اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بالصلاة
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: "كنا إذا فقَدنا الرجل في العشاء والصبح، أسأنا به الظنَّ"؛ [أخرجه البزار]
{بسم الله الرحمن الرحيم }
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أمَّا بعدُ:
للصلاة مكانة عالية في دين الإسلام، فهي أهمُّ أركان الإسلام بعد الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، وهي عمود الدين؛ قال عليه الصلاة والسلام: (( «رأسُ الأمر الإسلام، وعَمُودُه الصلاة، وذِرْوةُ سَنامِه الجِهادُ» ))؛ [أخرجه الترمذي] وقد فرض الله عز وجل الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم مباشرة دون واسطة في أعلى مكان يصل إليه المخلوقون، وفي أفضل ليلة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ليلة المعراج التي عُرِج فيها برسول الله عليه الصلاة والسلام إلى السماء.
وكانت الصلاة أول ما فُرضَتْ خمسين صلاةً في اليوم والليلة، مما يدلُّ على محبَّة الله عز وجل لها، وأنها عبادة تستحقُّ أن يستغرق المسلم معظم وقته فيها، ثم جرت بين الله جل جلاله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم مراجعات، حتى خفَّف الله عن عباده بلُطْفه ورحمته وفضله، فصارت خمسًا في الأداء، وخمسين في الثواب.
الصلاة عبادة يجِدُ فيها المصلِّي الراحة والطمأنينة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «حُبِّب إليَّ من الدنيا النساء والطيب، وجُعِلَ قُرَّة عيني في الصلاة» ))؛ [أخرجه النسائي]، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (( «قُمْ يا بِلالُ فأرِحْنا بالصلاة» ))؛ [أخرجه أبو داود]، والصلاة نُورٌ للعَبْد في قلبه، وفي وَجْهه، وفي قبره، ويوم حشره؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((الصلاةُ نورٌ))؛ [أخرجه مسلم].
فهنيئًا لمن كان من المحافظين المداومين على الصلاة، فهي الفارق بين المؤمن والكافر، قال عليه الصلاة والسلام: (( «بين الرجل وبين الشِّرْك والكفر تركُ الصلاة» ))؛ [أخرجه مسلم].
والصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون أن ترك الصلاة كُفْرٌ مُخْرِجٌ من المِلَّة؛ فعن عبدالله بن شفيق رحمه الله قال:" « كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كُفْر إلَّا الصلاة» "؛ [أخرجه الترمذي].
قال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله: روِي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر وأبي الدرداء - تكفيرُ تارك الصلاة، قالوا: مَنْ لم يُصَلِّ فهو كافر، وعن عمر بن الخطاب أنه قال: لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وعن ابن مسعود: مَنْ لم يُصَلِّ فلا دينَ له.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: تارك الصلاة بلا عُذْرٍ كافرٌ كُفْرًا مُخرِجًا عن الملَّة بمقتضى هذه الأدلة، وعلى هذا القول جمهور الصحابة، بل حكى غيرُ واحدٍ إجماعَهم عليه.
وكانوا رضي الله عنهم يعدُّون المتخلِّف عن صلاة الجماعة منافقًا معلومًا نِفاقُه؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «مَنْ سرَّه أن يلقى الله عز وجل غدًا مسلمًا، فليُحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس... ولقد رأيتنا وما يتخلَّف عنها إلَّا مُنافقٌ معلومٌ نِفاقُه، أو مريض» «» ؛ [أخرجه مسلم].
وكانوا رضي الله عنهم يُسيئون الظن بمن يفقدونه في صلاة العشاء والصبح؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: "كنا إذا فقَدنا الرجل في العشاء والصبح، أسأنا به الظنَّ"؛ [أخرجه البزار]، قال سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: يجب على كل مسلم ومسلمة الحَذَر من مشابهة المنافقين في أعمالهم وأقوالهم، وفي تثاقُلِهم عن الصلاة، وتخلُّفِهم عن صلاة الفجر والعشاء؛ حتى لا يُحشَر معهم.
الصلاة كان لها مكانة عظيمة في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا يهتمُّون بها، وقد تمثَّل ذلك في صور؛ منها:
إنَّ الصلاة كانت أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم بشهادة أعدائهم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضَجْنان وعُسْفان، فقال المشركون: إن لهؤلاءِ صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائهم، وهي العصر، فأجمِعُوا أمركم فمِيلُوا عليهم مَيْلةً واحدةً، وأن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يقسِم أصحابَه شطرين فيُصلِّي بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم، وليأخذوا حِذْرَهم وأسلِحَتهم» "؛ [أخرجه الترمذي].
فالكفَّار شهِدُوا للصحابة رضي الله عنهم أن الصلاة أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم، فالنفوس مجبولةٌ على محبَّة الأبناء والآباء، لكنهم رضوان الله عليهم لا تشغَلهم تلك المحبَّة على محبَّة ما يُحِبُّه الله عز وجل، ومن ذلك: الصلاة التي هي من أحَبِّ الأعمال إلى الله؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: «((الصلاة على وقتها))، قال: ثم أي؟ قال: ((بِرُّ الوالدين))، قال: ثم أي؟ قال: ((الجِهادُ في سبيل الله))» ؛ [متفق عليه].
كان الرجل منهم يذهب إلى صلاة الجماعة يُهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف:
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: " «لقد رأيت الرجل يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف» "؛ [أخرجه مسلم]قال الإمام النووي رحمه الله معنى يُهادى أي: يُمسكه رجلان من جانبيه يعتمد عليهما..وفي هذا كله تأكيدُ أمر الجماعة وتحمُّل المشقَّة في حضورها وأنه إذا أمكَن المريض ونحوه التوصُّل إليها استُحِبَّ له حضورُها.
إيقاظ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهله للصلاة آخر الليل:
فعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يُصلِّي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصلاة، الصلاة ثم يتلو هذه الآية: ﴿ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } ﴾ [طه: 132]، [أخرجه مالك في الموطأ].
قال القاضي أبو الوليد الباجي رحمه الله: إيقاظه أهله من آخر الليل، يريد بذلك أن يأخذوا من نافلة الليل بحظٍّ وإن قلَّ، فكان يجعل ذلك في أفضل أوقات الليل وهو السَّحَر, وقال الزرقاني المالكي رحمه الله: وفيه أنه لم يشغَلْه أمورُ المسلمين عن صلاة الليل لفضل التهجُّد.
خشوع ابن الزبير في الصلاة كأنه وَتَد:
فعن مجاهد أنَّ ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه وتد؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف]، قال الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه النافع "سير أعلام النبلاء" قال ثابت البناني: كنتُ أمرُّ بابن الزبير وهو خلف المقام يُصلِّي، كأنه خشبةٌ منصوبةٌ.
بكاء أنس بن مالك رضي الله عنه لتأخير الحجاج الصلاة عن وقتها:
قال الزُّهْري رحمه الله: "دخلتُ على أنس بن مالك رضي الله عنه بدمشق وهو يبكي، فقلتُ له: ما يُبكيكَ؟ فقال: لا أعرف شيئًا ممَّا أدركتُ إلَّا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَتْ"؛ [أخرجه البخاري]؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قد صحَّ أن الحجَّاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يُؤخِّرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: في هذا الحديث دليلٌ على جواز البكاء على ما فات من أمر الدين وعلى ما انتُهِك من المحرَّمات أيضًا، فإن البكاء على ترك الواجب يُوازيه البكاء على فعل المحرَّم، ولا شكَّ أن كل إنسان في قلبه حياة إذا رأى انتهاك المحرَّمات، أو تضيع الواجبات، لا شَكَّ أنه سيتألَّم، وإذا كان سريع البكاء، فإنه سوف يبكي.
تصدَّق رجلٌ من الأنصار بحائطه؛ لأنه أشغَلَه عن صلاته:
فعن عبدالله بن أبي بكر أن رجلًا من الأنصار رضي الله عنه، كان يُصلِّي في حائط له، في زمان الثمرِ، والنخلُ قد ذُلِّلَتْ، فهي مُطوَّقةٌ بثَمَرِها، فنظر إليها فأعجَبه ما رأى من ثمرها، ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلَّى، فقال: لقد أصابَتني في مالي هذا فتنةٌ، فجاء عثمانَ بن عفان، وهو يومئذٍ خليفةٌ فذكَر له ذلك، وقال: هو صَدَقةٌ فاجعلْه في سُبُلِ الخير، فباعَه عثمان بخمسين ألفًا، فسُمِّي ذلك المال الخمسين"؛ [أخرجه مالك في الموطأ].
قال الإمام أبو الوليد الباجي رحمه الله: وهذا يدلُّ على أن مثل هذا كان يقلُّ منهم، ويعظُمُ في نفوسهم، فكيف بمن يكثُر ذلك منه، تغمَّد الله زَلَلنا بفَضْله، وفي الجملة الإقبال على الصلاة وترك الالتفات فيها مأمورٌ به من أحكامها, قال الإمام الزرقاني المالكي رحمه الله: وفيه أن المصلِّي يُقبل على صلاته، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا.
وهكذا ينبغي للمصلِّي أن يبتعد عمَّا يُلهيه ويَشغَله في صلاته؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خميصةٍ له لها أعلام، فنظر في أعلامِها نظرةً، فلما سلَّم قال: ((اذهبُوا بخَمِيصَتي هذه إلى أبي جَهْم، فإنها ألهتْني آنفًا عن صلاتي، وأتوني بأَنْبِجانيَّة أبي جهم)).
عدَّ الحارث البكري رضي الله عنه الزوجة التي تكون سببًا لتخلُّف زوجِها عن صلاة الفجر ليلة العرس امرأةَ سوءٍ:
تزوَّج الحارث البكري رضي الله عنه، فقيل له: "أتخرج - أي لصلاة الفجر - وإنما بَنَيْتَ بأهلِكَ الليلة؟ فقال: والله، إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جماعة لامرأة سوءٍ"؛ [أخرجه الطبراني في الكبير].
متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته:
من اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بأمر الصلاة، متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته، ليعرفوا كيف يُصلِّي، وكم يقرأ، وماذا يقرأ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة سكت هنيهةً، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما تقول في سكوتِكَ بين التكبير والقراءة؟ قال: ((أقول اللهم باعِدْ بيني وبين خطاياي، كما باعَدْتَ بين المشرِقِ والمغرِبِ، اللهم نقِّني من خطاياي، كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، اللهُمَّ اغسلني من خطاياي بالثَّلْج والماء والبَرَدِ))؛ [متفق عليه]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تَتَبُّع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه، حتى حفِظ اللهُ بهم الدِّينَ.
وعن عمارة بن عمير عن أبي معمر، قال: "قلنا لخباب: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بِمَ كنتم تعرفون ذاك؟ قال: باضطراب لِحيته"؛ [أخرجه البخاري].
وعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: "حَزَرْنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحَزَرْنا قيامه في الركعتين الأوليَينِ من الظهر قدر ثلاثين آية؛ قدر ﴿ { الم * تَنْزِيلُ} ﴾ [السجدة: 1، 2] السجدة، وحَزَرْنا قيامَه في الأُخْرَيَينِ على النصف من ذلك، وحَزَرْنا قيامَه في الأوليَينِ من العصر على قدر الأُخْرَيَينِ من الظهر وحَزَرْنا قيامَه في الأُخْرَيَينِ من العصر على النصف من ذلك[أخرجه مسلم].
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «رمقتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فوجدتُ قيامَه كركعتِه وسَجْدتِه واعتدالَه في الركعة كسجدتِه وجَلستَه بين السجدتين وسجدتَه ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء» "؛ [أخرجه مسلم]
وعن مطرف عن أبيه رضي الله عنه، قال: " «رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وفي صَدْرِه أزيزٌ كأزيزِ الرَّحى من البكاء» "؛ [أخرجه أبو داود].
وعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه، قال: "لأَنْظُرَنَّ إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُصلِّي"؛ [أخرجه أبو داود].
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: «"رمقْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا، فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ [الكافرون: 1] و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]» "؛ [أخرجه أحمد].
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "بِتُّ في بيت ميمونة ليلة؛ لأنظُرَ كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل"؛ [متفق عليه]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث من الفوائد: بيان فضل ابن عباس وقوَّة فَهمه، وحرصه على تعلُّم أمر الدين، وحُسْن تَأَتِّيه في ذلك.
وفي رواية عند أبي داود: فصلَّى ثلاث عشرة ركعةً، منها ركعتا الفجر، حزَرْتُ قيامَه في كل ركعة بقدر ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴾ [المزمل: 1]، قال المحدِّث خليل أحمد السهارنفوري رحمه الله: حزرت؛ أي: قَدَّرْتُ.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: