الإمام الطبري - (13) مكانة الطبري عند أهل السنة ومنزلته في العلوم

منذ 2020-09-02

كان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب".

أما مكانة الإمام الطبري عند أهل السنة والجماعة من جهة عقيدته، فهذا له فيه القِدْح الـمُعلَّى، وكتُبُه طافحة والحمد لله ببيان عقيدتهم؛ بل كتبه مرجع أهل السنة والجماعة بعدَه في تقرير عقيدة السلف والدعوة إليها، ولو لم يكن إلا هي لَكفَتْه، كيف وقد صرح بعقيدته - لما اتُّهم فيها - في كتابه المسمَّى (صريح السنة)؟ فأبان عقيدةً تلقاها العلماء بعده بالقبول، وزينوا بها تصانيفهم مع عقائدَ إخوانه كبار العلماء، كما عند اللالكائي في (شرح السنة) و(قوام السنة)، والأصبهاني في كتابه (الحجة)، وأبي يعلى الحنبلي في (إبطال التأويلات، لأخبار الصفات)، وابن تيمية في (قاعدة الاسم والمسمى)، وابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية، على غزو المعطلة والجهمية)، والذهبي في (العلو للعلي الغفار)، وغيرهم ممن نقل عنها أو عنهم، فضلاً عن إيرادها أو جملاً منها في تراجمه.

 

وكذا كتابه (التبصير في معالم الدين) شاهد بما شهد به سابقه من ثباته على عقيدة السلف، ودعوته أهل طبرستان إليها، والمنافحة عنها، وذب شبه المبتدعة عليها.

 

كما أنه - رحمه الله - أُوتِيَ معرفة بالطرق الكلامية، وقواعد الفلاسفة، فتجده في التفسير أحيانًا يخوض في بحث مسائل العقيدة على طريقتهم؛ تقريرًا لها عليهم، وإقامةً للحجة من مسلكهم، مع قوة الرد، ومتانة العبارة، بل نجده من صفاء ذهنه وفرط ذكائه يُورِدُ الإيراد ويَهدِمُه بسرعة الجواب وصلابته وشموله.

 

ومن العجيب أنه سمع كتاب (الفردوس في الحكمة والفلسفة) من علي بن زين الطبري واستملاه في سبعة أجزاء، ولم يضره ما فيه كما يذكره تلميذه ابن كامل في ترجمته له، فسبحان الله العظيم!

 

• وأما منزلته الفقهية: فلا تنزل عن مكانته في التفسير وعلوم القرآن والحديث والعقيدة؛ حيث كان - رحمه الله - متبعًا للشافعي، دارسًا لسائر مذاهب الفقهاء المشهورة: الحنفية والمالكية والظاهرية، إلا أن مستواه العلمي، ومداه في التحصيل لم يرضَ بالتَّبَعيَّة، طارت همتُه بما أوتي من أدوات ومَلَكات إلى الاجتهاد مطلقًا، حتى وصل إلى مرحلة كبار المجتهدين، فعُدَّ في عدادهم.

 

وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مواضع من (منهاج السنة النبوية، في نقض كلام الشيعة والقدرية) يَعدُّه من آخر المجتهدين الكبار في الإسلام، بَدءًا من مجتهدي الصحابة مرورًا بكل عصر بأكابره، حتى ينتهي المطاف به وبابن المنذر. وانظره: في المنهاج (2 /472، 107) و (6 /53) و (7 /428، 13، 286)، وغيرها.

 

وكتبه كلُّها شاهدة بهذا، خصوصًا ما ألفه في الفقه خاصة مثلَ كتابه اختلاف الفقهاء المسمى (اختلاف علماء الأمصار)، وكتاب (لطيف القول في أحكام الشرائع)، وكتاب (بسيط القول)، وسيأتي الكلام عليها وصفًا في تأليفه وآثاره.

 

• وما كتبه في أصول الفقه وقواعده يتضمنه ذلك، ومبثوث في تفسيره في مظانِّه، قال الخطيب: "وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرَّد بمسائل حُفِظت عنه"، وتعقبه الذهبي بقوله: (... إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علَّامة في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات وباللغة وغير ذلك).

 

وكان مذهبه الفقهي مذهبًا متبَعًا تفقَّه به كثير من أصحابه ومن جاء بعدهم، حفظه في كتبه الفقهية خاصة كتابه (اللطيف)، وقد عد ابن النديم له أصحابًا وتلامذةً في باب جعله خاصًّا بهم في فهرسته، وكان من أشهرهم المعافى بن زكريا بن طرار (390 هـ).

 

• أما شأنه في علم التاريخ والأخبار: فكما كان إمامًا للمفسرين بكتابه التفسير، فهو في هذا الفن كان إمامًا وشيخًا للمؤرخين بكتابه التاريخ، المسمى بـ (تاريخ الأمم والملوك).

 

وهو كتاب فريد في بابه وعرضه، امتدحه كل من تكلم على مؤلفاته كالخطيب البغدادي والفرغاني وابن خِلِّكانَ وياقوت الحموي والذهبي وهم أئمةُ هذا الشأن، واعتمد عليه جماعة من المؤرِّخين من بعده؛ ولذا كان إمام المؤرخين، قال فيه أبو الحسن عبدالله بن أحمد بن المغلس[1]: "ما عمل أحد في تاريخ الزمان، وحصر الكلام فيه مثلَ ما عمله الطبري، وإني لأظن أبا جعفر قد نَسِيَ مما حفظ إلى أن مات قدر ما حفظه فلان طول عمره - وذكر رجلاً كبيرًا من أهل العلم -، وإن كتابه في التاريخ من الأفراد في الدنيا فضلاً ونَباهةً، وهو يجمع كثيرًا من علوم الدين والدنيا، وهو في خمسة آلاف ورقة".

 

وذكر أبو القاسم بن عقيل الوراق: أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: هل تَنْشَطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة! فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فقال: إنا لله، ماتت الهمم!

 

ورُوِيَ مثله في التفسير. ذكره الذهبي بالإسناد في السير.

 

وكتابه التاريخ هذا على طريقة الأخباريين والنَّقَلة، وقد أبرأ عهدته في مقدمته بقوله معذرًا: " فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعُه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤتَ في ذلك مِن قِبَلنا، وإنما أُتِيَ من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وإنَّا إنما أدَّيْنا ذلك على نحو ما أُدِّيَ إلينا".

 

وإن كنا نعتب عليه - رحمه الله - حشدَه لـمَرويَّات أبي مخنف لوط بن يحيى الشيعي وغيره من المتروكين في مسائل حسَّاسة كما جرى بين الصحابة بعد عثمان!

 

هذا تاريخه على هذه الطريقة، وله تاريخ على طريقة تواريخ المحدِّثين، هو كتاب (المنتخب من ذيل المذيل)، أملاه في ألف ورقة، بعد سنة من تاريخ الرسل والأمم، أورد فيه تاريخ من قتل من الصحابة في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومن عاشوا بعده، وكذا تابعيهم، ومن روى عنهم طبقةً عن طبقة، ووفَيَاتهم إلى أن بلغ شيوخه في عصره، وهو كتاب يناسب علم التاريخ ذي المكانة والجلالة عند المؤرِّخين، وهو تاريخ حياة الرواة ووفياتهم، والذي به يستقيم معرفة حالهم وقبول أخبارهم وآثارهم.

 

• والعلوم العربية بأنواعها: شعر ونحو وصرف وبلاغة وبيان وعَروض لها نصيب من علوم الإمام محمد بن جرير، فله فيها باع طويل مشهود له فيه بالتمكُّنِ والحيازة لإمامته.

 

• ففي الشعر: كان حافظًا لكثير من أشعار الجاهلية والمخضرمين، وشحن بها تفسيره الذي أملاه، ودخل مصر ولا يحفظ فيها شعر الطرماح بن حكيم سواه، حتى سأله علماؤُها أن يُمليَه عليهم، ويشرح غريبه، ويوضِّح مُبْهمه.

 

ولما حاوره أهل مصر في الفنون، وجاءه من يمتحنُه في العَروض، أرجاه إلى الغد، فأتقن في ليلة واحدة العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي بعد أن استعاره من صديقه، حتى قال عن نفسه: "أمسيتُ غيرَ عَروضيٍّ، فأصبحتُ عروضيًّا".

 

• وفي علم النحو والإعراب ومذاهب الناس فيه واختلافاتهم: كان له السَّبْقُ على أهل عصره، بمن فيهم نحاتُه الكبار، حتى شهد له شيخه أحمد بن يحيى ثعلب الكوفي (291هـ) بالسَّبْقِ على الطلبة بقوله: قرأ عليَّ أبو جعفر الطبري شعرَ الشعراء قبل أن يكثرَ الناس عندي بمدة طويلة، وكان الطبري قد دخل الكوفة في أول رحلته في الطلب وهو إذ ذاك صغيرًا.

 

وأخرى من ثعلب أدلُّ منها على تمكُّن الطبري من فن العربية: ما رواه أبو بكر بن مجاهد قال: إن أبا العباس ثعلبًا قال له يومًا: مَن بقي عندكم من النحاة في الجانب الشرقي ببغداد؟ فقلت: ما بقي أحد، مات الشيوخ، فقال: حتى خلا جانبُكم؟ قلت: نعم، إلا أن يكون الطبريَّ الفقيهَ! فقال لي: ابن جرير؟! قلت: نعم، قال: ذاك من حُذَّاق مذهب الكوفيين، قال ابن مجاهد: وهذا كثير من أبي العباس ثعلبٍ؛ لأنه كان شديد النفس، شرسَ الأخلاق، وكان قليلَ الشهادة لأحد بالحذق في علمه.

 

يَقصِدُ من هذا أنه قلَّما يُعجبُه أحد؛ من شدته.

 

ولا أدل على هذه الشهادة إلا لمن تأمل تفسيرَ ابن جرير وملاحظة التبحُّر في النحو والإعراب والاختلاف فيه، وتوجيه القراءات على ضوئها، فالكتاب زاخر بهذا وغيره مما ينبئ عن إمامته فيه.

 

وبعد، فإن علوم ابن جرير التي تمكن بها وبلغ فيها المعالي لا تقتصر بما ذكرته، بل تنوع فيها وتفنَّن، فقال تلميذه عبدالعزيز بن محمد الطبري في ترجمته له: " قنطرة البراد محظوظة من العلماء النحويين، كان فيها أبو عُبَيْد القاسم بن سلَّام، ومسجده وراء سويقة جعفر معروف به، وكان غلان الأزدي ومسجده في هذا الموضع معروف، وكان أبو بكر هشام بن معاوية الضرير النحوي وكان مسجده عند مسجد أبي عبدالله الكسائي، وكان بها أبو عبدالله محمد بن يحيى الكسائي، ومنه انتشرت قراءة أبي الحارث عن الكسائي، وقرأ عليه كبار الناس، وتركها أبو جعفر الطبري، وكان أبو جعفر قد نظر في المنطق والحساب والجبر والمقابلة وكثير من فنون وأبواب الحساب وفي الطب، وأخذ منه قسطًا وافرًا يدل عليه كلامه في الوصايا.

 

وكان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب".

 

وهذا أيضًا قرره عليه ياقوت الحموي في ترجمته له، فسبحان الذي جمع لواحد من خلقه هذه الفنون المتنوعة، التي ندر أن يبرع أحد في واحد من آحادها، كيف بمجموعها؟! لا إله إلا الله العزيز الحكيم.

 


[1] هو الإمام المحدث فقيه العراق عبدالله ابن المحدث أحمد بن محمد بن المغلس البغدادي الظاهري، ناشر مذهب الظاهرية، مات سنة 323هـ وله بضع وستون سنة، له كتاب (أحكام القرآن) و(الموضح) و( المبهج )، وكتاب (الدافع) في الرد على من خالفه، وكتاب (الطلاق). أخبار النبلاء (15 /77)، وتاريخ بغداد (9 /385)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص 177)، والعبر للذهبي (2 /201)، ومعجم المؤلفين (2 /227).

علي بن عبد العزيز الشبل

أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

  • 0
  • 0
  • 4,137
المقال السابق
(12) مكانة الإمام الطبري ومنزلته العلمية
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً