خوف الصحابة رضي الله عنهم -2
عن أم المؤمنين أم سلمه رضي الله عنها، قالت: دخل عليها عبدالرحمن بن عوف، فقال: يا أُمه، قد خفت أن يهلكني كثرة مالي أنا أكثر قُريش مالًا، قالت: يا بني فأنفق؛ [أخرجه أحمد].
شدة مخافة الله في قلب كعب بن مالك رضي الله عنه:
في قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، لما رجع الرسول عليه الصلاة والسلام من الغزوة، اعتذر إليه المنافقون فقبِل منهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، أما كعب بن مالك رضي الله عنه، فقد جاء إليه وسلم عليه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟)، فقال كعب: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذرٍ، وقد أعطيت جدلًا، ولكني والله لقد علمتُ لئن حدَّثتُك اليوم حديثَ كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخطك عليَّ، ولئن حدَّثتُك حديث صدقٍ تجدُ عليَّ فيه، إني لأرجو عفوًا فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر منَّي حين تخلفتُ عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذا الحديث فيه فوائد كثيرة؛ منها: شدة مخافة الله في قلب كعب بن مالك رضي الله عنه؛ لأنه بيَّن أنه لو جلس عند أحد من ملوك الدنيا، لخرج منه بعذر؛ لأنه أُعطي جدلًا ومحاجة ومخاصمة، ولكنه يخشى أن يخرج من الرسول علية الصلاة والسلام بعذر، ثم ينزل فيه قرآن يفضَحه، فلهذا أخبر بالصدق.
خوف عبدالرحمن بن عوف رضي الله من كثرة ماله أن يهلكه:
عن أم المؤمنين أم سلمه رضي الله عنها، قالت: دخل عليها عبدالرحمن بن عوف، فقال: يا أُمه، قد خفت أن يهلكني كثرة مالي أنا أكثر قُريش مالًا، قالت: يا بني فأنفق؛ [أخرجه أحمد].
والصحابة رضي الله عنهم، إذا أذنبوا أحدث ذلك لهم قلقًا في أنفسهم، وخوفًا من الله جل جلاله في قلوبهم، جعلهم يقومون بعمل الآتي:
المبادرة إلى التوبة:
عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أنها اشترت نُمرقة فيها تصاوير، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالباب، فلم يدخل، فقالت: أتوب إلى الله مما أذنبت، قال: (ما هذه النمرقة؟)، قُلتُ: لتجلس عليها، وتتوسَّدها، قال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يُقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة)؛ [أخرجه البخاري]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في هذا الحديث دليل على فوائد، منها:
• شدَّة إنابة عائشة رضي الله عنها؛ لأنها عرفت أن الرسول علية الصلاة والسلام لم يمتنع من الدخول إلا لسبب، فقالت: أتوب إلى الله مما أذنبتُ.
• المبادرة بالتوبة من حين أن يعلم الإنسان بالذنب، ولا يؤخر، وهذا كما هو مقتضى الشرع، فهو أيضًا مقتضى العقل؛ لأن المعصية إذا استمر الإنسان عليها بعد أن علم أنها معصية، فإنما يزداد إثمًا وبعدًا من الله عز وجل.
الندم الشديد على المعصية:
الصحابة رضي الله عنهم، إذا ارتكب أحدهم ذنبًا، ندم على ذلك، واستشعر مغبة ذلك الذنب، وخاف من تبعاته، وظهر أثر هذا الخوف والندم، في التعبير عمَّا فعل بعبارات قوية، قال الصحابي الذي وقع على امرأته في رمضان: (هلكت)، وفي رواية ثانية: (احترقت)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه: الندم على المعصية، واستشعار الخوف.
فعل ما يكون كفارةً لذنوبهم:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن لطَم مملوكه أو ضربه، فكفارته أن يعتقه)؛ [أخرجه مسلم]، والصحابة رضي الله عنهم قد يغضب أحدهم على أحد مماليكه، وقد يضربه، لكنه يُسارع بفعل ما يكون كفارة لما قام به، فيعتقُ من قام بضربه من مماليكه، ومن الصحابة الذين قاموا بذلك:
• ابن عمر رضي الله عنه، فقد أعتق مملوكًا، وأخذ من الأرض عودًا، وقال: ما فيه من الأجر ما يساوي هذا، إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « (من لطم مملوكه أو ضربه، فكفارته أن يعتقه)» [أخرجه مسلم] قال العلامة العثيمين رحمه الله: قول ابن عمر رضي الله عنهما:( ما فيه من الأجر ما يسوى هذا) يعني: أنني لا أريدُ بذلك البرَّ والتقرب إلى الله عز وجل ولكن أُريدُ بذلك زكاة نفسي.
• ومنهم: أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: كنتُ أضرب غلامًا لي، فسمعتُ من خلفي صوتًا: (اعلم أبا مسعود، للهُ أقدرُ عليك منك عليه)، فالتفتُّ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله: هو حُرٌّ لوجه الله، فقال: (أما لو لم تفعل، للفحتك النار، أو لمستك النار)؛ [أخرجه مسلم].
• ومنهم: أبو معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، قال: «كانت لي جارية ترعى غنمًا... فاطَّلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صكَكتُها صكةً، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَعَظَّمَ ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها قال: (ائتني بها)، فأتيته بها، فقال لها: (أين الله؟)، قالت: في السماء قال: (من أنا)، قالت: أنت رسول الله قال: (اعتقه فإنها مؤمنة)» ؛ [أخرجه مسلم].
طلبهم من الرسول علية الصلاة والسلام أن يطهرهم من ذنوبهم:
مع أن الأفضل للعاصي أن يستر على نفسه، وأن يتوب إلى الله من ذنوبه، ولا يذكر ذلك لأحد، إلا أن الخوف من الله جل جلاله بلغ في قلوب الصحابة رضي الله عنهم مبلغًا عظيمًا، أدى بهم أن يطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطهرهم من ذنوبهم التي اقترفوها، ولو كان ثمن ذلك موتهم وإزهاق أرواحهم، فقد جاء ماعز رضي الله عنه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام واعترف مرارًا بأنه زنا، وطلب أن يُطهره، فرُجِم حتى مات، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث منقبة عظيمة لماعز بن مالك؛ لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه...، ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضي إزهاق رُوحه، فجاهد نفسه على ذلك وقوِي عليها، وأقرَّ من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة، مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة.
رضي الله عنه، جاء في رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لقد رأيتُه بين أنهار الجنة ينغمس)، وفي رواية: (قد غُفِر له وأُدخِل الجنة).
وكما جاء ماعز فقد جاءت الغامدية رضي الله عنها، واعترفت بالزنا، وطلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُطهرها، وكانت حاملًا من الزنا، فطلب منها الرسول علية الصلاة والسلام، أن تذهب حتى تضعه، فذهبت حتى وضعته، ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ليطهرها، فأمرها أن تذهب وترضعه حتى تفطمه، ثم جاءتْه بعد أن فطمتْه، تطلب أن يطهرها، فمرور الأيام لم يجعل الخوف من الله العظيم يزول من قلبها، عند ذاك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تُرجَم، فشُدَّتْ عليها ثيابُها، ورُجِمَتْ حتى ماتت، رضي الله عنها.
ولم يقتصر الخوف في قلوبهم على فعل الكبائر، بل إن الخوف من الذنوب ولو كانت صغائر، موجود في قلوبهم رضي الله عنهم، فإذا ارتكب أحدهم صغيرة، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يفعل به ما يشاء، رجاء أن يكون تطهيرًا له، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني وجدت امرأة في بستان، ففعلت بها كل شيء غير أني لم أُجامعها، قبَّلتها ولزِمتها، فافعل بي ما شئت؛ [أخرجه مسلم]، فرضِي الله عن أولئك الصحب الكرام، وجمعنا وإياهم في مستقر رحمته.
البكاء على ما قاموا به:
لقد بلغ الخوف بالصحابة رضي الله عنهم أن يبكوا على ما فاتهم من الخير، ففي قصة الثلاثة الذين خُلِفوا كعب بن مالك وصاحبيه، قال كعب رضي الله عنه وهو يحكي ما حدث له: ففاضت عيناي، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه: استحباب بكاء العاصي أسفًا على ما فاته من الخير.
وفي الختام فمما ينبغي التنبيه إليه أن على العبد الخوف من الله جل جلاله، وخشيته في الغيب والشهادة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فأما خشية الله في الغيب والشهادة، فالمعنى بهما أن العبد يخشى الناس سرًّا وعلانية، وظاهرًا وباطنًا، فإن أكثر الناس يرى أنه يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن في خشية الله في الغيب، إذا غاب عن أعين الناس، وقد مدح الله من يخافه بالغيب؛ قال تعالى: {﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴾} [الأنبياء: 49]، وقال: { ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾} [ق: 33] وقال تعالى: {﴿ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ﴾ } [المائدة: 94]
وقال: {﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ } [الملك: 12]، كان بعض السلف يقول لإخوانه: زهَّدنا الله وإيَّاكم في الحرام زهادة من قدَر عليه في الخلوة، فعلِم أن الله يراه فترَكه، والموجب لخشية الله في السر والعلانية أمورٌ؛ منها: قوة الإيمان بوعده ووعيده على المعاصي، ومنها: النظر في شدة بطشه وانتقامه وقوته وقهره، وذلك يوجب على العبد ترك التعرض لمخالفته؛ كما قال الحسن: ابن آدم، هل لك طاقة بمحاربة الله، فإن من عصاه فقد حاربه، وقال بعضهم: عجبتُ مِن ضعيف يعصي قويًّا، ومنها: قوة المراقبة له، والعلم بأنه شاهد ورقيب على قلوب عباده وأعمالهم".
كما ينبغي التنبيه على مقوله يقولها بعض الناس وهي: "إني أخافك، وأخاف مَن لا يخافك"؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك، وأخاف من لا يخافك، وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده، ولا يخاف أحدًا، لا من يخاف الله، ولا من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله أخسُّ وأذلُّ من أن يُخاف، فإنه ظالم، وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه.
اللهم اجعلنا ممن يخافك ويخشاك في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، واجعلنا يا كريم ممن قلت فيهم: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النازعات: 40]، وممن قلت فيهم: {﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾} [الرحمن: 46].
واجعلنا يا كريم ممن إذا ذكَرك خاليًا فاضتْ عيناه، فنكون بجودك ورحمتك من السبعة الذين تظلهم في ظلك يوم لا ظلَّ إلا ظلُّك
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: