدي قاسم وغيره، وكنت أنهل من علم الشيخ ليس في هذه الدروس وحسب بل أثناء السفر ذهابًا و إيابًا.
وحينما افتتحت المعاهد العلمية في المنصورة شارك الشيخ بالتدريس فيها منها: معهد مسجد عباد الرحمن، ومعهد الجمعية الشرعية، وكان يشرح فيها الشيخ القواعد الفقهية للشيخ السعدي ولازال تفريغ هذه الدروس عندي ولله الحمد.
وللشيخ طريقة فريدة في التعليم، نافعة جدًّا لطالب العلم؛ ألا وهي: أنه يعرض المسألة ويصورها – أيّا كانت – فإن كانت خلافية ذكر فيها الخلاف وأدلة المختلفين والقائلين به، وردود بعضهم على أدلة بعض، ثم يدع الشيخ الطلاب يتمرنون على تبني ما يرونه من الأقوال ويناقشهم، وبذلك كانت ترسخ المسائل في الأذهان، وتتسع مدارك الطلبة، وتنمى الملكة أثناء هذه النقاشات، و مما كان يتميز به شيخنا أنه لا يتعجل مطلقًا بتبني رأي أو اعتماد معلومة دون بحث عميق وصبر مديد حتى يطمئن لصواب ما انتهى إليه بحثه، و كانت له طريقة خاصة و فريدة في قراءة الكتب؛ فكان قلما يقرأ كتابًا إلا وله عليه تعليقات، وربما استدراكات وتصويبات متنوعة، ثم إذا انتهى من ذلك يبحث عن سبيل لإيصال هذه التعليقات إلى صاحبها –مؤلفًا أو محققًا ما استطاع إلى ذلك سبيلًا – ولقد رأيت عجبًا في مسارعة الشيخ بقراءة ما يناوله بعض الأفاضل من تأليف أو تحقيق، ويترك كل مشاغله وبرامجه ويقبل على ذلك بهِمّة عجيبة حتى إنه ربما لا يصبح الصباح إلا وقد انتهى شيخنا من جرد الكتاب، مع دقته المعهودة في مراجعة كثير من المواضع على أصولها، ثم يبادر بإعطاء ذلك كله لصاحبه، وربما لا يترك لنفسه نسخة من هذه التعليقات!! حتى إن من أعطاه يتعجب من هذه السرعة العجيبة في إجابة طلبه، مع هذا الاتقان العجيب في استخراج المواطن التي تحتاج إلى تعليق، فأين هذا بالله عليكم في دنيا الناس اليوم؟! فقد رأيت الكثير و الكثير ممن إذا قرأ كتابًا فوجد فيه ما يستدرك على مؤلفه بادر بنشر ذلك على وسائل التواصل، وفي مجالسه العامة والخاصة، ولا يخطر بباله أن يتواصل مع صاحب الكتاب ناصحًا له بما عسى أن يكون قد وقع فيه من خطأ أو غيره.
و الشيخ دائمًا يقرر أنه لا يحسن أن يكون طالب علم!!! وأنه ليس عنده شيء!!! وكان في باب هضم نفسه آية، وفي طلب الخمول والخوف من الشهرة شيء عجيب – وربما فات بعض الطلبة من علم الشيخ بسبب هذا الأمر وحرصهم على الحضور للمشاهير-.
وقد لزمت الشيخ قبل سفره – بحمد الله – ست سنوات و لم تنقطع صلتي به بعد سفره أبدًا، بل كنت دائم الاتصال به، وزرته مرات في الرياض، وحينما ينزل في أجازات إلى مصر، وقد نفعه الله بلقاء أكابر العلماء في الديار السعودية كأمثال الشيخ ابن باز، وابن عثيمين، وابن جبرين، والبراك، و الفوزان وغيرهم، حضر مجالسهم العامة و الخاصة، وحدثني مرة أن الشيخ ابن باز قد استضافه بعض الفضلاء ودعا الشيخ للحضور، وقدمه للشيخ ابن باز بأنه من أهل العلم من مصر، فرحب به الشيخ ابن باز، قال لي الشيخ فسألت الشيخ ابن باز عن اختلاف الصحابة في مكان دفن النبي – صلى الله عليه وسلم – و أن بعضهم رأى أن يدفن في مكة، وبعضهم في بيت المقدس...إلخ، و أجاب الشيخ ابن باز على السؤال، و أن من خصائص الأنبياء أن تدفن حيث تقبض، ثم قال الشيخ ابن باز: (وهذ أمر قد فرغ منه، و لا يترتب عليه عمل و لا مصلحة الآن).. وأخبرني شيخي بإعجابه الشديد بإجابة الشيخ وهذا الاستدراك البديع الذي ذيل به الكلام، رحمهما الله تعالى وسائر علمائنا.
وكان الشيخ قد صنف بعض الرسائل الطيبة المحققة لمسائل العلم منها: رسالة "الإنصاف"، ورسالة "كيف تنجو من عذاب القبر"، ورسالة "حكم التداوي بالمحرمات" وغيرها، وكان للشيخ مشروع تقريب علوم الشيخ الألباني، ولما رجع إلى مصر منذ سنتين نشر كتابًا له في هذا المشروع بعنوان "الغصن الداني على مصنفات الإمام محمد ناصر الدين الألباني"، وفيه بحمد الله تعالى من الفوائد العلمية و التحقيقات لمسائل حديثية دقيقة لا تجدها إلا في مثله، وللشيخ كثير من المقالات العلمية على مواقع الشبكة العنكبوتية، و أخرى في أدراج مكتبه – و إن شاء الله تعالى سأجتهد مع بعض إخواني من محبي الشيخ و عارفي فضله أن نجمع كل تراث الشيخ المخطوط و المطبوع و المقالات و تعليقاته على الكتب التي في مكتبته وقلما يخلو كتاب منها من ذلك، مع تحلية ذلك بمقدمة عن حياة الشيخ ورحلته مع العلم و الدعوة، كل ذلك بعنوان "الأعمال الكاملة لتراث الشيخ ساعد غازي"، أسأل الله أن ييسر ذلك، و أن يعين عليه سبحانه، و أن يجعله في موازين حسنات شيخنا، و أن يبقي له ذخره في الآخرة.
وكان من بركات صحبة شيخنا – غير العلم الذي استفدته منه – أن عرفني على فضلاء أهل العلم في بلدتي المنصورة و غيرها، وكان ممن عرفني بهم و أرسل معي رسالة إليه و أوصاني أن أستفيد من علمه شيخنا أبا إسحاق الحويني – شفاه الله و عافاه ورده سليمًا معافى إلى أهله ووطنه و محبيه آمين – و أعطيت الرسالة للشيخ بعد أحد الدروس في مسجد عباد الرحمن بكفر الشيخ فرحب بي و دعاني إلى بيته، و أكرمني و استفدت من علمه، و تكررت اللقاءات بين الشيخين بحضوري وكم رأيت في لقاءاتهما من العَجَب، و الاحتفاء، و إظهار فضل كل واحد منهما لصاحبه، ولذلك حديث آخر…
وعرفني كذلك شيخنا على شيخي الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أبي العينين - وقد جعله الله لي سلوى بعد سفر الشيخ ونفعني بصحبته وقرأت كثيرًا من كتب السنة على شيخنا الشيخ أحمد و لله الحمد – و الشيخ ابن أبي العينين من أكثر العارفين بفضل علم شيخنا الشيخ ساعد – رحمه الله – وكان يجله و يعظمه و يقدمه على نفسه، و يطلب منه أن ينظر في كتبه و تحقيقاته، وينصحه بما يراه صوابًا، وقد رأيت في ذلك منهما جميعًا آيات مبهرة في إرادة الحق، وحب النصح، و التعاون الأخوي بين أهل الفضل و العلم، و من أولى منهم بذلك!! ولا أدل على معرفة الشيخ ابن أبي العينين بفضل الشيخ ساعد وعلمه من ذلك الرثاء الذي رثاه به يوم وفاته وقوله إنه يعتقد أنه أعلم أهل مصر بالنقد الحديثي ودلل على ذلك بأدلة.
وإذا أحببت أن أجمل ما سبق في نقاط محددة فأقول:
* حبب الله لشيخنا العلم، وأقبل على العلم بكل ما آتاه الله به من ملكات وجهد.
* كان رحمه الله: صلبًا في دينه، لا تطمع أن تظفر منه بمداهنة على حساب الحق.
* كان رحمه الله: معظِّمًا للوحي، ولا يقدم آراء الرجال – مهما بلغوا – على الآية والحديث.
*كان رحمه الله: يحب الخير والعافية للمسلمين، وينصح لهم بما بلغه علمه.
* كان رحمه الله: يحب التعاون بين العاملين للإسلام، ويدعوهم إليه.
* كان رحمه الله: محبًّا لإخوانه من أهل العلم؛ يذكر مآثرهم لطلابه، ويحثهم أن ينتفعوا بهم.
* كان رحمه الله: يؤثر مصالح إخوانه على نفسه، وينشغل بالنظر في أعمالهم العلمية أكثر من انشغاله بأعماله ومصنفاته الخاصة.
* كان رحمه الله: لا يكاد يرد طالب علم بالزيارة، أو الاتصال، واسألوا من خالط الشيخ عن الساعات الطويلة التي كان يقتطعها من وقته في التواصل معهم لإفادتهم فيما يعرضونه عليه.
* كان رحمه الله: لا يحتَدّ إلا في أمرين؛ أولهما: إذا أحس أن أحدًا يريد أن ينتقص من كرامته، والثاني: إ ذا رأى من يجادل بغير حق.
* كان رحمه الله: غاية في ا لتواضع حتى مع طلابه، ويكفي أني لا أحصي عدد المرات التي لقيته فيها أو تواصلت معه عبر الهاتف وتباحثنا في مسألة أو مسائل إلا ويذيلها بقوله - رحمه الله –: جزاك الله عني خيرًا، لقد أزلت عني الجهل!! أو هذه الفائدة لم أكن أعرفها...إلخ، في أمور بهذا المعنى لا أحصيها، وهاهنا تسكب العبرات!!
* كان رحمه الله: على ما ذكرنا سابقًا من بعض حدة قد تعتريه أحيانًا، إلا أنه كان يتمتع برقة مشاعر عجيبة، وطيبة قلب شديدة، وغزارة وقرب دمعة لا يستطيع حبسها لأقل المواقف التي كانت تثير شجونه، وقد زادت هذه الرقة وكثرة البكاء خاصة بعد عودته من رحلة سفره، فكان يأتي معي أحيانًا و ربما كثيرًا و أنا أخطب في بعض مساجد المنصورة أو خارجها، و كان و الله لا تمر خطبة إلا و أشاهده يبكي، ويظل متأثرًا بالكلام بما أغبطه عليه لمدة طويلة.
وإلى هنا أنهي كلمتي، وإن لم ينته الحديث عن شيخي وأستاذي ومعلمي...رحمك الله يا شيخ ساعد، وطيب ثراك، وجزاك الله عني وعن إخواني من طلاب العلم خير الجزاء، وأسأل الله أن ينزلك منازل الأبرار والصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقًا، و نسأله أن ينزل السكينة على قلوبنا في مصابنا و على أهل بيته و أولاده ومحبيه.
وكتب حامدًا مصلّيًا على نبيك
صابرًا لقضائك، شاكرًا لحسن بلائك

عبد المنعم مطاوع
المنصورة – مصر
عصر يوم الاثنين 6 ذو الحجة 1441هــ

 

  • 10
  • 0
  • 2,890

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً