الإلحاد يُسمم الشعوب
التاريخ مليء بالعظات لمن تأمل وتبصّر، وقصص الملحدين وجرائمهم تملأ موسوعات ولا تستطيع مقالة على طولها أن تظهر إلا لمحة عابرة في تاريخ الزمان من حكايا الملحدين، لكن لعل ما ذُكر فيه تبصير بما لم يُذكر، وربما ترتفع همة باحث لتحرير مؤلف في هذا الباب فما أثراه وما أشد الحاجة إليه في هذه الفترة للقاريء العربي!
جماهير الشعوب المقهورة قد تطمح إلى برامج إصلاحية غير معتادة، وفي الغالب يحمل الملاحدة الذين لم يتردد اسمهم كثيرًا على آذان الشعوب رسالة تبشيرية بفلسفتهم الإلحادية وبأنهم لو وصلوا لقيادة الدول فإن الرخاء والحرية والمساواة ستكون من نصيب المقهورين، فيبادر الذين لا يعرفون جوهر الإلحاد في تجربة هذه الدعايات العريضة، ويقفز الملاحدة إلى السلطة فعليًا في بعض البلاد لكن النتيجة التي تختصر الكثير من السرد أن بضعة سنوات وربما شهور من حكم الملحدين تكون حاسمة في إثبات أن الإلحاد يُسمم الشعوب فعليًا ويغريها بالإبادة الشمولية التي لم يسمع الإنسان عنها إلا في القرن الماضي وحصريًا في الدول التي حكمها ملحدين كما سيأتي بيانه!
حين وصل الملحد بول بوت Pol Pot أو الأخ رقم 1 أو سالوث سار Saloth Sar، -أسماء كثيرة مستعارة لملحد واحد- حين وصل إلى الحكم في دولة كمبوديا لم يكن الشعب المسكين يحلم بغير ثورة صناعية واقتصادية تنتشله من وحل البؤس، لكن لم يكن هذا الشعب يعلم أن الثلاث سنوات القادمة 1976-1979 والتي سيحكم فيها الملحد بول بوت البلاد ستكون أصعب ثلاث سنوات في تاريخ كمبوديا على الإطلاق عبر كل تاريخها!
فقد أباد بول بوت رسميًا 25% من شعبه باسم الإلحاد والفلسفة المادية خلال 3 سنوات قضاها في الحكم. -1-
وهذه النسبة 25% مُسجلة رسميًا في دفاتر الدولة.-2-
ولولا تدخل القوات الفيتنامية في كمبوديا عام 1979 وتوقيف مجازر الملحد بول بوت وهروبه إلى أدغال كمبوديا لربما فاقت أعداد القتلى أعداد الأحياء.
ففي هذه الفترة الوجيزة أجبر بول بوت جميع سكان الحضر والمدن على الانتقال إلى الريف للعمل القسري في مزارع جماعية.
فلم يكن بول بوت يؤمن إلا بالإنسان المادي الذي يسير في حتميات مادية –ترس في آلة- إنسان بلا أدنى معيارية ولا قيمة ولا معنى ولا يحمل داخله مفردات شخصية مستقلة تميزه كونه مخلوقًا لله، ولا يكترث بالغاية وتصبح الأرض من وجهة نظره مادة استعمالية وغايته تحقيق أقصى إشباع ممكن منها لا أكثر!
وظن بول بوت برؤيته الإلحادية أن شعبه كله هو هذا الإنسان!
وفي بداية حكمه أعلن بول بوت عبر راديو كمبوديا الرسمي أن الحكومة الكمبودية لا تحتاج من شعبها أكثر من مليون إلى مليوني مواطن لإقامة اليوتيوبيا الإلحادية المادية Utopia، أما الباقين فلا حاجة لهم، لأنهم بلا فائدة. -3-
وأما الذين رفضوا هذه الرؤية الإلحادية المجنونة للملحد بول بوت، فقد قامت القوات الكمبودية الملحدة باصطحاب مئات الآلاف منهم واقتادتهم إلى الحقول الشاسعة وأمرتهم بحفر قبورهم بأيديهم، ثم دفنتهم أحياء، ورفضت إطلاق الرصاصات عليهم لأن طلقات الرصاصة أثمن من أن توضع في جسد "Bullets are not to be wasted." .
وأصحبت هذه الحقول التي دُفن فيها مئات الآلاف أحياء باسم الإلحاد تُعرف الآن في الثقافة العالمية بإسم "حقول القتل الكمبودية" . -4-
وفي دراسات ميدانية لاحقة تبين وجود 20 ألف مقبرة جماعية عملاقة استخدمها الملاحدة لدفن قرابة 3 مليون نسمة من الشعب الكمبودي طبقًا لليونيسيف UNICEF . -5-
كان بول بوت مثالاً للملحد الذي ينظر للبشر على أنهم حيوانات بلا قيمة ولا غاية ولا معنى، وأن الصراع من أجل البقاء والانتخاب الطبيعي –كما تقرر الداروينية- وقهر الآخرين هو الغاية البيولوجية الوحيدة في هذا العالم.
وبعد دخول فيتنام لكمبوديا وإسقاط حكومة بول بوت، عاش بول بوت ما تبقى من عمره في ظل حماية عسكرية لإحدى الكتائب المنشقة وبدعم مادي من جمهورية الصين الشعبية حليفه القديم. -6-
وقبل أن يموت بشهور قليلة قتل بول بوت أقرب أصدقاؤه إليه صون سن Son Sen وأحد عشر فردًا من عائلته، ثم انتحر وقيل مات بفشل في القلب.-7-
وبعيدًا عن كمبوديا وفي الصين في فترة حكم الملحد ماو تسي تونج Mao Zedong كان الناس يخشون السير تحت ناطحة سحاب في شنغهاي، لأنه قد يسقط عليك أحد المنتحرين!
فقد أصبح الانتحار في فترة حكم ماو تسي تونج ظاهرة متكررة كل ساعة طوال اليوم في شوارع الصين. -8-
وماو تسي تونج يصنفه النقاد على أنه أكبر مجرم في تاريخ الجنس البشري على الإطلاق، فقد قتل من 40-70 مليون نسمة بسبب سياسات التجويع والعمل القسري والإعدامات والإبادة الشمولية وقتل الأثنيات والعرقيات المختلفة! -9-
وفي يناير من عام 1958 أطلق ماو تسي تونج القفزة الكبرى إلى الأمام Great Leap Forward ، وكان يهدف من خلالها إلى تحويل الصين من دولة زراعية إلى دولة صناعية كبرى –الدعاية الإلحادية العريضة الكاذبة التي تحدثنا عنها في بداية المقال-، لكن هذه القفزة الكبرى إلى الأمام تسببت في أعظم مجاعة قاتلة في تاريخ البشرية deadliest famine in history .
فقد فشلت القفزة الكبرى بسبب إلحاد الحكومة، حيث أجبر ماو الملايين من الفلاحين والعمال والمدنيين على العمل في هذا البرنامج الصناعي كأنهم آلات مادية بلا روح. وطلب ماو معدلات عالية من الإنتاج لتحقيق نتائج كبيرة، ولكن لم يستطع الشعب أن يتحول إلى تروس مادية فانهار المشروع، مخلفاً خسائر ضخمة، دفع الشعب وحده الثمن مواجهاً فقر مدقع بلا طعام وبملابس رثة، وانخفض انتاج الحبوب بنسبة 15%. -10-
ومع الوقت ومع إصرار ماو على صحة تحليله الإلحادي للبشر وأنهم مجرد آلات، رفض ماو وقف مشروع القفزة الكبرى، وزادت الأمور سوءًا وتفاقمت الأزمة، وصار العمال الصينيون ينطبق عليهم القول العربي: "إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى".
ونظرًا لرؤيته المادية القاصرة وتحليله الإلحادي العقيم، وإنكاره لفروق الخِلقة بين البشر، فقد طلب ماو تسي تونج من الفلاح أن يُنتج الحديد والصلب فانهار إنتاج الصلب، وطلب من الحرفيين أن يزرعوا فانهارت الزراعة، وطلب من التقنيين أن يمارسوا الحرف البسيطة فانهار كل شيء، ودخلت الصين نتيجة القفزة الكبرى إلى عصر المجاعة.
فقد حدثت مجاعة الصين الكبرى Great Chinese Famine وهلك نتيجة هذه المجاعة 30 مليون صيني بين عامي 1958-1962جراء التحليل المادي الإلحادي الساذج للبشر واختزالهم في صيغة لا تحترم تميزهم ولا فروقهم الفردية ولا ملكاتهم الخاصة ولا بصماتهم الذاتية! -11-
لكن هل كان ماوتسي تونج يقصد عمدًا تسميم شعبه؟ أم أن الأمر حدثً بالصدفة، ونتيجة تراكم ظروف خارجة عن إرادة الجميع؟
في اجتماع سري جرى في فندق جينجيانغ Jinjiang Hotel بمدينة شنغهاي بتاريخ 25 مارس 1959 وقبل أن تتضخم المجاعة أمر ماو تسي تونج حكومته الملحدة رسميًا بشراء ثلث محاصيل البلاد في سابقة لم تحدث في تاريخ الصين، وهذا القرار من شأنه أن يحول البلاد في غضون شهور قليلة إلى مجاعة كبرى لم يظهر لها مثيل في التاريخ.
وسبب هذا التصرف الأرعن من ماو هو إلحاده، فقد أكد ماو تسي تونج أن قضية موت الناس جوعًا ليست مهمة كما يتصور البعض حيث قال: "من الأفضل أن يموت نصف الشعب، على أن يشبع النصف الأخر جيدًا". -12-
إن هذه الرؤية المادية الإلحادية والتي تجعل من ملايين البشر شيء غير مُكترث به، هذه الرؤية المادية لا تُفرزها إلا عقول لا تؤمن بالله ولا تؤمن بالإنسان.
بل لقد رفض ماو تسي تونج أن يفتح مخازن الحبوب أثناء المجاعة. -13-
وكان ماو تسي تونج يُعذب من يملك حبوب في منزله وقد أعدم كثيرين ممن يملكون الحبوب في منازلهم. -14-
لقد كان ماو تسي تونج يقصد عامدًا إبادة شعبه!
ونظرًا لكارثية الوضع فقد حنق الشعب بشدة على سياسات الحكومة الملحدة، واضطر ماو في النهاية إلى وقف القفزة الكبرى عام 1962 وانتقلت رئاسة الدولة إلى ليو شاي تشي Liu Shaoqi .
واستطاع الرئيس الجديد أن يفتح سريعًا مخازن الغلال وأن يستورد الحبوب من الدول الرأسمالية مما أوقف المجاعة بعد أن أبادت كما قلنا 30 مليون نسمة باسم الإلحاد وفلسفته الاختزالية المريضة المجنونه!
وهذه المجاعة الإجرامية المُتعمدة تُذكرنا بمجاعة أوكرانيا الكبرى Ukrainian Great Famine والتي ارتكبها الملحد جوزيف ستالين Joseph Stalin لتأديب الشعب الأوكراني، وقد وقعت أحداث هذه المجاعة خلال عام 1933 في أوكرانيا وراح ضحيتها 4 مليون أوكراني بسبب سياسة جوزيف ستالين التجويعية مع المقاطعات التي لا تُنفذ الأوامر . -15-
مع ملاحظة أن أوكرانيا في تلك الفترة كانت ملحدة وتنتهج السياسة الاشتراكية، فكان الصراع إلحادي-إلحادي، والجلادين ملاحدة والمجلودين ملاحدة، فكان هذا نموذجًا مباشرًا على إجرام الملحدين حتى في حق الملحدين أمثالهم!
وقد رفض ستالين أية مساعدات خارجية لأوكرانيا وقام بمصادرة جميع المواد الغذائية –صادر قرابة مليوني طن من الحبوب أثناء المجاعة-، وأمر بتقييد حركة سكان أوكرانيا الواقعين تحت المجاعة –بحيث يحرمهم من فرصة النجاة-، كل هذا من أجل إذلال الشعب الأوكراني بعد أن ظهرت فيه دعوات قومية تدعو للقومية الأوكرانية nationalism Ukrainian فأراد ستالين تركيع الشعب الأوكراني، وهذه السياسات القمعية أكدت أن ما حدث ليس مجاعة بالمعنى المعهود للمجاعة وإنما إبادة جماعية شمولية. -16-
وسياسة التجويع هي أحد سياسات الإلحاد في التعامل مع جموع الشعب، لأنها سياسة غير مكلفة ولا مرهقة وتأتي بنتائجها سريعًا ومن الصعب تعقب مرتكبيها.
وفي 28 نوفمبر 2006 قرر البرلماني الأوكراني رسميًا اعتبار الإتحاد السوفيتي مسئولاً مباشرًا عن مجاعة أوكرانيا عام 1933.
وفي يناير 2010 قررت محكمة أوكرانيا أخيراً وبصفة رسمية اتهام جوزيف ستالين بعملية الإبادة الجماعية للشعب الأوكراني، من خلال تلك المجاعة والتي كما قلنا راح ضحيتها 4 مليون أوكراني. -17-
ولم تكن أوكرانيا هي الوحيدة التي قاست من سياسات التجويع الإلحادية، فستالين طبّق سياسة التجويع في كثير من المقاطعات، ويقرر الباحث في الحقبة الستالينية روبرت كونكويست Robert Conquest أن ضحايا مجاعات ستالين القسرية والإبادة الوحشية وصلت إلى 30 مليون قتيل في أنحاء البلاد. -18-
والتاريخ مليء بالعظات لمن تأمل وتبصّر، وقصص الملحدين وجرائمهم تملأ موسوعات ولا تستطيع مقالة على طولها أن تظهر إلا لمحة عابرة في تاريخ الزمان من حكايا الملحدين، لكن لعل ما ذُكر فيه تبصير بما لم يُذكر، وربما ترتفع همة باحث لتحرير مؤلف في هذا الباب فما أثراه وما أشد الحاجة إليه في هذه الفترة للقاريء العربي!
خلاصة ما نقوله أنه لم تظهر مصطلحات مثل" التطهير العرقي، وأكوام الجماجم، وقتل الطوابير، وحقول القتل the Killing Fields " إلا داخل الدول التي حكمها ملحدين!
{وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة:205].
هوامش المقال
---------------------
1- Craig Etcheson, After the Killing Fields (Praeger, 2005), p. 119
2- www.paulbogdanor.com/left/cambodia/locard.pdf
3- "To keep you is no benefit, to destroy you is no loss."
Children of Cambodia's Killing Fields, Worms from Our Skin. Teeda Butt Mam. Memoirs compiled by Dith Pran. 1997
4- http://en.wikipedia.org/wiki/Killing_Fields
5- UNICEF estimated 3 million had been killed
William Shawcross, The Quality of Mercy: Cambodia, Holocaust, and Modern Conscience (Touchstone, 1985), pp. 115–116.
6- http://www.edwebproject.org/sideshow/khmeryears/fall.html
7- http://en.wikipedia.org/wiki/Phnom_Malai
8- In Shanghai, suicide by jumping from tall buildings became so commonplace that residents avoided walking on the pavement near skyscrapers for fear that suicides might land on them
Time. March 5, 1956.
9- http://www.hawaii.edu/powerkills/NOTE2.HTM
Modern China: The Fall and Rise of a Great Power, 1850 to the Present. Ecco Press. p. 351.
10- Spence, Jonathan (1999). Mao Zedong. Penguin Lives
11- http://en.wikipedia.org/wiki/Great_Chinese_Famine
12- "When there is not enough to eat, people starve to death. It is better to let half of the people die so that the other half can eat their fill."
Becker, Jasper (1998). Hungry Ghosts: Mao's Secret Famine
13- Becker, Jasper (1998). Hungry Ghosts: Mao's Secret Famine, p.81
14- Becker, Jasper (1998). Hungry Ghosts: Mao's Secret Famine, p.93
15- http://www.unitedhumanrights.org/genocide/ukraine_famine.htm
16- http://eng.maidanua.org/node/792
http://www.paulbogdanor.com/left/soviet/famine/ellman1933.pdf
17- http://www.kyivpost.com/content/kyiv/kyiv-court-accuses-stalin-leadership-of-organizing-56954.html
18- Conquest, Robert (1991) the Great Terror: A Reassessment, Oxford University Press,
___________________________
الكاتب: الدكتور هيثم طلعت
- التصنيف:
- المصدر: