آخر جمعة من رمضان

منذ 2021-05-07

ها هو شهرُ التقوى قد آذنَ بالرحيل، ولم يبق منه إلا القليل .. فهنيئًا لمن عَمرهُ بذكر اللهِ تعالى وأكثر من صالح الأعمال .. وهكذا هي الدنيا .. وهكذا هو عُمرُ الانسان .. ينقضي ويمضي كما انقضى رمضان

معاشر المؤمنين الكرام:

في تشريعاتُ الإسلام أسرارٌ عجيبةٌ لا تنتهي .. ومواعظُ بليغةٌ لكل من يتأملُ أو يُنصِتُ ويُصغي .. من ذلك مواعظُ رمضانُ .. فرمضان مدرسةٌ مليئةٌ بالعبرَ والعظات، والدروس النيرات .. حريٌّ بالمسلم الصادق أن لا يمرَّ به هذا الشهر المبارك، دون استلهامٍ لدروسه البليغة، وأن يستفيد بأكبر قدرٍ من عبرهِ ومواعظه .. وأن لا يخرج المسلمُ منهُ إلا وقد صلُحت أوضاعه، وتحسنت أحوالهُ، وتداركَ ما فاتهُ ..

 

ها هو شهرُ التقوى قد آذنَ بالرحيل، ولم يبق منه إلا القليل .. فهنيئًا لمن عَمرهُ بذكر اللهِ تعالى وأكثر من صالح الأعمال .. وهكذا هي الدنيا .. وهكذا هو عُمرُ الانسان .. ينقضي ويمضي كما انقضى رمضان .. فبالأمس القريب كنا نستقبلُ شهرنا بالبشر والترحاب، وها نحن الآنَ نتهيأ لوداعه وفراقه، وهكذا هو حالُ الانسان .. يُولدُ ويبدأ كما يبدأ الهلالُ، صغيرًا ضعيفًا .. ثم يكبرُ ويقوى شيئًا فشيئًا، حتى يُصبحَ بدرًا مُكتملًا، ونورًا قويًا مُشعًا .. ثم يرجعُ شيئًا فشيئًا إلى الضعف والوهن، ثم يختفي كليًا .. وكم من الشهور مضت، وكم من الأعمار انقضت .. وكلها بداياتٌ ونهايات .. وهكذا هي الدنيا بكلِّ ما فيها .. لها بدايةٌ أذنَ اللهُ تعالى بها، ولها نهايةٌ قدَّرها الله جلَّ وعلا: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 42 – 45].

 

ودرسُ النهاية الذي ينبغي أن ننتبهُ لهُ جيدًا .. هو أنَّ العبرةَ ليست في ذهاب الزمن، وتوالي البدايات والنهايات .. وإنما العبرةُ في استثمارِ هذا الزمنِ وحُسنِ استغلالِه.

  {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37].

 

{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 23 – 24].

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

 

نعم معاشر الصائمين الكرام:

عُمرُ الإنسان لا قيمةَ لهُ إلا بما أودعهُ من أعمالٍ صالحة؛ {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8].

 {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103].

 

وفي الحديث الصحيح: "خيرُ الناسِ من طالَ عُمرهُ وحسُن عملهُ، وشرُّ الناسِ من طالَ عُمرهُ وساءَ عملهُ".

 

ورمضانُ زمانٌ كغيره من الأزمنة، وإنما كانَ خيرَ الشهورِ وأفضلها، لكثرة ما يقعُ فيهِ من الأعمالِ الصالحة، والأمور المباركة ..

 

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].

 

والدنيا وعُمر الإنسانِ مثلُ رمضان، سُرعانَ ما يمضيان، بكلِّ ما فيها من خيرٍ وشر .. وحلوٍ ومُر .. ونكدٍ وسرورٍ وأحزان .. وسُرعان ما ينسى الإنسان كُل ما مرَّ عليه فيها من نعيمٍ وشقاء .. وراحةٍ وعناء .. وها نحن يا عباد الله في أواخر شهرنا الميمون .. فسلوا من جدَّوا فيه واجتهدوا، وجاهدوا أنفسهُم على الطاعات واصطبروا .. فأضنوا أجسادَهم وأسهروا ليلهم وقاموا وتهجدوا .. يتلمسون رضا ربِهم ويتقربوا .. فسئلوهم الآن عن قيامِهم وعن نصَبهم، وعن تعبِهم وعن سهرهم، ستجدون أنهم قد نسوا ذلك كُلهُ ولا يذكرونه، ولكنهُ بفضل اللهِ محفوظٌ في صحائف أعمالهم .. وأنهم صاموا فصانوا صِيامهم، وقاموا فأحسنوا قيامهم، وعمِلوا أعمالًا صالحةً كثيرةً امتلأت بها صحائِفُهم، ولسوف يجدون كُلَّ ذلك أحوجَ ما يكونون إليه، عندما يقفون بين يدي خالقهم، نسألُ اللهُ الكريمَ من فضله ورحمته ... وفي المقابل سلوا الذين قضوا رمضانَ في النوم والغفلة والبطالة، ورفَّهوا عن أنفسهم بالمتع والملذات، وتفكهوا بما يُعرضُ لهم في الفضائيات وعلى الشاشات، وإنْ صلى أحدهم صلى ثقيلًا، وإن قرأ القرآنَ ملّهُ سريعًا، وأنَّ الرفاهيةَ والمتعةِ، قد أخذت منهم أكثر أوقاتهم، وجُلَّ طاقاتهم، فسلوهم الآن عن أنواع الرفاهية التي ترفهوها، وعن المتع التي تمتعوها .. فإنكم لن تجدوا عندهم منها سوى الضيقِ والضنك .. وشتانَ والله يا عباد الله: بين عملٍ تذهبُ لذاتهُ وتبقى تبِعاتهُ وحسراته، وبين عملٍ تذهبُ مؤنتهُ وتبقى مثوبتهُ وكرامته .. {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207].

 

وهكذا يا عباد الله فالعمرُ والدنيا كرمضان .. تمضي وتنقضي بحلوها ومرها، بنكدها وسرورها، وينسى الفريقانِ كُلَّ ما أصابهم من رخاءٍ أو عناء، أو ضراءٍ أو سراء .. ويبقى المحسنُ مُحسنًا، يجني في الآخرة ثمرةَ إحسانه، ويبقى المسيءُ مُسيئًا، يجدُ في يوم القيامةِ مغبةَ إساءته، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].

 

في صحيح مُسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأنعم أهلِ الدنيا من أهل النارِ يومَ القيامةِ، فيصبغُ في النار صبغةً، ثمَّ يقال: يا ابن آدم هل رأيتَ خيرًا قطُّ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قطُّ؟ فيقول: لا والله يا ربِّ، ويُؤتى بأشدِّ الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنَّةِ فيصبغُ صبغةً في الجنَّة، فيقالُ له: يا ابن آدم هل رأيتَ بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك شِدةٌ قطُّ؟ فيقول: لا والله يا ربِّ ما مرَّ بي بؤسٌ قطُّ، ولا رأيت شِدةً قطُّ" ... لا إله إلا الله، كم هو درسٌ عظيمٌ، وموعِظةٌ بليغة .. نسيَ المحسنُ كلَّ ما كابدهُ من تعبٍ وعناءٍ بغمسةٍ واحدةٍ في الجنَّة، ونسيَ المسيءُ كُلَّ ما استمتع به من رفاهيةٍ ورخاءٍ بغمسةٍ واحدةٍ في النار .. وتأملوا يا عباد الله ما يقولهُ المحسنون يوم القيامة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34، 35]، وفي الآية الأخرى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74].

 

وفي المقابل فإن الآيات التي تتحدث عن حال المسيئين كثيرةٌ وأليمة: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}  [الأعام: 31].

 

 {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 44].

 {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12].

 

فمن أحسن فيما مضى من رمضان فليحمد الله تعالى، وليستمر على العمل الصالح بعد رمضان، حتى لا يخسر ما ربحه، فيكونُ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا.

 

وليعلم أن انتهاء العمر سيكون سريعًا كانتهاء رمضان، فالله الله فيما بقي من عمره ... ومن أساء في رمضان، وفاته الخير والإحسان، فليبادر بتوبةٍ صادقةٍ يختم بها شهرهُ، وليستغفر كثيرًا لما مضى من تقصيره، وليأخذ من سرعة دخول الشهر وخروجه عبرةً وعظه، وأن زوال الدنيا سريع، وأن الرحيل منها قريب، وأن له فرصةً فيما بقي من عمره تعويضًا عما فاته من الخيرات، وليحذر من تضييع بقيةِ عُمره كما ضيَّعَ رمضان، فتكونَ عاقبتهُ الندمُ والحسَّرةُ والخُسران.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 – 20].

 

معاشر المؤمنين الكرام:

شرع اللهُ تعالى لكم في ختام شهركم أعمالًا صالحةً تزكي نفوسكم، وتُتمِّمُ طاعتِكم، وتجبرُ نقصَ صِيامِكم، من ذلكم: زكاةُ الفِطرِ التي فرضها الله تعالى طُهرةً للصائمين، وطُعمةً للمساكين، وأوجبها على القادرين من المسلمين.

 

يُخرجها الرجلُ عن نفسهِ وعمن تلزمهُ نفقتهُ من زوجٍ وأهلٍ وولدٍ ونحوهم، ويستحبُ اخراجها عن الجنين، والأفضلُ للمُكتسِب القادر أن يُخرجها عن نفسه .. ولا ينبغي إخراجُها نُقودًا، وإنما يُخرجها طعامًا كما في الحديث المتفق عليه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " فرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على العبد، والحر، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير، من المسلمين، وأمر بها أن تُؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة".

 

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتفق عليه، مزيدٌ من أصنافِ الطعام المنصوصِ عليها، قال رضي الله عنه: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعيرٍ أو صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط أو صاعًا من زبيب).. وينبغي أن يتعاهدَ بها الفقراءَ والمحتاجين فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم".

 

والأفضل أن يخرجها المسلم قبيل صلاة العيد، ولا حرجَ أن يُخرجها قبل العيد بيومٍ أو يومين .. ولا يجوزُ تأخيرها عن صلاة العيد .. ففي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: "من أداها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومن أداها بعد الصلاةِ فهي صدقةٌ من الصدقات".

 

ومما شُرع لكم في ختام شهركم شعيرةُ التكبيرِ .. شُكرًا لله على ما هداكم للإيمان، وعلى ما وفقكم للصيام والقيام والتمام .. قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}  [البقرة: 185]، ويبدأ التكبيرُ من دخول ليلة العيدِ وحتى صلاة العيد.. والمنقولُ عن أكثرِ الصحابة رضي الله عنهم في صفة التكبيرِ قولهم: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.

 

ألا فاتقوا الله عباد الله وجدوا واجتهدوا، واختموا شهركم بصالح أعمالكم، ومَن كَانَ مُحسِنًا فليزداد، وَمَن كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلْيُبادر بالأَوبَةَ والتعويض؛ فإِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ، وَالتَّوبَةُ تَجُبُّ مَا قَبلَهَا، وأكثروا من الاستغفار في ختام شهركم، فإنما تختم الأعمال الصالحة بالاستغفار.

 

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..

 

  • 10
  • 0
  • 3,402

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً