ثروة المعلومات وفقر الاهتمام

منذ 2021-01-14

الأخبار الكاذبة التي يتم تناقلها عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل ومواقع الإنترنت، وهي أصبحت صناعة ضخمة تقف خلفها دول ومؤسسات وأجهزة استخبارات وشركات عالمية، ولا شك أنها تلعب دوراً كبيراً في التشويش على الحقيقة وإخفائها وطمسها أحياناً

ثروة المعلومات وفقر الاهتمام

كثيرة هي الإحصاءات التي تقيس حجم المعلومات والبيـانات المتداوَلة عبر الإنترنت أو وسائط التخزين الرقمية بصفة عامة.

هذه الإحصاءات لا تكشف فقط عن الحجم الهائل للمعلومات المتداوَلة، وإنما تبيِّن أيضاً القفزات الهائلة في حجم هذه المعلومات عبر الزمن، للدرجة التي تدفع العلماء إلى استحداث وحدات قياس جديدة كلَّ بضع سنين لمواكبة هذا التطور.

لك أن تتخيـل أن حجـم المعلومات التي أنتجها البشر في عامي 2003 و 2004م فقط، يوازي كل ما أنتجته البشرية من معلومات منذ بداية التاريخ حتى عام 2001م.

لكن هذه الثورة المعلوماتية الهائلة أنتجت فراغاً هائلاً في قدرات تحليل المعلومات من أجل الاستفادة منها، ليس على مستوى الأفراد فقط، بل حتى على مستوى الدول والمؤسسات الضخمة توجد تعقيدات كثيرة في ما يتعلق بالتعامل مع الأحجام الهائلة من المعلومات.

على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإن إنتاج المعلومات لم يعد مقتصراً فقط على وسائل الإعلام ومراكز الدراسات والأبحاث؛ إذ تحوَّل ملايين من البشر إلى منتجين للمعلومات التي تنشر على مدار الساعة عبر مواقع التواصل.

كان يُفترَض مع هذا التطور المعلوماتي الهائل أن يحدثَ تطورٌ مماثلٌ على صعيد الوعي والإدراك؛ فهل حدث ذلك بالفعل؟ للأسف لا يوجد تناسب بين حجم المعلومات المتداوَلة، وبين مستوى الوعي والإدراك لدى أغلب جمهور المتلقين!

بل إن هـذا التدفق المعلـوماتي الهـائل أفرز ظـواهر سلبية مضادة دفعت كثيراً من الخبراء ومراكز الأبحاث المعنية إلى دراستها وتحليلها.

من هذه الظواهر: ما أطلق عليه بعض المتخصصين (التسطيح غير القابل للعلاج): ويقصد به أن التفاوت الكبير بين حجم ما يتلقاه الإنسان يومياً من معلومات، وبين قدرته على الاستيعاب والتحليل، يدفعه إلى فهم الأحداث والظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية بطريقة مبسَّطة خالية من العمق والتدقيق؛ وهو ما يُراكِم مع الزمن فئات من الناس غير قادرة على التعمق في الأمور وفهم خفاياها.

ومنها: التناقضات الكثيرة في المواقف والقناعات التي تحدث أحياناً في فترة زمنية قصيرة، بحيث إن شخصاً مَّا يتبنى رأياً ونقيضه في مدة محدودة، وذلك بسبب تطور أساليب العرض والتأثير.

ومنها: أن هذه (الثروة) المعلوماتية الهائلة، بدلاً من أن تنتجَ إقبالاً واهتماماً من الجمهور، فإنها تؤدي إلى عزوف جماعي وتراجع في مستويات الاهتمام بالأحداث والظواهر المهمة، للدرجة التي تجعل كثيراً من الناس يفقدون القدرة على التمييز بين الأحداث والتطورات الخطيرة والمهمة، وبين غيرها من توافه الأمور.

يمكن استعراض خلاصة ما توصل إليه الخبراء في تفسير هذه الظواهر السلبية، في الأفكار التالية:

طريقة تغطية وسائل الإعلام (ومنصات الأخبار بصفة عامة) للأحداث تلعب دوراً كبيراً في تشويش وعي جمهور المتلقين؛ فمن المسلَّم به أن لكل جهة إعلامية أجندة خاصة بها، وبحسب بعض النظريات فإن أي وسيلة إعلامية يمكنها أن تفرض أجندتها على الجمهور خلال أشهر قليلة باتباع أساليب معينة للتأثير.

لذا نجد طوفاناً من الأخبار عديمة القيمة، أو التافهة، التي تتدفق على المتلقي للتشويش عليه وإرباك وعيه وتحويله إلى آلة غير قادرة على التفكير أو النقد.

أغلب الناس يميلون إلى تجنُّب المعلومات التي تسبب تصادماً مع قناعاتهم ومقرراتهم السابقة، في مختلف القضايا والمجالات؛ بحيث إننا نجد كثيرين يعيشون في عوالم موازية متوهَّمة تبعد عن الحقيقة أو تقترب منها، بحسب ما يتلقونه من معلومات وبحسب مستوى تصادمها مع قناعاتهم.

في هذه الحالة المربكة، يحدث ما يطلق عليه العلماء (التأثير الانتقائي)، وهو يحدث على ثلاثة مستويات: (التعرض - الإدراك - التصرف).

التعرض الانتقائي: بمعنى أن الإنسان يتجنب تلقائياً التعرض إلى المنصات أو المعلومات التي تتصادم مع قناعاته، ويبحث عن تلك المتوافقة معها.

الإدراك الانتقائي: بمعنى أن المتلقي إذا تعرض لسبب ما إلى وسلة إعلامية تقدِّم له معلومات تتعارض مع قناعاته، فإنه يسعى لتفسيرها بطريقة تزيل التعارض أو تقلِّصه، وهنا يحدث فهمٌ خاطئ.

التصرف الانتقائي: في حال حدث التعرض للمعلومات الصادمة، مع العجز عن تأويلها، فإن المتلقي يتصرف بطريقة تتناقض مع ما تلزمه به هذه المعلومات

الأخبار الكاذبة: التي يتم تناقلها عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل ومواقع الإنترنت، وهي أصبحت صناعة ضخمة تقف خلفها دول ومؤسسات وأجهزة استخبارات وشركات عالمية، ولا شك أنها تلعب دوراً كبيراً في التشويش على الحقيقة وإخفائها وطمسها أحياناً، خاصة مع ميل كثير من الناس إلى تداول هذه الأخبار لغرابتها أو طرافتها.

ختاماً: فإن المراكز البحثية الجادة تتحمل عبئاً كبيراً في مواجهة هذه الظاهرة السلبية (وهي تراجُع اهتمام الناس بالأحداث المهمة في مقابل التضخم المعلوماتي الهائل)؛ وذلك بمعالجة مشكلة وفرة المعلومات عن طريق بيان القواعد والاتجاهات العامة والمسارات المتوقعة للأحداث والظواهر السياسية بما يغني عن المتابعة التفصيلية المرهقة والمملة.

بالإضافة إلى السعي لإنشاء منصات ذات مصداقية تنقل للناس الحقيقة كما هي وليس صورة متوَهَّمة أو محرَّفة عن الحقيقة؛ فعلى الرغم من التكدس الرهيب لمواقع ومنصات الأخبار، إلا أن النموذج الذي يحافظ على مصداقيته يكتسب زخماً كبيراً مع الوقت.

_________________________________
بقلم/ أحمد فهمي

 

  • 1
  • 0
  • 1,219

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً