التحذير من سب الرسول صلى الله عليه وسلم
• وقال ابن المنذر - رحمه الله تعالى -: "أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القتل، وممن قال ذلك: مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي"؛ (تفسير القرطبي: 4/ 432).
من المعلوم أن للنبي صلى الله عليه وسلم في قلوبنا منزلة عظيمة؛ فهو صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أولادنا وأزواجنا، وآبائنا وأمهاتنا، بل وأنفسنا.
ففي "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين» ))، ومع ذلك رأينا في هذا الزمان من يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي وصفه الله في كتابه فقال: ﴿ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال عنه عز وجل: ﴿ { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ﴾ [التوبة: 128].
وسب النبي صلى الله عليه وسلم الصادر من المسلم ردة عن الإسلام، وخروج عن الملة، فمن صرح بسب النبي صلى الله عليه وسلم يجب قتله، ويسقط القتل بالإسلام؛ (أي: أسلم بعدما سب النبي صلى الله عليه وسلم)، وكذلك الحكم فيما لو عرض المسلم بالسب، فإنه يجب قتله بدون استتابة - وهذا قول ابن القاسم، وروي عن الأوزاعي ومالك أنه يعتبر ردة يستتاب منها؛ (فتح الباري: 12/ 348)، (تبصرة الحكام: 2/ 212).
• قال محمد بن سحنون[1] - رحمه الله تعالى -:
"أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله".
• وذكر القاضي عياض في كتابه "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" في معرض بيانه لحد السب والاستهزاء والتنقيص فقال: "كل من سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو عابه، أو ألحق به نقصًا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خَصلة من خصاله، أو عرَّض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب له، وكذلك من لعنه أو ادعى عليه أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام، أو عيَّره بشيء مما يجري عليه من البلاء أو المحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه - فإنه يكفر، وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هلم جرًّا"؛ اهـ.
• وقال ابن المنذر - رحمه الله تعالى -: "أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القتل، وممن قال ذلك: مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي"؛ (تفسير القرطبي: 4/ 432).
• ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية:
"أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم، مما هو قذف صريح: كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل؛ لأن حد قذفه القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة"؛ (فتح الباري شرح صحيح البخاري: 12/ 348).
• وقد جاء في "سنن أبي داود" عن ابن عباس رضي الله عنهما:
"أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: "فلما كانت ذات ليلة، جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها، واتكأ عليها، فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم.
فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس، فقال: ((أنشد الله رجلًا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام))، فقام الأعمى يتخطى الناس، وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا اشهدوا أن دمَها هدَرٌ)).
هل تقبل توبة من سب الله عز وجل، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم؟
• اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أنها لا تقبل توبة من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو المشهور عند الحنابلة، بل يقتل كافرًا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محلٍّ بعيد عن قبور المسلمين.
القول الثاني: أنها تقبل توبة من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم؛ وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة؛ كقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 53]، ومن الكفار من يسبون الله، ومع ذلك تقبل توبتهم، وهذا هو الصحيح، إلا أن ساب الرسول صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته، ويجب قتله، بخلاف من سب الله فإنه تقبل توبته ولا يقتل؛ لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد، بأنه يغفر الذنوب جميعًا، أما ساب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يتعلق به أمران:
أحدهما: أمر شرعي؛ لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقبل إذا تاب، الثاني: أمر شخصي، وهذا لا تقبل التوبة فيه؛ لكونه حق آدمي لم يعلم عفوه عنه، وعلى هذا فيقتل، ولكن إذا قتل، غسلناه، وكفناه، وصلينا عليه، ودفناه مع المسلمين.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ألف كتابًا في ذلك، اسمه: "الصارم المسلول في تحتم قتل ساب الرسول"؛ وذلك لأنه استهان بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قذفه، فإنه يقتل ولا يجلد.
فإن قيل: "أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، وقَبِل النبي صلى الله عليه وسلم توبته؟
أجيب: بأن هذا صحيح، لكن هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، والحق الذي له قد أسقطه، وأما بعد موته، فإنه لا يملك أحدٌ إسقاط حقه صلى الله عليه وسلم، فيجب علينا تنفيذ ما يقتضيه سبه صلى الله عليه وسلم، مِن قتل سابِّه، وقبول توبة الساب فيما بينه وبين الله تعالى.
فإن قيل: "إذا كان يحتمل أن يعفو عنه لو كان في حياته، أفلا يوجب ذلك أن نتوقف في حكمه؟
أجيب: بأن ذلك لا يوجب التوقف؛ لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه.
فإن قيل: "أليس الغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعفو عمن سبه؟ أجيب: بلى، وربما كان العفو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم متضمنًا المصلحة، وهي التأليف[2]، كما كان صلى الله عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم؛ "لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"، لكن الآن لو علمنا أحدًا بعينه من المنافقين لقتلناه؛ قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط"؛ اهـ (فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: ص157 - 158).
مسألة:
حكم الذمي أو المعاهَد إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم:
الذمي إذا سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو استخف بشيء من دين الإسلام، فإنه يكون ناقضًا للعهد والذمة؛ فدماء الذميين لم تحقن إلا بالعهد، وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فمن سبه منهم ينقض عهده، ويصير كافرًا بلا عهد، فيهدر دمه، إلا أن يسلم"؛ (المحلى لابن حزم: 12/ 442).
• يقول حنبل: سمعت أبا عبدالله يقول: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقصه - مسلمًا كان أو كافرًا - فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يستتاب".
قال: وسمعت أبا عبدالله يقول: "كل من نقض العهد، وأحدث في الإسلام حدثًا مثل هذا، رأيت عليه القتل، ليس على هذا أعطوا العهد والذمة"؛ (الصارم المسلول على شاتم الرسول: ص9).
• وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في "فتح الباري" (12/ 347):
"أما الذمي والمعاهد فإنه يقتل إذا صرح بسب النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا عرَّض بسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نقل عن الإمام مالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق: يقتل، إلا أن يسلم، ونقل عن الكوفيين وبعض المالكية: أنه يعزر ولا يقتل، واحتجوا لذلك بما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك[3]، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: ((يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله))، قلت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: ((قلت: وعليكم))؛ اهـ.
تنبيهات على ما سبق:
أ) احتج الطحاوي لأصحابه الكوفيين بحديث عائشة السابق على عدم قتل الذمي أو المعاهد، أنه لو صدر هذا الكلام "السام عليك" من مسلم، لكان ردةً، أما صدوره من اليهود فالذي هم عليه من الكفر أشد منه؛ فلذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن تُعقِّب الطحاوي بأن دماءهم لم تحقن إلا بالعهد، وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فمن سبه منهم تعدى العهد، فينتقض، فيصير كافرًا بلا عهد، فيهدر دمه، إلا أن يُسلِمَ، ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به، لكانوا إذا قتلوا مسلمًا لم يقتلوا؛ لأن من معتقدهم حل دماء المسلمين، ومع ذلك لو قتل منهم أحدٌ مسلمًا، قُتل، فإن قيل: "إنما يقتل بالمسلم قصاصًا، بدليل أنه يقتل به ولو أسلم، ولو سب ثم أسلم لم يقتل، والفرق بينهما أن قتل المسلم يتعلق بحق آدمي، فلا يهدر، وأما السب فإن وجوب القتل به يرجع إلى حق الدين، فيهدمه الإسلام، والذي يظهر من الحديث: أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف، أو لكونهم لم يعلنوا به، أو لكلا السببين"؛ اهـ بتصرف (انظر المحلى: 12/ 442)، (فتح الباري: 12/ 348).
ب) القتل يكون لمن سب الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وهذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، ودليل ذلك ما أخرجه النسائي عن أبي برزة رضي الله عنه قال: "أتيت على أبي بكر، وقد أغلظ لرجل، فرد عليه، فقلت: ألا أضرب عنقه؟ فانتهرني، وقال: إنها ليست لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
• ويدل على ذلك أيضًا ما ذكره ابن حزم في كتابه "المحلى" (12/ 432) عن عبدالحميد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب، وكان على الكوفة لعمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى -:
"فكتب إلى عمر بن عبدالعزيز: إني وجدت رجلًا بالكوفة يسبك، وقامت عليه البينة، فهممت بقتله، أو قطع يديه، أو لسانه، أو جلده، ثم بدا لي أن أراجعك فيه، فكتب إليه عمر بن عبدالعزيز: سلامٌ عليكم، أما بعد... والذي نفسي بيده، لو قتلته لقتلتك به، ولو قطعته لقطعتك به، ولو جلدته لأقدته منك، فإذا جاء كتابي هذا، فاخرج به إلى الكناسة فسبه كما سبني، أو اعفُ عنه؛ فإن ذلك أحب إلي؛ فإنه لا يحل قتل امرئ مسلم يسب أحدًا من الناس إلا رجلًا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج) ماذا لو سب الذمي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم تقية من القتل؟
اختلف أهل العلم فيه على قولين:
• القول الأول: يُسقِط إسلامُه قتلَه؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله، بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأنفال: 38].
القول الثاني: لا يُسقِط الإسلامُ قتلَه؛ لأنه حق للنبي صلى الله عليه وسلم، وجب لانتهاكه حرمته، وقصده إلحاقه النقيصة والمعرة به، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه، ولا يكون أحسن حالًا من المسلم"؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 81).
كتبه الشيخ ندا أبو أحمد
[1] ابن سحنون: هو أحد الأئمة من أصحاب مالك، وزمنه قريب من هذه الطبقة.
[3] السام عليك: يعني الموت عليك، يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "إن قول اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: "السام عليك"، لا يحمل على السب، بل على الدعاء بالموت، ويدلك على هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وفى الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام" والسام: الموت، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الرد عليهم: "وعليكم" أي: الموت نازل علينا وعليكم.
- التصنيف:
- المصدر: