الشعوبية
لا شك أنه لا فضلَ لعربيٍّ على عجمي إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس أتقاهم، وأنه لا يصح الافتخار بالنسب، وأن الفخر بالأنساب من الجاهلية
قال الجوهري في "الصحاح" (1/ 155): "الشعوبية: فرقة لا تفضل العرب على العجم".
وقال الزمخشري في أساس البلاغة (ص: 330): "فلان شعوبيٌّ ومن الشعوبية؛ وهم الذين يصغرون شأن العرب، ولا يَرَون لهم فضلًا على غيرهم".
وقال الزبيدي في "تاج العروس" (3/ 144): "الشعوبية وهم فرقة لا تفضل العرب على العجم، ولا ترى لهم فضلًا على غيرهم".
وفي "المعجم الوسيط" الصادر عن مجمع اللغة العربية (1/ 484): "الشعوبية نزعة في العصر العباسي تنكر تفضيل العرب على غيرهم، وتحاول الحطَّ منهم، وأصحاب هذه النزعة الواحد شعوبي".
وفي "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (7/ 183): ذهبت فرقة من الناس إلى أنه لا فضلَ لجنس العرب على جنس العجم، وهؤلاء يسمَّون الشعوبية؛ لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل.
وبعض العلماء عرَّف الشعوبية بكونهم يُبغضون العرب أو يُفضِّلون العجم على العرب.
قال عبدالقاهر البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق" (ص: 285): "الشعوبية الذين يَرَون تفضيل العجم على العرب، ويتمنَّون عود المُلك إلى العجم".
وقال القرطبي في "تفسيره" (11/ 189): "الشعوبية تُبغض العرب وتُفضِّل العجم".
وقال الفيومي في "المصباح المنير" (1/ 314): "الشعوبية بالضم فرقةٌ تُفضل العجم على العرب".
وفي "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (10/ 123): "الشعوب في غير العرب لا أنسابَ لهم، ومِنَ الناس مَن فضَّلهم على العرب، وهو مذهب الشعوبية، وهو غلط، العرب أفضل، إلا أن الفضل الحقيقي بالتقوى".
يتبين مما سبق أن الشعوبية هم الذين يحقرون شأن العرب، ولا يَرَون لهم فضلًا على العجم، وبعضهم غلا ففضَّل العجم على العرب، وأبغض العرب، مع أن الله سبحانه جعل خاتم الرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم من العرب، وجعل القرآن العظيم، وهو خير الكتب بلغة العرب، فكل مسلم وإن كان عجميًّا يحب العرب، ويحب لغة العرب، وعدم الاعتراف بفضل العرب على العجم من حيث الجملة قولٌ مبتدع عند أهل العلم، مخالف لِما هو معلوم ومقرر عند أهل السنة والجماعة.
قال ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" (1/ 419، 420): "الذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، وأن قريشًا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفسًا، وأفضلهم نسبًا، وليس فضل العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم، لمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفسًا ونسبًا، وإلا لزم الدور؛ ولهذا ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني، صاحب الإمام أحمد، في وصفه للسنة التي قال فيها: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها، المقتدَى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق، والحجاز والشام وغيرهم عليها، وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم وعبدالله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا عنهم العلم، وكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية، وساق كلامًا طويلًا... إلى أن قال: ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم".
وقال ابن تيمية أيضًا كما في "مجموع الفتاوى" (19/ 29، 30): "قد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله اصطفى كِنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيركم نفسًا، وخيركم نسبًا»، وجمهور العلماء على أن جنس العرب خيرٌ من غيرهم، كما أن جنس قريش خير من غيرهم، وجنس بني هاشم خير من غيرهم، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقِهوا» لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد، فإن في غير العرب خلقًا كثيرًا خيرٌ من أكثر العرب، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش، وفي غير بني هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بني هاشم".
وقال ابن تيمية أيضًا في "منهاج السنة النبوية" (4/ 600): "ذهبت طائفة إلى عدم التفضيل بين هذه الأجناس، وهذا قول طائفة من أهل الكلام؛ كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره، وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد، وهذا القول يُقال له: مذهب الشعوبية، وهو قول ضعيف من أقوال أهل البدع، كما بسط في موضعه، وبيَّنا أن تفضيل الجملة على الجملة لا يقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد، كما أن تفضيل القرن الأول على الثاني والثاني على الثالث لا يقتضي ذلك، بل في القرن الثالث من هو خير من كثير من القرن الثاني، وإنما تنازع العلماء: هل في غير الصحابة من هو خير من بعضهم؟ على قولين، ولا ريب أنه قد ثبت اختصاص قريش بحكم شرعي، وهو كون الإمامة فيهم دون غيرهم، وثبت اختصاص بني هاشم بتحريم الصدقة عليهم، وكذلك استحقاقهم من الفيء عند أكثر العلماء، وبنو المطلب معهم في ذلك، فالصلاة عليهم من هذا الباب، فهم مخصوصون بأحكام لهم وعليهم، وهذه الأحكام تثبت للواحد منهم، وإن لم يكن رجلًا صالحًا، بل كان عاصيًا، وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة، ومدح الله عز وجل للشخص المعين، وكرامته عند الله تعالى - فهذا لا يؤثر فيه النسب، وإنما يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح، وهو التقوى؛ كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]"؛ [انتهى كلام ابن تيمية].
وبهذا يتبين أن التفضيل من حيث الجملة لا يلزم منه تفضيل الأفراد؛ فمثلًا: أحاديث فضائل أهل اليمن كحديث: ((اﻹيمان يمان، والحكمة يمانية))، وحديث: ((أتاكم أهل اليمن هم خير أهل الأرض))، هي من باب التفضيل بالمجموع وليس باﻷفراد، فليس كل يمنيٍّ له هذا الفضل.
وهكذا التفضيل للرجال على النساء هو من باب التفضيل للمجموع، وليس لكل فرد من الرجال، فمن النساء من هي أفضل من مائة رجل بالتقوى والعمل الصالح.
وهكذا تفضيل بني إسرائيل على عالمي زمانهم؛ كما قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 122]، هو من حيث الجملة.
وقد جمعت آية واحدة التفضيل للجنس، وبيان أنه لا يلزم منه تفضيل كل الأفراد؛ فقال سبحانه عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113]، ففي أول الآية بيان تفضيل الله سبحانه لجنس ذرية إبراهيم وإسحاق، وأن الله بارك فيها، وفي آخر الآية بيان أن من ذريتهما محسن وظالم.
وهكذا كل تفضيل من حيث الجنس لا يلزم منه تفضيل الأفراد، وهذا واضح جدًّا.
وتأمل قول الله سبحانه: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، فالتفضيل يشمل التفضيل في الذكورة والرزق، والنسب والجمال، ونحو ذلك، والموفق يسأل الله الوهاب المنان من فضله العظيم.
ولا شك أنه لا فضلَ لعربيٍّ على عجمي إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس أتقاهم، وأنه لا يصح الافتخار بالنسب، وأن الفخر بالأنساب من الجاهلية، وأن من بطَّأ به عمله، لم يُسرع به نسبه؛ كما جاء كل ذلك في النصوص الثابتة المعروفة، فلنحرص جميعًا على تحقيق الإيمان والتقوى، والعمل الصالح الذي ينفعنا في الدنيا والآخرة.
_____________________________________
المؤلف: محمد بن علي بن جميل المطري
- التصنيف:
- المصدر: