الخليل عليه السلام {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}

منذ 2020-12-24

تمسكوا بالحنيفية السمحة التي بلغها أبونا إبراهيم عليه السلام، وتبعه سائر الأنبياء عليها، وجددها نبينا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وربوا عليها أولادكم؛ فإن الفوز الأكبر يوم القيامة معقود بها.

الحمد لله رب العالمين؛ أنار الطريق للسالكين، وأقام حجته على العالمين، فاهتدى بهداه أهل اليقين، وأعرض عنه أهل التكذيب، ويوم القيامة يجزى العباد بأعمالهم، نحمده كما ينبغي له أن يحمد، ونشكره فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بالجلال والجمال والكمال، وتنزه عن الأشباه والأمثال والأنداد؛ فلا رب يعبد بحق سواه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جدد الله تعالى به الحنيفية إذ درست، وأزال به أوضار الوثنية حين انتشرت؛ فتمت به النعمة، وكملت به المنة، وأقيمت به الملة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأسلموا له وجوهكم، وأخلصوا له أعمالكم، وتمسكوا بدينكم؛ فإنه الحق من ربكم، وسبب نجاتكم في آخرتكم {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61].

أيها الناس: يكثر في القرآن ذكر أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، بذكر سيرته مع المشركين، ومناظراته للضالين، وذكر أوصافه وأفعاله عليه السلام، حتى كرر ذكره صراحة أو إشارة في نحو من ثلاثين سورة من سور القرآن، وفي أكثر من ثمانين موضعا، وسبب ذلك والعلم عند الله تعالى أنه كان إمام الحنفاء؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أمروا باتباع ملته التي هي الحنيفية. وهي أكثر وصف وصف به الخليل في القرآن، مما يحتم على أهل الإيمان والقرآن معرفة الحنيفية، وفهم الآيات القرآنية التي ورد فيها هذا الوصف العظيم.

وفي اللغة: «أن الحَنَفَ: هو ميل عن الضّلال إلى الاستقامة، والجَنَفَ: ميل عن الاستقامة إلى الضّلال».

والخليل عليه السلام ابتلي بعصر كثر فيه الضلال والانحراف، وتعددت فيه الأديان الشركية، كعبادة الأصنام، وعبادة الكواكب، وابتلي بملك ادعى الربوبية من دون الله تعالى، فمال الخليل عليه السلام عن كل هذه الأديان إلى عبادة الواحد الديان. والعرب في جاهليتهم بقي فيهم شيء من شعائر الحنيفية لكنهم لوثوها بشركهم، قَالَ الزَّجَّاجُ: «الحَنِيفُ فِي الجاهِلِيَّة مَنْ كَانَ يحُجُّ البيتَ، ويغْتَسِلُ مِن الجَنابَةِ، ويَخْتَتِنُ، فلمَّا جاءَ الإِسْلاَمُ كَانَ الحَنِيفُ: المُسْلِمَ، لِعُدُولِه عَن الشِّرْكِ». وجاء في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» رواه أحمد. يَعْنِي: «شَرِيعَةَ إِبراهيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، لأَنَّه تحَنَّفَ عَن الأَدْيانِ، ومَالَ إِلَى الحَقِّ».

وبهذا نعلم أن الحنيفية هي ملة إبراهيم عليه السلام، وأنها الميل عن الشرك إلى التوحيد، والانقياد لله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، والولاء له سبحانه ولأتباع دينه، والبراءة من الشرك والمشركين، وهو ما فعله الخليل مع قومه، فجعله الله تعالى أسوة حسنة للحنفاء في كل زمان ومكان؛ كما قال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].

والحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام ذُكرت في القرآن عشر مرات في مقامات عدة، قُرر بها التوحيد، ودحض بها التنديد، فذكرت في مقام مناظرة الخليل عليه السلام لعباد الكواكب؛ إذ ختم مناظرته بتقرير التوحيد، والبراءة من الشرك، فقال عليه السلام {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] ولذا أثنى الله تعالى عليه، وجعله أمة مع أنه واحد، ولكن لثباته على التوحيد، ودحضه الشرك {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120].

ولما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كان دينه هو الحنيفية ملة إبراهيم، وكل ما خرج عن دينه فهو خارج عن الحنيفية؛ وذلك أن الله تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالتزامها {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] وفي آية ثانية {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95] وفي ثالثة {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161] وفي رابعة {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105].

كلها أوامر ربانية واضحة حازمة حاسمة لا تقبل التأويل ولا التحريف باتباع ملة إبراهيم عليه السلام التي هي التوحيد، وأنها هي الدين الوحيد الذي يقبله الله تعالى من عباده، وأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتزامها والدعوة إليها، فالتزم بها، ودعا إليها، وقاتل المشركين عليها، فكانت هي الحق، وكان ما عداها باطلا.

وذُكرت الحنيفية في مقام بيان زيف اليهودية والنصرانية المحرفتين، وأنهما ليستا من الحنيفية، ولا من دين موسى وعيسى عليهما السلام، بل هما ديانتان مبدلتان محرفتان، يبرأ منهما إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 135- 136] وهذا يدل على أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد، وهو الحنيفية السمحة، وهي الإسلام الذي بلغه محمد عليه الصلاة والسلام، كما يدل على أن موسى وعيسى عليهما السلام كانا على الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، وأنهما بريئان مما حرفه علماء أهل الكتاب من أديانهم وكتبهم.

ولما حاول أهل الكتاب الانتساب للخليل عليه السلام نفى الله تعالى ذلك، وبين سبحانه أن اتباعه هم من كانوا على ملته الحنيفية، وهم المسلمون فقط {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 67 - 68]. نعم.. المسلمون هم أولى الناس بالخليل عليه السلام، وأولاهم بموسى وعيسى وبسائر الرسل عليهم السلام؛ لأنهم تمسكوا بالحنيفية التي بلغها جميع الرسل، ولم يحيدوا عنها إلى الشرك والضلال، ولم يغيروها بإفك وإثم وافتراء، بل لزموها والتزموا بها، ودعوا الناس إليها، وتواصوا فيما بينهم بها، وصبروا على الأذى فيها؛ فلهم النصر في الدنيا، والفوز الأكبر في الآخرة {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

  

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

أيها المسلمون: كانت الحنيفية أبرز صفة اتصف الخليل عليه السلام بها، وأمضى حياته كلها يدعو إليها، وحطم الأصنام لإقامتها، وناظر المشركين لإثباتها، وأُلقي في النار بسببها، وفارق قومه لأجلها، وهاجر لله تعالى يدعو إليها، وهي أكثر شيء أثنى الله تعالى على الخليل بها. ولا عجب في ذلك؛ فإن البشر ما خلقوا إلا لأجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ولا خلقت الجنة إلا ثوابا لمن قام بها، ولا خلقت النار إلا عقابا لمن أعرض عنها.

  إنها الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام التي فطر الله تعالى البشر عليها {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]. وقال الله تعالى في الحديث القدسي: {...إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا} (رواه مسلم).

تلك هي الحنيفية ملة أبينا إبراهيم عليه السلام التي اختارها الله تعالى دينا لخلقه، وستبقى إلى آخر الزمان، وتتأبى على المحو والإزالة، وتستعصي على التحريف والتبديل، فمن رام تغييرها، أو التعديل عليها، أو خلط غيرها بها، أو جمعها بما يعارضها؛ فإنما يحارب الله تعالى في دينه، ويناكفه في شِرعته، ولن يستطيع تغيير قَدَره ولا دينه، وغاية أمره أنه يوبق نفسه، ويضر من تبعوه في ضلاله، وقد جاء في حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ القُرْآنَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ» {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] وَقَرَأَ فِيهَا: إِنَّ ذَاتَ الدِّينِ الْقَيِّمِ عِنْدَ اللهِ الْحَنِيفِيَّةُ، غَيْرُ الْمُشْرِكَةِ وَلَا الْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّةِ، وَمَنْ يَفْعَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ» رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

فتمسكوا بالحنيفية السمحة التي بلغها أبونا إبراهيم عليه السلام، وتبعه سائر الأنبياء عليها، وجددها نبينا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وربوا عليها أولادكم؛ فإن الفوز الأكبر يوم القيامة معقود بها.

وصلوا وسلموا على نبيكم...

  • 5
  • 0
  • 5,598

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً