السهم القاتل
عجباً لمن تجرأ على نفسه فاحتسى سماً زعافاً، فبينا هو قد قارب الهلاك، إذا به يرمق بعينين ضامرتين، وينظر نظر المغشي عليه من الموت، يرمق جاراً له آمناً في سربه ..
عجباً لمن تجرأ على نفسه فاحتسى سماً زعافاً، فبينا هو قد قارب الهلاك، إذا به يرمق بعينين ضامرتين، وينظر نظر المغشي عليه من الموت، يرمق جاراً له آمناً في سربه، معافىً في بدنه، غذاؤه شفاء، وشرابه دواء، يدفع إليه كأس السم القاتل، مُغوياً له ليرتشفه ، ولك أن تزداد عجباً بعدها من قبول السليم سم السقيم ، بل وإدارته الكأس للأصحاء من حوله.
لا ريب عندي البتة بفطنة القراء ومزيد حصافتهم، وإلا لما قدمت بكلامي ذاك مقالتي.
إنه السهم القاتل الذي ما فتئ أهل الغرب ونافخو أبواقهم، ومرددو دعواتهم يصمّون آذاننا بمروقه، محاذياً لأفئدةٍ رقيقة لا تلبث أن تحترق بلظى ذلك الشهاب الثاقب ، أو يمسها من حره مس، إنه سهم "تحرير المرأة"، يمرق محاذياً أفئدة نساء المؤمنين ، وقد طالعتنا به صُحف الغرب مجدداً من بعد (قاسم أمين)، الذي - وعلى التحقيق - لم يكن هو كاتب "تحرير المرأة" بتمامه، بل حرّر جزءاً من كتابه وأعانه على تحرير كثير منه قوم آخرون [1] !! مؤكدة تلك الصحف حرصها المستميت على منح المرأة المسلمة - وبخاصة في المملكة الحبيبة - حريتها في التعلم، وحقها في إبداء الرأي، وضرورة افتكاكها من القيود المفروضة عليها اجتماعياً، وتسلمها حقوقها تامة غير منقوصة كما مُنحتها المرأةُ الغربية.
فلبثتُ ملياً عند تلك الدعوة، وأحببتُ أن أكون منصفاً لكلتا المرأتين ، العربية والغربية، لأُمايزَ بينهما، وقد وجدت أن المرأة الغربية قد فاقت فعلاً المرأة العربية، إنما بإعجام الغين وحسب ، ونقصت عنها العربية بإهمال العين فقط. ولم أجد مزية للغربية على العربية إلا هذا ، بل لقد وجدت مزيد عناية لدينا بأمر المرأة طلباً لكمالها، ومزيد عناية لديهم بالمرأة طلباً لامتهانها.
وهاك - إن أخذتك العزة بالغرب - مصداق كلامي واقعاً تاريخاً ومعاصرة:
إن بلداً أوروبياً - هو رأس الفرانكوفونية[2] في العالم - لم يشرع في دستوره منح حق الملك والتصرف للمرأة إلا في القرن العشرين، لكنها لم تمنحها ذلك ابتداءً، بل كان ذلك جرّاء النضال بعد النضال، وتكسر النصال على النصال، خضوعاً لضرورة اقتصادية داعية إلى ذلك. وإن ملكة عليها يوماً قالت لما صفعها زوجها الملك: "سيدي إذا كان هذا يرضيك فأعد لطمي ثانية".
"وقد اعترفت منظمة اليونسكو - المرجع الثقافي الأهم في العالم - بأنْ ليس ثمة شك في أن مركز المرأة هو أدنى من مركز الرجل في كل مكان، وإلا لما غدت المرأة هدفاً محدداً للمشاريع الإنمائية، وفي المؤتمر العالمي للعام الدولي للمرأة (المنعقد في مكسيكو سيتي 1975م) أقر المؤتمر بأن الهدف - المعلن - للمؤتمر هو: إثبات أن المرأة في عملية الإنماء هي الشريك الكامل المادي للرجل "[3]، ولتتأمل - أخي القارئ - في الشراكة المادية، وما يكمن في الحرص عليها من توظيف لقدرات المرأة، أياً كانت هذه القدرات، ولو لم تتفق ومكانتها الاجتماعية وكرامتها المفترضة، وفي ذلك الهدف المعلن إشارة إلى اعتراف مبطّن بتدني مكانة المرأة على المستوى العالمي، وتهميش دورها لا في المملكة على الأخص، ولا في المنطقة العربية فحسب، بل على صعيد العالم بأسره.
ولننظر بعدها إلى "تقرير نشرته وزارة العدل الأمريكية أواخر حزيران (1994م)، حول معدلات الاغتصاب في واشنطن وفي إحدى عشرة ولاية أخرى خلال عام واحد (1992م) وقد بلغت عشرة آلاف حالة!. وأن نسبة 4% فقط من هذه الحالات قد تمت من قِبل أشخاص مجهولين! وتوازع البقيةَ منها المحارمُ والأقرباء والأصدقاء !!
وفي تقرير مشترك أُعِدّ من قِبَل: "مركز الأبحاث ومعالجة ضحايا الاغتصاب" و"مركز الضحايا الوطني الأمريكي" تبين فيه أن إجمالي من تعرض من النساء الأمريكيات للاغتصاب لمرة واحدة على الأقل قد بلغ 12.1 مليون أمريكية "[4]. وقد أشارت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" الأمريكية في تقرير نشرته في ديسمبر 1996م، إلى أن ظاهرة ذهاب الأمهات إلى العمل تشكل تهديداً خَطِراً على حياة الأسر الأمريكية، وتشير دراسات أخرى إلى أن ثلاثاً من بين أربع أسر أمريكية تعيش حياة أسرية متفككة، إما بسبب الطلاق أو ظروف العمل المفرِّقة للأبوين"[5].
ولن أبالغ في سرد نتائج تقارير رسمية وغير رسمية صادرة عن أهل الغرب، لكني أحببت بيان جرعة من السم القاتل الذي تتجرعه المرأة الغربية ولا تكاد تسيغه، ولأشير إلى موت يأتيها من كل مكان وليست بميتة، وأزيدك - إن رغبت الاستزادة - "أن المؤتمرات المنعقدة لإنقاذ المرأة - بزعمهم - بدءً من 1975م في المكسيك إلى مؤتمر المستوطنات البشرية الثاني في تركيا 1996م، هذه جميعها لا هدف لها إلا تفتيت مجتمعات لا زالت متماسكة، ومن أهمها مجتمعات الدول الإسلامية، والحدّ من معدلات الزيادة السكانية فيها، حيث إن معدلات النمو السكاني في الدول الغربية هي بانخفاض مطّرد، فلا بد من العمل إذاً على نشر ما يفتت الأسر المسلمة وما يحدد النسل فيها، كيما تلحق سراعاً بانهيار المجتمعات الغربية، وإلا فإنها بحفاظها على تماسكها سوف تشكل - ولا شك - خطراً داهماً على هيمنة المجتمعات الغربية عليها.
ونحن نذكر هنا - إنصافاً - تلك الصرخة المدوية التي أطلقتها الأمريكية "دالي أدلياري" رئيسة جمعية الأمهات الصغيرات، في المؤتمر الدولي للسكان المنعقد في القاهرة (سبتمبر 1994م)، قائلة: لقد دمروا المجتمع الأمريكي، وجاؤوا الآن بأفكارهم للمجتمعات الإسلامية ليدمروها، ويدمروا المرأة ودورها فيها، أما " بيل شيروين " فقد نعتَ الداعين إلى تحديد النسل بمدمري الأسر، وأن هدفهم هو الحد من الإنجاب بشتى الطرق"[6]. نقول: شكراً لهما على تجردهما، ويا حبذا لو ينطق مقلدو الغرب عندنا بمثل ما نطقا به!!
عذراً إليكم - أهل الغرب - فالمقام لا يحويه المقال، ذلك أن نساءنا عزيزات علينا، أكثر مما تحسبون، ويعز علينا أن يصلحهن دول وهيئات ومفكرون أقروا مبدأ المساكنة، وألغَوا قدر الأمومة من وجدان غالب الفتيات الغربيات، وارتضَوْا بالتضحية بتماسك الأسر، وحولوا المرأة إلى آلة صماء في العمل، وبتدرج منحدر في المناصب من رئاسة وزراء، إلى ما دون ذلك مما يربأ بالمرأة عن عمله!! طلباً للاستقرار الاقتصادي في المجتمع، فأوقعوها فريسة وَهْم كبير مؤداه مرض نفسي، وكراهية متدرجة مبرمجة تبدأ بكره المراهق الذي حاول الاعتداء عليها صغيرة، ومروراً بالأب الذي لا يسمح لها بالسكن في منزله بعد الثامنة عشرة حتى تؤدي له بدل إيجار مناسب، ثم بخليل يتصورها مصب شهوة وقضاء نزوة، ثم زوجاً يُلزمها بالمشاركة في العمل لأداء ما يلزمها من نفقات بيتية وشخصية، ويريد منها بعد ذلك أن تحنو في أحشائها على طفله وتولده وتربيه وترعى شؤون المنزل، ثم يتجرأ بعد ذلك كله على هجرها واتخاذ خليلات له، هذه الحياة البائسة للمرأة الغربية تحب وسائل الإعلام الغربية في الآونة الأخيرة أن تلبسها لبوساً براقاً وتكسو بها المرأة العربية، لكن لهم نقول: لم لا نستطلع سوياً - ولو من باب العلم بالشيء - حال المرأة المسلمة التي ارتضتها المرأة في بلادنا قدوة لها:
• المرأة المسلمة: لها الحق الكامل في العمل المشروع - المتناسب مع قدراتها وكفاءاتها، وبما يحفظ عليها كرامتها - إذا هي أرادته، على الرغم من أنها قد أعفيت من أعباء الكسب، مع الحفاظ على التوازن بين واجب الأمومة ورعاية الأسرة، حفاظاً بذلك على كيان المجتمع بأسره.
• المرأة المسلمة: هي الوحيدة في تاريخ الحضارات التي اهتمت بالشؤون العامة مثل اهتمامها - إن لم يزد - بالشؤون لخاصة.
• المرأة المسلمة: تقوم عزة الأمة بها، بقيام فريضة الجهاد، وذلك بإيثارها رفعة المبدأ على محبة الزوج ومحبة الولد، باحتساب وفداء، بل وبمساهمة فاعلة بالنفقة، والتمريض، وتوصيل المؤن، وبالقتال أيضاً، إن احتيج إلى ذلك.
• المرأة المسلمة: أعطيت حق البيعة (وهو حق فكري وسياسي رفيع المستوى) تقدمه لرأس السلطة، منذ عهد الإسلام الأول.
• المرأة المسلمة: مُنِحَتْ حق الهجرة - ولو كانت متزوجة - عند اقتناعها التام بمبادئ الإسلام، فتلحق مهاجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو نضال ما بعده نضال لمن عقل النضال، وحرية ما بعدها حرية لمن أدرك معناها.
• المرأة المسلمة: علّمت العلماء، وأدبت الأدباء، وتعلمت الطب، ولا تعجبوا يا أهل الغرب فهاكم السيدة عائشة رضي الله عنها مصداقاً لما نقول.
• المرأة المسلمة: قد خالفت باجتهادها الخليفة الراشد (عمر رضي الله عنه) إيجابه تقليل المهور، فنزل عند رأيها، فنحن قوم نقدر أهل الرأي والاجتهاد، فقد تصيب فيه امرأة ويخطئ أعظم الرجال.
• المرأة المسلمة: وقفت خطيباً بين يدي حامل الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم، تسأله في أمر دينها، وتستأذن في مشاركة الرجل في الجهاد، فدلها عليه الصلاة والسلام على أن "حسن تبعلها لزوجها وطاعتها له بالمعروف، تعدل ذلك كله"، تأسيساً للأسرة التي بها قوام المجتمع بأسره.
• المرأة المسلمة: نالت حق الإجارة (اللجوء السياسي)، تمنحه هي لمن شاءت من غير المسلمين، في الحرب والسلم، وهذا ما لم تنله امرأة قط لا في شريعة حمورابي، ولا في مبادئ بوذا، ولا في تحرير المرأة على النمط الغربي اليوم، وقد فعلت ذلك أم هانئ بنت أبي طالب، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ". فلم يجرؤ أحد بعدُ على أن يخفر ذمة امرأة أجارت، أو أن ينقض فعلها.
• المرأة المسلمة: تساوت مع الرجال في حقوقها الدينية تكليفاً وجزاءً.
• المرأة المسلمة: نالت حق المخاصمة إلى القضاء استحصالاً للحق ودفعاً للضر.
• المرأة المسلمة: زادت عن الرجال في عدم إيجاب المهر عليها، وفي عدم إلزامها بالنفقة حتى على نفسها وأولادها. مع أنها قد نالت حقاً من الميراث تملّكته نصيباً لها مفروضاً.
• المرأة المسلمة: لا وصاية عليها في مالها ، ولها التبرع، ولها التصدق، ولها الوقف، ولها الاتجار، ولها الكفالة، كما أن لها جميع حقوق الملك المشروع ، والتصرف المشروع.
ومن تأخير ما حقه التقديم: فإن قدوة المرأة المسلمة، في إعداد الرجال: امرأة جاوزت أعوامها المائة، تنصح ولدها المعارض لظلم الحاكم فتقول: "يا ولدي لضربة بسيف في عز أحب إلي من ضربة بسوط في ذل"، فلما صلب الظالم ولدها وكُفّ بصرُها حزناً عليه جاءت الظالم لا لتستجديه إنزال ولدها، بل لتعلمه كلمات يعجز أعظم الرجال عن قولها. قالت أسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) والدة عبد الله بن الزبير للظالم الحجاج بن يوسف الثقفي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج من ثقيف كذّاب ومبيرٌ» (مهلك)، أما الكذاب فمسيلمة ، وأما المبير فهو أنت "[7].
أخي القارئ، لا أدّعي عصمة لنسائنا، ولا اكتمالاً لنيل المرأة حقوقها لدينا إلا أني أضع بين يديك ما سبق، وما يلحق لتحكم بنفسك، وحيث إني لم أُحِطْ علماً بحال المرأة العربية، فسأقتصر هنا على إيراد بعض شواهد لحال المرأة في المملكة العربية السعودية:
• عدد السجلات التجارية المسجلة بأسماء سيدات سعوديات يقدر بـ (70.000) سبعين ألف سجل تجاري"[8].
• يصل عدد المنتسبات لغرفتي التجارة في الرياض وجدة، إلى أكثر من (13.000) ثلاثة عشر ألف سيدة.
• بلغت نسبة إجمالي النساء من إجمالي العاملين بالدولة: 34.6% [9].
• عدد النساء العاملات في المملكة قارب ثلاثة ملايين (3.000.000) أي ما يقارب نصف النساء السعوديات، بلغ عدد شاغلات الوظائف التعليمية منهن (228.000) مئتان وثمان وعشرون ألفاً.
• الخريجات من المعاهد العلمية والجامعات وصل تعدادهن إلى (170.000) مئة وسبعون ألفاً.
• بلغ عدد الطالبات في مختلف مراحل التعليم (1.832.969) تسع وستون، وتسعمائة، وثمانمائة واثنان وثلاثون ألفاً، ومليون طالبة، وهو ما يمثل نسبة تزيد عن معدل نصف عموم الطلبة في المملكة [10].
أخي القارئ: نحن لا ندعي كمالاً في حالنا، غير أن لنا في تاريخنا وحاضرنا ما يُسْمننا ويُغْنينا من جوع الغرب ، والمملكة تسعى - بحمد الله - دوماً إلى مقاربة بلوغ الكمال في تكريم المرأة والعمل الحثيث الجاد، لتأخذ دورها الكريم في مجتمع يقدرها ويحفظ عليها أمر دينها وكرامتها. وإن المرأة في بلادنا ليست بحاجة البتة لما تقرع به آذانَنا طبولُ الإعلام الغربي الأحادي التوجه المتأثر بما يمليه عليه "مكتب التأثير الاستراتيجي" فهل يحمل ذلك الإعلام الغربي مشعل الحرية ويدعو إليها، أم ترانا نواجه إعلاماً يحمل مشعل الرأي الواحد الساقط من أعلى على رؤوس أهل مجتمعاتنا؟!.
ــــــــــــــــــ
[1] إن هذا الكتاب: "تحرير المرأة " إنما جاء ثمرة عمل مشترك بين الشيخ محمد عبده وقاسم أمين كما حقق ذلك د. محمد عمارة في مؤلفه (الأعمال الكاملة لمحمد عبده).
[2] مصطلح يُعنى به: منظومة البلدان ذات الشعوب الناطقة باللغة الفرنسية أصلاً، أو التي اعتمدت اللغة الفرنسية لغة ثقافية أولى لأهلها.
[3] الإسلام ومكانة المرأة، د. محمد مرسي، ص 42.
[4] سقوط الحضارة الغربية، رؤية من الداخل، أحمد منصور. ص 43.
[5] المرجع السابق، ص 57.
[6] سقوط الحضارة الغربية: رؤية من الداخل، أحمد منصور، ص 61 - 62.
[7] انظر: الإسلام ومكانة المرأة، د محمد مرسي ملخصاً من الفصل الثامن ص 225.
[8] جريدة اليوم، العدد 10629، تاريخ الاثنين 12/5/1423هـ.
[9] نقلاً عن تقرير (العاملون بالدولة) الصادر عن مجلس الغرف التجارية الصناعية السعودية 1420-1421 هـ.
[10] نقلاً عن الكتاب الإحصائي السنوي، وزارة التخطيط، مصلحة الإحصاءات العامة 2001م.
خالد بن عبد الرحمن الجريسي
حاصل على درجة الدكتوراه في إدارة الأعمال، من جامعة كنزنجتون بالولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك عن أطروحته في فَلْسَفَةِ التَّسْوِيق.
- التصنيف: