اهتمام أهل العلم المعاصرين بتربية أبنائهم
يقول أخي محمد: كان حريصًا على تعليمنا القرآن الكريم وتحفيظه لنا، بالإضافة إلى السنة، وكان حريصًا على أن نُجالس الصالحين.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فلا يَخفى أهمية تربية الأبناء وتَنشئتهم نشأةً صالحة، تجعل منهم دعائم أمن لأُمتهم، وسلامًا لمجتمعهم، وبناءً لأنفسهم، وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة حاثَّة الوالدين على حسن تربية الأبناء؛ قال الله عز وجل: ﴿ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ﴾ [التحريم: 6]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } ﴾ [طه: 132].
وقال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيته» ؛ [متفق عليه]، وقال عليه الصلاة والسلام: «مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضْرِبوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرِّقوا بينهم في المضاجع»؛ [أخرجه أبو داود].
وأهل العلم من المعاصرين كانت لهم عناية تامة بتربية أبنائهم، يَحسُن الاطلاع على أحوالهم في ذلك، والاستفادة منها، ومن أولئك:
سماحة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد (ت 1402هـ) رحمه الله:
يقول ابنه معالي الشيخ صالح: الشيخ رحمه الله استطاع بتوفيق الله له أن يجمع بين الهيبة والوقار، وخصائص طالب العلم، والأب المربي الحاني الرفيق الشفيق، فإن شئته مهيبًا وقورًا محافظًا على الانضباط في البيت، فترى من ذلك العجب، وإن شئته أبًا حانيًا قد انطلق مع أولاده وأهله في أحاديث أسرية ومداعبات مع الصغار؛ بحيث يلتفون حوله ويرغبون في مجلسه، ويأنسون بأحاديثه، فإنك واجدٌ في ذلك شيئًا كثيرًا.
وأكثر ما تكون جلسات الشيخ مع أولاده في مواعيد الطعام، وله جلسة بعد العشاء يتحلَّق حوله الأهل والأولاد، يتم فيها مجاذبة أطراف الحديث على نحو ما يجري لدى الناس في بيوتهم، غير أن جلسات الشيخ تتميز في كثير منها بحرص الشيخ فيها على التوجيه والتربية، وبيان بعض الأمور والأحوال لأبنائه وبناته؛ مما ينبغي أن يتمسكوا به من أهداب الدين، وكريم الأخلاق، وما ينبغي أن يَجتنبوه من سيئ الأفعال، وذميم الأخلاق، والبعد عن قرناء السوء.
كما أن الشيخ يُجمِّل مجلسه الأسري بشيء من الأدب، والحكايات التاريخية، والقصص ذات المغزى، والمقطعات الشعرية.
والشيخ ذو حرص ومتابعة وعناية فائقة في كل ما يجري حوله من شؤون البيت والأهل والأولاد، غير أن له عناية خاصة بأربعة أمور:
أولها: المحافظة على الصلاة جماعةً في المسجد، فإن الشيخ في ذلك يقف من أبنائه موقفًا صارمًا لا يقبل فيه التساهل أبدًا، ويغضب غضبًا شديدًا، ويؤدب أدبًا رادعًا لو حصل تقصيرٌ أو تساهل، أجزَل الله له المثوبة وتغمَّده بواسع رحمته.
الثاني: التعليم: فالشيخ كما سبق يحب العلم، ويحرص عليه ويُقدِّره، ومن ثمَّ فقد كان حريصًا جدًّا على أولاده؛ ليحصوا من العلم قدر طاقتهم، ويبذلوا فيه غاية وسعهم، فكان يتابعهم متابعة عجيبة، ولا يرضى أن يتخلف أحدٌ عن المدرسة، ولا يتهاون في ذلك أو يتساهل، كما كان متابعًا لهم في مسؤولياتهم المدرسية وواجباتهم المنزلية بشكل عجيب، مع ما أعطاه الله من هيبة في ذلك.
الثالث: القرناء والأصدقاء، لقد كان الشيخ حريصًا على معرفة قُرناء أبنائه وجلسائهم، وأصدقائهم ومَن يرافقهم، وله في المتابعة والمساءلة طريقة خاصة بالأسلوب المباشر وغير المباشر.
الرابع: توجيه أبنائه لحسن استقبال الضيوف والأدب معهم، واحترامهم وتوقيرهم، والعناية بهم، واللباقة في التحدث إليهم، وله في ذلك حُسن توجيه ومتابعة.
الشيخ إبراهيم الحصين (ت1410هـ) رحمه الله:
يقول ابنه عبدالرحمن: كان رحمه الله هينًا لينًا مع أبنائه، فلا أعلمُ أنه ضرب أحدًا منهم، مع ذلك كان لا يتساهل في أمور الدين - وخاصة الصلاة - فكان يجاهد جهادًا في إيقاظهم لصلاة الفجر خاصة، ولا يترك البيت إلى المسجد غالبًا حتى يستيقظ جميع من تجب عليهم الصلاة، وكان رحمه الله تعالى يحبُّ إقراض الناس ويُربي على ذلك أولاده، ويقول: قرضان بصدقة، كما كان يكلف كلًّا من أبنائه ما يُطيقه من عمل، وكان يُدربهم رحمه الله على ما يُطيقونه من أعمال، ويشجعهم على ذلك.
قال ابنه أحمد: كان الوالد يحثنا على الصلاة في المسجد النبوي، ويُرغبنا في ذلك، وكان يقول: إن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة في هذا المسجد.
ولا أنسى هذا الموقف من الوالد رحمه الله تعالى، عندما كنَّا نذهب إليه في الطائف في الصيف، فقلت له: سأذهَب إلى جُدة مع بعض الزملاء، فما زاد رحمه الله تعالى على أن قال: يا بُني، تعلَّم أننا في حاجة إليك، والأمر ما تراه، ثم أخرج من جيبه مبلغًا من المال ليعطيني إياه مصاريفَ لهذا السفر، فأثَّر فيَّ هذا الأسلوب، وآثرتُ البقاء ولم أسافر.
الشيخ عبدالله الجار الله (ت 1414هـ) رحمه الله:
يقول تلميذه الأستاذ مناحي بن محمد العجمي: كان الشيخ نعم الداعية في بيته ونعم القدوة الحسنة، فلقد تأثَّر به أبناؤه وأهل بيته مما جعلهم من الصالحين، وذلك لكون الشيخ موجهًا وداعيًا في بيته بأخلاقه الحسنة، وحُسن تعامله مع أفراد أسرته.
يقول ابنه محمد: لم يكن للوالد درس معين أسبوعي، ولكنه كلما لا حظ على أحد من أفراد الأسرة شيئًا، بادَره بالنُّصح والتوجيه بالحكمة.
الشيخ صالح بن غصون (ت 1419هـ) رحمه الله:
يقول تلميذه الدكتور طارق بن محمد الخويطر: رغم انشغاله ومرضه كان يلاطف الأطفال، ويسلِّم عليهم، ويقبِّلهم، ويُمازحهم، ويسأل عن أسمائهم، وأذكر أنه اقتطع جزءًا من وقت الدرس، لكون أحد الصغار اتصل عليه، وطلب منه موضوعًا في التعبير، فبدأ الشيخ يملي عليه جملًا في الموضوع الذي طلبه، وكان إملاؤه ببطءٍ؛ حتى يتمكن الصغير من الكتابة، حتى اكتمل الموضوع، ثم ودَّع الشيخ الصغير بالدعاء له بالتوفيق.
اتصل بعضُ أحفاده يخبره بنجاحه وتفوُّقه، التفت الشيخ بعد أن انتهت المكالمة وقال مازحًا: هذا الاتصال ليس للإخبار، وإنما لتجهيز الهدايا والمكافآت، والشيخ رحمه الله كان يحب الأطفال ويحرص على إدخال السرور عليهم، ولهذا كان يحتفظ بالحلوى يوزعها عليهم، ولم يدع هذه العادة المحببة إلى نفسه حتى وهو مريض في المستشفى.
للشيخ أولاد وبنات استفادوا من سيرة والدهم رحمه الله، وتربيته وتوجيهاته، وحثه على العلم، وحرصه عليهم، فكان رحمه الله يتصل من عمله؛ ليطمئنَّ على وصولهم إلى البيت وسلامتهم، وحينما كبر الأولاد كان يسمح لهم بالخروج إذا استأذنوه، لكنه يخبرهم أنه لن ينام إلا إذا عادوا، وكان لا يخلد إلى الراحة أو النوم حتى يطمئنَّ عليهم.
فكان من ثمار هذا الحرص وهذه التربية أن كان من أولاده الضابط والمدرس والموظف، كما أن له من حصل على الدكتوراه، وبعضهم على الماجستير.
لحِق صلاح الشيخ رحمه الله أبناءَه، فهم به بَررةٌ، حيًّا وميتًا، رأيتهم جميعًا في خدمته كأحسن حال، لا يأنفون من شيء، ولا يستثقلون أمرًا في أي وقت.
سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز (ت 1420هـ) رحمه الله:
يقول تلميذه الشيخ عبدالعزيز بن محمد السدحان: أخبرني ابنه أحمد أن الشيخ رحمه الله كان يتصل بالهاتف الداخلي في البيت على أولاده، يوقظهم لصلاة الفجر، وكان إذا أيقظهم يُلقنهم: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» ؛ لأن النوم يُغالبهم، فيأمرهم بإعادة الجملة النبوية؛ حتى يتأكد أنهم تيقظوا.
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم الموسى: كما أن سماحة الشيخ إمام في زهده، وورعه، وعلمه، وكرمه، وأخلاقه، وأحلامه، وشجاعته، ونُصحه، فهو كذلك إمام في تعامله مع أبنائه، فهو رحمه الله يعاملهم معاملة الوالد الرحيم، والمربي الشفيق الكبير؛ حيث كان يحنو عليهم، ويحترمهم، ويقدرهم، ويدعو كثيرًا لهم، ويعدل فيما بينهم، ويستجيب لدعوتهم.
ومِن عدله بين أولاده وزوجاته أنه جعل لكل من أولاده وزوجاته حسابًا خاصًّا، فمن احتاج منهم مبلغًا خلاف المصاريف واللوازم الضرورية، وما يحتاجه البيت، قيَّد ذلك في حساب المحتاج على سبيل القرض، وكذا لو أن أحدًا من أولاده احتاج إلى سيارة، أو غيرها، دفَع المبلغ، وقيَّد ذلك في حسابه الخاص.
ومما يدل على عنايته بهم أنه يخصهم بوقت يسمع منهم ويسمعون منه، ويسألونه عما أشكَل عليهم، وقد خصَّص لأبنائه وبناته وزوجتيه وقتًا معينًا كذلك.
سُئل سماحة الشيخ رحمه الله: هل اخترت لأبنائك طريق الدراسة أم تركت لهم الحرية في اختيار ما يشاؤون في تحصيل العلم؟
فأجاب: نشير عليهم بما نرى، وقد تُقبل الإشارة، وقد يختار الفرد منهم شيئًا آخر، نشير عليهم بكلية الشريعة دائمًا، وبعضهم قد يختار كلية أخرى.
الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن قاسم (ت 1421هـ) رحمه الله:
قال الشيخ عبدالملك عن والده: حرص الوالد رحمه الله على غرس التوحيد في قلوب أبنائه، وكان يردِّد ذلك كثيرًا لا يُحصى، وأمر الصلاة عنده كان مقدَّمًا على كل شيء، وكان رحمه الله لا يعنِّف ولا يحبُّ الضرب، وقد سألته يومًا عن الضرب وفائدته من الناحية التربوية، فقال: أبي رحمه الله لم يضربني.
توفي رحمه الله عادلًا بين أبنائه، ومتوازنًا في حديثه وعباراته وحركاته وسكناته معهم، وحريصًا على تعلُّمهم وتعليمهم.
وكان رحمه الله يقول لإخوتي: لا أسمح لكم أن تخرُجوا من البيت إذا أذَّن المؤذن إلا للصلاة، وذلك خوفًا من التهاون فيها أو تضييعها.... وكان رحمه الله يكره إلباس الصغار من الأطفال البنطالَ والقميص، ويقول: حتى لا يتعودوا عليه.
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الفريان (ت1424هـ) رحمه الله:
يقول ابنه الشيخ عبدالله: كان رحمه الله وغفر له دائمًا يسألنا بين الحين والحين: كم نحفظ من القرآن؟... أبناؤه وأحفاده كان - رحمه الله - يشجعهم على الالتحاق بمدارس تحفيظ القرآن، أو حلقات التحفيظ في المساجد، ويمسك بأيديهم ويذهب بهم إلى حلقات التحفيظ في المساجد؛ ليروا أسنانهم وما أنجزوا من حفظ، وما حصَّلوا من جوائز، فيصبح في أنفسهم شيءٌ من التنافس، ويزيد على هذا أن يضع لهم الحوافز والجوائز منه شخصيًّا، ويُذكِّرهم بالأجر العظيم لحافظ كتاب الله ومنزلته العظيمة يوم القيامة، والشفاعة التي يختصُّ بها دون المسلمين.
كان رحمه الله يحثُّ أبناءه دائمًا على مواصلة طلب العلم، ويدلُّهم على فضل التعلُّم، وأيضًا كان يحثُّ أبناءه الذين أكملوا الجامعة على الالتحاق بوظيفة معلم، ويقول: إن في التحاقِكَ بالتعليم مراجعة لما تعلَّمته، فلا تنساه وتتعلَّم أكثر، كان من عادته رحمه الله وأسكنه فسيح جنَّاته أن يتصل هاتفيًّا على كل بيت تحت ولايته؛ لإيقاظ أهله لصلاة الفجر، ويأمرنا بالاهتمام بصلاة آخر الليل، ويحرص على صلاة الجماعة.
العلامة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله (ت 1430هـ):
يقول ابنه الشيخ عبدالرحمن: كان يتعاهدنا بالتربية، ويتفقَّدنا للصلاة، ويحضُّنا على الخير، فهو حريص على توجيهنا وإلحاقنا بمدارس تحفيظ القرآن الكريم، كما أنه حريص على اختيار أصحابنا وتوجيهنا إلى طلب العلم، وكان نادرًا ما يسلك مسلك العنف.
يقول أخي محمد: كان حريصًا على تعليمنا القرآن الكريم وتحفيظه لنا، بالإضافة إلى السنة، وكان حريصًا على أن نُجالس الصالحين.
تقول أختي هيا: أذكر أنه لم يكن يمدُّ يده نحونا بالضرب أبدًا، حتى تصوَّرتُ في طفولتي أنه لا يعرف العقاب ... لقد كان عنوانًا للعطف والهدوء؛ ولكنه كان صارمًا في تربيته إذا أحسَّ أن طفله يحتاج للحزم. الدراسة.. كان يحرص على تفوقنا ويفرح به، كما يَسوؤه تأخُّرنا الدراسي، وبعد أن كبرنا وصار لنا أولادٌ، أصبحت أخواتي يجتمعْنَ في بيته كل أسبوع، وكانت جلسته قصيرة؛ لكنها نفيسة، يجلسنَ معه قرابة نصف ساعة، يَسألنه فيها عن حاله، وتتخللها الفتاوى والفوائد التي كان ينثرها رحمه الله بينهنَّ.
الشيخ عبدالعزيز بن محمد الوهيبي رحمه الله (ت 1430هـ):
كان الشيخ رحمه الله مسافرًا في عام 1430هـ مع إحدى زوجتيه، ومعهما ثمانٍ من بناته، فقدر الله فوقع له حادثة سير مروع في الطريق ما بين مدينة الرياض ومدينة الدمام، فتوفي الشيخ، وزوجته، وثلاث من بناته، رحمهم الله جميعًا، وأسكنهم فسيح جناته.
للشيخ رحمه الله منهج في تربية بناته، نستشف معالمه من رسائل كتبتها ثلاث من بناته اللائي كتب الله لهن الحياة.
تقول ابنته نوف:
كان - رحمه الله ووالدتي وأخواتي - شديد الحرص على إتقاننا حفظَ القرآن، فكان يمسك المصحف في بعض الأحيان ليسمِّع لنا بعضًا من الآيات، وقد كان يغضب حينما يرى بعض الأخطاء لتفريطنا، وقد كانت نصائحه دائمًا ما تترنم في أُذني وفي داخلي، ففي إحدى المرات قال لي: نوف وأنا أبوك عليك بالقرآن، إن حفظتِه حفظَكِ الله، وإن ضيعتِه فأنتِ على خطر عظيم.
وتقول ابنته مها:
أنت معلمي الأول في هذه الحياة ومواقفك معي لا تُنسى؛ فقد كنتَ تربي فيَّ مهارة الحفظ وتحثني على اغتنام أوقاتي في حفظ ما يفيدني، ولا زلتُ أذكر تلك اللحظات التي كنت أُسمِّع لك فيها [لامية ابن تيمية] وتُثني عليَّ، وبعدها شجَّعتني على حفظ (وصية الألبيري) وكنت دائمًا ما تسألني عمَّا حفظتُه بقولك: كم حفظتِ؟ وتُسمِّعه لي، وتشجعني على حفظ ما بقي من أبيات، فقد كنت نعم الأب ونعم المربي، فجزاك ربي عني خير الجزاء، وغفر لك وأسكنك فسيح جناته ووالدتي وأخواتي.
وتقول ابنته هند:
منذ أن خرجت إلى الدنيا وأنا أتعلم منه في كل يوم درسًا جديدًا، حتى بعد وفاته لا زلتُ أتلقَّى الدروس، والدي رحمه الله لم يكن شخصًا عاديًّا، فمنذ صغري عهِدتُه شديد الحرص على تربيتي، ودائمًا ما يحثني على حفظ القرآن الكريم.
عرفتُ فيه الغيرة الشديدة، حتى إنه أمرني بلُبس العباءة حين بلغت السابعة من عمري، كان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر في كل أوقاته...لا أستطيع نسيان كلماته عندما توفيت جدتي رحمها الله: الحمد لله على ما قضاه، هذا طريق كلنا سالِكُوه، اصبري يا بنيَّتي واحتسبي، ما ندري مين اللي عقبها.. المؤمن يصبر ويحتسب ويرضى على ما قدَّر الله، وهذه أمانة الله وأخذها...نزعل إذا ربي أخذ أمانته؟ كأنما كلماته عزاء لي، فبعدها بخمسة أشهر كان هو أول مَن فارقنا ... أيقنتُ بعد موته أنَّ على الإنسان ترك أثر طيب بعده.
سماحة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العقيل رحمه الله (ت 1432هـ):
قال رحمه الله: وأما الكلام على أولادي وذريتي، فأقولُ متحدثًا بنعمة الله:
أحمَده تعالى أن وهب لي ذرية صالحة، وأسأله تعالى أن يُديم عليهم الصلاح والاستقامة، وجملتهم خمسة وثلاثون ما بين ذكر وأنثى، والموجودون الآن ثلاثة عشر ابنًا وإحدى عشرة بنتًا، من أربع زوجات، وكانت سياستنا مع الأولاد أصلحهم الله حال صغرهم ما يلي:
♦ وضعنا لهم جدولًا لأداء الصلوات في المسجد مع الجماعة؛ لنعرف من صلى فيكتب، ويُعطى مكافأة ويُشجَّع، ومن تخلَّف من غير عذر يُحاسب ويُحرم المكافأة.
♦ علمناهم الأذان، فكل واحد يؤذن يومًا ليُشجعوا على مثل هذا.
♦ عوَّدناهم على الخطابة، بحيث يقوم أحدهم ويخطب ويتكلم بما يريد.
♦ علمناهم مبادئ الخط والإملاء والحساب وغير ذلك.
♦ تكليفهم ببعض الأعمال التي يطيقونها؛ كل بحسب حاله، تمرينًا لهم عليها.
♦ إذا احتاج أحدهم إلى شيء فإنه يكتب لي خطابًا يطلب فيه حاجته، حتى يتعلَّمُوا الإنشاء وحسن التعبير.
♦ إعطاؤهم مكافآت، وتشجيعهم كلٌّ بحسب ما يقوم به.
كتبتِ ابنتُه الأستاذة بدرية عن والدها رحمه الله، فقالت:
كان الشيخ مثلًا يُحتذى به وسيرة تُقتدى، كان حازمًا في رفق، جادًّا في لين، يحمل طيب الصفات وجميل الخصال، كان لطيفًا محبوبًا، يرعى أهل بيته، ويتعاهدهم في كل شؤونه، لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وله فيها توجيه أو نصحٌ، أو رأي سديد، وكان حازمًا معهم في كل ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، يحثُّهم على تعلُّم كل ما هو مفيد، وكان شديد الحرص عليهم، خاصة في أمور العبادات، فقد كان يوقظهم للصلاة، ويحثهم على التبكير إليها والحرص على سننها وواجباتها، ويتفقد من غاب عنها، وكان شديد الاهتمام بالقرآن الكريم وتلاوته وحفظه وإتقانه، فقد كان يضع درسًا يوميًّا بعد صلاة العصر لتدارُس كتاب الله وتلاوته، وكان يتعاهد ما حفِظوه، كان شديد المحافظة على الأذكار والسنن والآداب، وكان ينصح أبناءه بالمحافظة عليها، وكان كريمًا مِعْطاءً، كثيرَ الهبات، فيتعاهد أبناءه وأقاربه بالعطايا والهبات، كان حريصًا على تعليم أبنائه طيب الخصال وحسن الأخلاق، فيحثهم على الحلم والعفو، والتأني وعدم العجلة، والصبر والإخلاص والاحتساب، ومقابلة السيئة بالحسنة، وقول الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا ولم يقتصر اهتمام أهل العلم من المعاصرين بأبنائهم وهم صغار في السن؛ بل امتدَّ ذلك ليشمَلهم وهم كبار في السن، فالشيخ سليمان بن صالح الخزيم رحمه الله، كتب رحمه الله وصيةً لابنه صالح بمناسبة تعيينه معلمًا، قال فيها:
أُوصيك ونفسي بتقوى الله تعالى في السرِّ والعلانية، وأن تجعل الاستعانة به نُصب عينيك، فإنه نعم المعين، وأن تحرِص غاية الحرص على الجد والاجتهاد في أوقات الفرص من الازدياد من طلب العلم النافع، وسؤال الله تعالى إياه، وأن تتعاهد ما حفِظته من القرآن، وأن تحرِص على حفظ ما لم تحفَظ منه، ومن غيره مِن متون العلم النافعة، وإياك أن تشتغل عن الازدياد من العلم بشيء ما، ونسأل الله لنا ولك التوفيق، وألا يَكِلَنا إلى أنفسنا طرفة عين، إنه جواد كريم.
وكتب رحمه الله وصيةً لابنه أحمد عندما انتقل من عمل إلى آخر:
والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وأن تجعل الاستعانة به على بالك في كل شؤونك، فإنه نعم المعين ... وقد قال بعض السلف في الكلام عن الاستعانة بالله دون غيره من الخلق: إن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، أو دفع مضارِّه، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه، إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو الْمُعان، ومن خذله فهو مخذول، وهذا تحقيق معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن المعنى: لا تحوُّل للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله، والله يحفظ الجميع والسلام.
وقال رحمه الله في وصية ثانية له: وتذكَّر أنك في العمل مرتاح وموضع تقدير لرؤسائك، هذا من توفيق الله، إذا رزَق الله العبد حُسنَ سلوك وحسن خُلقٍ، وتمام عقلٍ، فهي من أكبر نعم الله على العبد، ومن مواهب الله الجسام لعباده: العقل والدين.
وفي الختام: مما ينبغي التنبيه إليه أنَّ من أهم العوامل في تربية الأبناء: القدوة الحسنة، فكلما كان المربي قدوة حسنة كان تأثيره أكبرَ، فيتأثر الأبناء به؛ يقول الشيخ صالح بن علي الغصون رحمه الله: أنا متأثر بوالديَّ، فلي أبوان صالحان، وأهل استقامة والتزام تمامًا، وأنا متأثر بهما، وأدعو لهما بالمغفرة والرحمة، وأن يرفع درجاتهما، ويُعظِّم حسناتهم؛ ولهذا نشأت على المحافظة على الصلوات منذ الصغر، وعلى قراءة القرآن، وكنتُ أصوم وعمري اثنا عشر عامًا.
ويقول الدكتور طارق بن محمد الخويطر عن الشيخ: بعد وفاة والده نشأ رحمه الله يتيمًا فقيرًا، وقد عاش رحمه الله في كنف والدته، وهي امرأة صالحة أحسنت تربيته، حدثني عنها الشيخ مرارًا بأنها صاحبة دين، وأنها تصلي كثيرًا، وإذا أرخى الليل رواقه، وأسبل ستره، سمِع بكاءها وهي تصلي، فتأثر الشيخ بصلاح أمِّه ودعائها.
قال الشيخ عبدالملك بن قاسم عن والده: "أذكر أن أعظم تربية استفدنا منها ورأيناها ظاهرة - القدوة؛ فقد كان قدوة في العبادة والطاعة وحفظ اللسان وغيرها"، فالقدوة لها تأثير كبير في التربية والتنشئة، فينبغي مراعاة هذا الجانب والاهتمام به من قِبَل المربي لغيره من أبناء وغيرهم.
ويُلحظ مما سبق ذكره أن أهل العلم من المعاصرين، كانوا يركزون في تربيتهم أبناءَهم على أمور، من أهمها:
♦ غرس التوحيد في قلوبهم.
♦ الاهتمام بالمحافظة على الصلاة، وأن تكون صلاة الذكور جماعةً في المسجد، مع الحرص على إيقاظهم لصلاة الفجر.
♦ الاهتمام بحفظ القرآن الكريم، والالتحاق بحلقات التحفيظ.
♦ الاهتمام بالدراسة وطلب للعلم، وعدم التخلُّف عن المدرسة، والتشجيع على طلب العلم الشرعي.
♦ التحلِّي بحُسْن الأخلاق وكريم الخصال.
♦ تكليف الأبناء بما يطيقون من أعمال، وتدريبهم على ذلك.
أما الوسائل التي اتخذوها لذلك؛ فمنها:
♦ ملاطفة الأطفال والحنوُّ عليهم، والشفقة بهم والمزاح معهم.
♦ التعامل معهم باحترام وتقدير.
♦ منحهم الهدايا والجوائز والهبات.
♦ العدل بينهم.
♦ الحزم مع رفق، والجدُّ مع لين.
♦ عدم الضرب والعنف إلَّا في أضيق الحالات.
♦ الشورى وعدم الإلزام في دراسة ما يختارونه من تخصُّصات في الكليات والجامعات.
هذا واللهَ أسألُ أن يوفِّقنا وجميع إخواننا المسلمين لتربية الأبناء تربيةً تجعل منهم أفرادًا نافعين لأنفسهم ومجتمعهم وأُمَّتهم الإسلامية.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: