وقفات مع ارتفاع الدولار وغلاء الأسعار
بعض التجار اليوم وأصحاب المحلات عندما يرتفع سعر الدولار يفرحون، ويرفعون الأسعار، فبدلًا من أن يقفوا وقفة رحمة وشقفة على الناس، راحـوا يرفعون الأسعار؛ ليربحوا أضعافًا على حساب الفقراء والمساكين.
أيها المسلم، إن قضية صعود الدولار وغلاء الأسعار، هي قضية اشتعلت بها مجالس الناس في هذه الأيام، فلا تكاد تدخل على مجلس من مجالس الناس اليوم إلا رأيتَ حديثهم عن هذه القضية، هذه القضية سيطرت على عقولهم، واستحوذت على اهتمامهم، وملأت نفوسهم همًّا وغمًّا، لذلك رأيتُ لزامًا عليَّ اليوم أن أقف مع هذه القضية وقفات مهمة ينبغي لكل مسلم أن ينتبه إليها.
الوقفة الأولى: ما نزل بلاء إلا بذنب ولن يرفع إلا بتوبة:
لا بد على كل واحد منا أن يكون على يقين أن قضية صعود الدولار وارتفاع الأسعار، ما هي إلا صورة من صور البلاء والمصيبة على الناس في أموالهم ومعيشتهم، وهذا ما أخبرنا به ربنا جل جلاله في كتابه العزيز، فقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]؛ يعني ما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم، فإنما يصيبكم ذلك عقوبةً من الله لكم بما اكتسبتموه من ذنوب، وما اقترفتموه من خطايا، ثم يختم الآية فيقول: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، ما معنى ويعفو عن كثير؟ يعني ربنا جل جلاله عفا عن كثير من ذنوبنا وإجرامنا، فلم يعاقبنا عليها، وإنما هذه المصائب والابتلاءات بسبب القليل منها، فإذا كانت هذه المصائب بسبب القليل من ذنوبنا، فكيف سيكون حالنا لو عاقبنا الله على جميع ذنوبنا ومعاصينا؟[1].
فالذنوب والمعاصي هي سبب المصائب والابتلاءات التي نزلت بنا اليوم.
انظروا إلى مجتمعنا اليوم، أليس فينا من لا يصلي صلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس؟ أليس فينا من لا يصلي الصلوات الخمس؟ أليس فينا من لا يعرف طريق المسجد إلا في الجمعة والمناسبات وشهود الجنائز؟ أليس فينا عاق لوالديه وقاطع لرحمه؟ أليس فينا من يتعامل بالربا ويأكل حقوق الناس بالباطل ويؤذي جاره؟ أليس هناك من يسهر حتى الفجر على معصية الله؟ أليس فينا مانع للزكاة ومضيع للأمانات؟ أليس في المجتمع من يشرب الخمور ويتناول المخدرات؟ أليس قد انتشرت في مجتمعنا الموسيقا والمعازف والأغاني المحرمة؟ أليس في المجتمع رجل تخرج نساؤه متبرجات كاسيات عاريات مميلات مائلات ولا يحرك ساكنًا، بل ربما يفتخر بذلك؟
فالذنوب والمعاصي هي سبب صعود الدولار وارتفاع الأسعار اليوم.
في ستينيات القرن الماضي حدث في الهند غلاء شديدة في الأسعار، وكان في الهند الشيخ العلامة الداعية (محمد يوسف الكاندهلوي)، من علماء الدعوة والتبليغ فى الهند، وصاحب كتاب (حياة الصحابة) المشهور، وكان هذا الشيخ (رحمه الله) مشهورًا بزهده وورعه وصلاحه، فذهب الناس إليه واشتكوا ارتفاع الأسعار والغلاء الفاحش، فقال لهم: الناس والأشياء عند الله مثل كفتي الميزان، فإذا ارتفعت قيمة الإنسان عند الله بالإيمان والأعمال الصالحة، قلَّت قيمة الأشياء، وإذا قلت قيمة الإنسان عند الله بسبب الذنوب والمعاصي، ارتفعت قيمة الأشياء، وزادت الأسعار وعم الغلاء، فعليكم بجهد الإيمان الأعمال الصالحة، حتى ترتفع قيمتكم عند الله، وتقل الأسعار، والله سبحانه وتعالىبيَّن ذلك فقال: ﴿ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ﴾ [الأعراف: 96]، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» [2].
فذنوبنا هي التي جلبت لنا هذه المصائب، ما نزل بلاء إلا بذنب ولن يرفع إلا بتوبة، فارتفاع الأسعار ورُخصها بيد الله تعالى، فمن صفاته جل وعلا أنه يبسط ويقبض، ويرفع ويخفض، ومن ذلك أنه يبسط الأرزاق ويُكثرها، فترخص أسعارها، ويقبض الأرزاق ويقللها، فترتفع أسعارها، فإذا كانت الأسعار بيد الله سبحانه، هو المتصرف فيها كما يشاء، فعلى العباد أن يعلِّقوا قلوبهم بالله ويتوبوا إلى الله تعالى فهو القائل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف: 96]، هذا واحد من السلف الصالح (رحمهم الله) قيل له: غلت اﻷسعار قال: أخفِضوها بالاستغفار.
فعلينا أن نكثر من الاستغفار حتى يرفع الله عنا هذا البلاء والغلاء الذي حلَّ بنا؛ قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10، 12].
فكونوا على يقين أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولن يرفع إلا بتوبة صادقة إلى الله تعالى.
الوقفة الثانية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]:
على المسلم أن يكون على ثقة بأن الله تعالى تكفَّل برزقه، وأن رزقه لن يفوته، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن يجعل قول الله تعالى نُصب عينيه:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22، 23].
أعرابي كان يطوف حول الكعبة، فعندما سمع هذه الآية صاح، وقال: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ، مَنِ الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى حَلَفَ، أَلَمْ يُصَدِّقُوهُ فِي قَوْلِهِ، حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى الْيَمِينِ؟ فقالها ثلاثًا وخرجت بها نفسه[3].
وهذا إبراهيم بن أدهم (رحمه الله) قيل له: غَلَت الأسعار، فقال لهم: والله ما يهمني لو كانت حبة القمح بدينار، عليَّ أن أعبده كما أمر، وعليه أن يرزقني كما وعدني؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58].
فإذا كان المسلم عنده هذه الضمانات من ربه، فمم يخاف وهو يعلم أن الله رازق الطير في أوكارها، والسباع في فلواتها، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور؛ لذلك يقول أمامنا الشافعي (رحمه الله):
عَليكَ بِتقوى اللهِ إن كُنتَ غافِلًا *** يأتيـكَ بالأرزاقِ مِـن حَيثُ لا تَدري
فَكيفَ تَخافُ الفَقرَ والله رازقًــا *** فَقَدْ رَزَقَ الطَّيرَ والحوتَ في البَحر
وـمَن ظَـنَّ أن الرِّزقَ يـأتي بِقوةٍ *** لمـا أكـلَ العُصفـورُ شيئـا مـع النَّسر
وهذا سيدنا سلمة بن دينار (رحمه الله) اجتمع الناس إليه يسألونه، فقالوا له: يَا أَبَا حَازِمٍ، أَمَا تَرَى قَدْ غَلَا السِّعْرُ، فَقَالَ: (وَمَا يَغُمُّكُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ إِنَّ الَّذِي يَرْزُقُنَا فِي الرُّخْصِ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُنَا فِي الْغَلَاءِ) [4].
ليكن عندنا إيمان كإيمان تلك المرأة التي خرج زوجها للجهاد في سبيل الله تعالى، فجاءها المثبطون يثيرون مخاوفها على رزقها ورزق عيالها إذا ذهب زوجها إلى الجهاد، فربما يموت وعندك أطفال صغار فمن يعيلهم، ومن يطعهم إذا مات، فتجيبهم بكل ثقة واطمئنان ويقين: زوجي عرفته أكالًا ولم أعرفه رزَّاقًا، فإن ذهب الأكَّال فقد بقي الرزاق!
إنها الثقة بالله، إنها الثقة بالرزاق ذو القوة المتين، إنها قوة الإيمان وقوة التوكل على الله، فأين نحن من هذا الايمان وهذه الثقة؟!
فالرزاق حي لا يموت، أنت فقط اخرُج إلى عملك، واسعَ في هذه الأرض، واترُك الباقي على الله تعالى، فهو الذي تكفَّل برزقك، وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].
أسال الله تعالى أن يوسع الأرزاق على الإنسانية كلها في مشارق الأرض ومغاربها، يرحم ضعف الفقراء والمساكين، ويبارك لهم في أرزاقهم، أقول قولي هذا.
دور التاجر المسلم في زمن ارتفاع الأسعار:
كان سيدنا السري السقطي وهو خال سيدنا الجنيد البغدادي (رحمهما الله تعالى)، كان تاجر لوز يشتري الطن الواحد بستين دينارًا، ويبيعه بثلاثة وستين دينارًا، يأخذ عليه أرباحًا ثلاثة دنانير، هذا هو دأبه، فجاءه الدلال يومًا ليشتري كعادته، فقال الدلال لسيدنا السري بكم اللوز؟ فقال له السري: بثلاثة وستين دينارًا، فقال الدلال: لقد ارتفع سعر طُن اللوز حيث يُباع الآن بتسعين دينارًا، وأعطيك (ثلاثة دنانير أرباحًا).
فقال سيدنا السري (رحمه الله): كيف أبيع بثلاثة وتسعين، وأنا اشتريته بستين دينارًا ؟! فقال له الدلال: وكيف أشتري أنا بثلاثة وستين دينارًا، واللوز الآن بتسعين دينارًا، واستمر النقاش والجدال، فلا الدلال اشترى، ولا سيدنا السري باع[5].
لا إله إلا الله، والله عندما نقرأ ونسمع مثل هكذا مواقف، ونقارنها بما نراه في واقع الناس اليوم نتساءل:
ما للمنازل أصبحت لا أهلها *** أهلي ولا جيرانها جيراني
أين هذا التعامل في دين اليوم؟ أين القناعة في البيع والشراء؟ أين الشعور بالرحمة والشفقة بالفقراء والمساكين؟ أين التاجر الذي يتمنى الخير للمسلمين؟ أين أصحاب المحلات الذين كانوا يحذرون أن يزداد ربحهم على حساب معاناة الآخرين؟ أين أصحاب المحلات الذين كان شعارهم الرفق بالمسلمين؟
بعض التجار اليوم وأصحاب المحلات عندما يرتفع سعر الدولار يفرحون، ويرفعون الأسعار، فبدلًا من أن يقفوا وقفة رحمة وشقفة على الناس، راحوا يرفعون الأسعار؛ ليربحوا أضعافًا على حساب الفقراء والمساكين.
هذا نبيكم (صلى الله عليه وسلم) خرج في ذات يوم إلى الْمُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ»، فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلاَّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ، وَبَرَّ، وَصَدَقَ» [6].
والله هناك من التجار ومن أصحاب المحلات مَن رفضوا أن يرفعوا أسعار بضائعهم وباعوها بسعرها قبل صعود الدولار، وهناك من يعرض بضاعتين بنفس المواصفات، ولكنه يبع القديم بسعر أقل من السعر الجديد، فيقول لك: هذه البضاعة عندي قبل صعود الدولار، أبيعها بسعرها القديم، والجديدة أبيعها بسعرها الجديد، فهؤلاء لا يستغلُّون مثل هذه الفرص؛ لكي يرفعوا الأسعار، ويحتكروا الأطعمة؛ ليبيعوا على الناس بالغلاء، بل ترجموا قول رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» [7].
فعلينا جميعًا أن نتعاون على البر والتقوى، وفي الأزمات يرحم بعضنا بعضًا، ويرفق بعضنا ببعض، ويساعد الغني الفقير، عسى الله أن يرفع عنا هذا الغلاء، وتذكَّروا قول نبيكم (صلى الله عليه وسلم): «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» [8].
اللهم رخِّص أسعارنا، ووسِّع أرزاقنا، وبارك لنا فيها، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
[1] ينظر: جامع البيان للطبري، (21/ 538).
[2] سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، بَابُ الْعُقُوبَاتِ: (2/ 1334)، برقم (4022)، قال البوصيري في الزوائد إسناده حسن، مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (4/ 187).
[3] ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: (17/ 42).
[4] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ لأبي نعيم الأصبهاني: (3/ 239).
[5] ينظر: إحياء علوم الدين للغزالي: (2/ 80).
[6] سنن الترمذي، (2/ 506)، برقم (1210)، قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[7] صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع: (3/ 75)، برقم (2076).
[8] سنن الترمذي، أَبْوَابُ البِرِّ وَالصِّلَة، بَابُ مَا جَاءَ فِي رَحْمَةِ الْمُسْلِمِينَ، (3/ 388)، برقم (1924)، قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
____________________________________________
د. محمد جمعة الحلبوسي
- التصنيف:
- المصدر: