رحماء بينهم

منذ 2021-05-10

حينما أثبت القرآن الكريم رسالة محمد ﷺ  في قوله تعالى من سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ...} سرد شيئاً من دلائل الرسالية لنبينا ﷺ، لقد كانت هذه الدلائل أوصافاً عجيبة لأصحاب النبي ﷺ؛ أيْ إنَّ هذا الرسول الذي اختاره الله لرسالته من شأنه أن يكون أصحابه كذا وكذا.

رحماء بينهم

حينما أثبت القرآن الكريم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم  في قوله تعالى من سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ...} سرد شيئاً من دلائل الرسالية لنبينا صلى الله عليه وسلم، لقد كانت هذه الدلائل أوصافاً عجيبة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أيْ إنَّ هذا الرسول الذي اختاره الله لرسالته من شأنه أن يكون أصحابه كذا وكذا.

ولم يكتفِ القرآن الكريم بسرد هذه الصفات، بل أخبر أنها هي هكذا في الكتب التي أنزلها الله على نبييه موسى وعيسى عليهما السلام.

قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].

وهذه الأوصاف جاءت في ختام سورة الفتح، السورة التي تحدثت - فيما تحدثت عنه - عن فريقين من المؤمنين تباينت علاقتهم بالكيان المؤمن وبرسول الله صلى الله عليه وسلم . فريق الصحابة الذين لزموا رسول الله صلى الله عليه وسلم  ومدينته؛ من المهاجرين والأنصار، الذين قال الله تعالى عنهم: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} قال ابن عاشور رحمه الله: «ومعنى (معه): المصاحبة الكاملة بالطاعة والتأييد»[1]. وفريق الأعراب وهم الذين أعلنوا إسلامهم لكنهم لم يهاجروا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم  وفضلوا البقاء في ديارهم، سواء كانت قريبة من المدينة أم بعيدة عنها. وتبع ذلك التفريق تفريقٌ في الحقوق والواجبات. ولهذا خص ابن عباس أهل الحديبية بهذا الوصف لأن سورة الفتح نزلت فيهم، وقد تخلَّف الأعراب عن الحديبية، فقال رضي الله عنه: «أهل الحديبية أشداء على الكفار؛ أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته»[2]. ويظهر لي أنَّ هذا التخصيص لا يُقصد به الحصر، وإنما يعني أنهم أحرى المؤمنين بهذا الوصف.

الذين مع رسول الله - هكذا سماهم الله تعالى - لهم من الأوصاف أشرفها وأعلاها وأرقاها. من هذه الأوصاف ما يفسر طبيعة العلاقات المشكَّلة لديهم، ومنها ما يفسر حبهم ورغبتهم في الصلاة والتعبُّد، ومنها ما يفسر طبيعة الحركة الدعوية التي لا ينفك عنها المؤمن المنتمي إلى كيان دعوي.

ففي جانب العلاقات قال الله تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وفي جانب الاهتمام بالتعبد قال الله تعالى عنهم:{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، وفي جانب الحركة الدعوية قال الله تعالى عنهم: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}.

وفي هذه المقالة سننهل من مشرعة أحد هذه الأوصاف: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}. قال البغوي رحمه الله: «متعاطفون متوادون بعضهم لبعض، كالولد مع الوالد»[3]. وقال ابن جرير رحمه الله: «رقيقة قلوبهم بعضهم لبعض، لينة أنفسهم لهم، هينة عليهم لهم»[4]. وجاءت لفظة {بَيْنَهُمْ} لتشعر بأنَّ التراحم قد انبث في حنايا وأوساط مجتمعهم، كأنه سمتٌ لهذا المجتمع ولهذا الكيان[5].

تراحم النبي صلى الله عليه وسلم  وأصحابه:

إنْ كانت التوراة نطقت بتراحم هذا الكيان المبهر، ثم أثبت القرآن هذه الصفة للذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  فإنَّ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم  وسيرة الصحابة الذين كانوا معه ولازموه ترجمت ذلك عملياً، لقد كانت الرحمة والحب ونفع الغير والإحسان والإيثار.. كلها سمات لذلك الكيان المؤمن.

لقد بلغت مواساة الإخوة في الدين، الذين جمعهم الانتماء للمدينة النبوية مبلغها الذي لا يمكن وصفه، بل لا يمكن تصديقه لولا أنه ثبت بالأسانيد المرْضِية. لقد خلَّد الله تعالى في كتابه كرم الأنصار ومواساتهم بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [الحشر: ٩]. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيلَ. قال: «لا». فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا»[6]. فهؤلاء الأنصار يقترحون على النبي صلى الله عليه وسلم  استقطاع شطر من أراضيهم الزراعية هبة منهم للمهاجرين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم  يرفض هذا الاقتراح لما فيه من إضرار مادي عليهم، لكنه يقبل الاقتراح الآخر؛ وهو أنْ يتولى المهاجرون مساعدة الأنصار في القيام على الزراعة ومتطلباتها من السقاية والرعاية، مقابل أنْ يكون لهم نصيب من الثمر، وتبقى الأصول في ملك الأنصار. 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم  المدينة أتاه المهاجرون، فقالوا: يا رسول الله! ما رأينا قوماً أبذلَ من كثيرٍ ولا أحسنَ مواساةً من قليلٍ من قومٍ نزلنا بين أظهرهم. لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خفنا أنْ يذهبوا بالأجر كله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم» [7].

وفي نموذج فريد يروي أنس بن مالك قصته فيقول: «لما قدم عبد الرحمن بن عوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم  المدينة آخى بينه وبين سعد بن الربيع. قال: فانطلق به سعد إلى منزله، فدعا بطعام فأكلا، وقال له: لي امرأتان وأنت أخي في الله لا امرأة لك؛ فأنزلُ عن إحداهما فتزوجها. قال: لا والله. قال: هلمَّ إلى حديقتي أشاطركها. قال: لا. بارك الله في أهلك ومالك، دلوني على السوق. قال: فانطلق فاشترى سمناً وأقطاً وباع. قال: فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم  في سكة من سكك المدينة وعليه وضرٌ من صفرة، فقال له: «مهيمَ»؟. قال: يا رسول الله! تزوجت امرأة من الأنصار على وزن نواة من ذهب، أو قال: نواة من ذهب. فقال: «أولم ولو بشاة» [8].

وعن جرير رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر. فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم  لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية: {إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: ١]، والآية التي في الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، «تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره..» حتى قال: «ولو بشق تمرة» قال: فجاء رجل من الأنصار بصرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم  يتهلل كأنه مذهبة»[9]. تأمَّل تعابير وجه النبي صلى الله عليه وسلم  حين قدموا وهم على هذه الحال، ثم تغيُّر وجهه حين اجتمعت لهم نفقات الناس وصدقاتهم، لقد كانت الرحمة حاضرة في القلوب مترجمة بالمواساة.

قال أسلم: «خرج عمر إلى حرة واقم وأنا معه، حتى إذا كنا بصرار إذا نار تسعر. فقال: انطلق بنا إليهم. فهرولنا حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون. فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء. وكره أن يقول: يا أصحاب النار. قالت: وعليك السلام. قال: أدنوا؟ قالت: ادن بخير أو دع. فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: من الجوع. قال: وأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ما لي ما أسكتهم حتى يناموا، فأنا أعللهم وأوهمهم أني أصلح لهم شيئاً حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر! قال: أي رحمك الله، ما يدري بكم عمر؟ قالت: يتولى أمرنا ويغفل عنا! فأقبل علي وقال: انطلق بنا. فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً فيه كبة شحم فقال: احمله على ظهري. قال أسلم: فقلت: أنا أحمله عنك، مرتين أو ثلاثاً. فقال آخر ذلك: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك! فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه نهرول حتى انتهينا إليها، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر، وكان ذا لحية عظيمة، فجعلت أنظر إلى الدخان من خلل لحيته حتى أنضج ثم أنزل القدر، فأتته بصحفة فأفرغها فيها ثم قال: أطعميهم وأنا أسطح لك، فلم يزل حتى شبعوا، ثم خلى عندها فضل ذلك، وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيراً، فإنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك - إن شاء الله -! ثم تنحى ناحية، ثم استقبلها وربض لا يكلمني حتى رأى الصبية يضحكون ويصطرعون، ثم ناموا وهدأوا، فقام وهو يحمد الله، فقال: يا أسلم، الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت منهم»[10]. ولم يحتمل عمر رضي الله عنه أن ينصرف دون أن يطمئن قلبه بارتياح الأطفال وشبعهم.

هذه بعض الصور للمستوى العالي الذي وصل إليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم  من الرحمة والرأفة والمواساة، أما النبي صلى الله عليه وسلم  فيكفيه وصف الله تعالى عنه حين قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْـمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

التراحم سمة البيئات التربوية:

لقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم  أنَّ التراحم سمة للكيانات الطيبة، وضرب لهذا التراحم الذي أصبح مكوِّناً من مكونات شخصياتهم مثلاً، وهو أنَّ ما يتأذى به فرد من أفراد هذا الكيان فهو يؤذي الجميع، لأنهم شيء واحد وجسد واحد، فقال: «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [11]

قال ابن الجوزي رحمه الله: «إنما جعل المؤمنين كجسد واحد لأن الإيمان يجمعهم كما يجمع الجسد الأعضاء، فلموضع اجتماع الأعضاء يتأذى الكل بتأذي البعض، وكذلك أهل الإيمان يتأذى بعضهم بتأذي البعض»[12].

والجسد الواحد من طبيعته أنه إذا تألم أو ضعف أي عضو فيه؛ فإن الجسد كله يتأثر بتألم ذلك العضو وضعفه، وظهرت عدة أعراض لهذا الألم والضعف، على نواحي الجسد المختلفة.

وإذا كان هذا جسد المؤمنين بعمومهم، فكيف بجسد الكيانات والجماعات والمؤسسات التي قامت على فعل الخير والدعوة إلى الله! لا شك أنَّ الرابطة الإيمانية في هذه المواقع أشد وشيجة، وأمتن علاقة. ولهذا فإنَّ رسوخ الرحمة في أعماق أفرادها أقوى، فتجد القائد يدير الأعمال بمبدأ الرحمة، وتجد الفرد ينظر إلى أقرانه بمنظار الرحمة، وتجد الرحمة ذاتها نقطة الارتكاز التي يدور حولها الأفراد وقياداتهم بما يحملونه من سلوك ومشاعر تجاه العمل وتجاه أنفسهم.. هذا مقتضى قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} إنها دعوة للصادقين من أهل الإيمان، الذين جمعهم الإيمان وأظلتهم الدعوة إلى الإيمان والعمل لخدمة الإسلام أن يُحسُّوا بإخوانهم ويتألموا لآلامهم وأن يتحركوا لرفع معاناتهم. والتألم لآلام الإخوة لا لمجرد الألم، ولكن المؤمن حين يعيش آلام أخيه كأنها آلامه - بحكم الجسد الواحد - فإنه سيتحرك لرفع هذه المعاناة والآلام كأنما يرفعها عن نفسه.

لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم  أصحابه على هذا التراحم وحثهم على عدد من السلوكيات التي تدل عليه، وجاء كثير من النصوص تبيِّن ذلك وتجليه، فمنها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة» [13]،

قال ابن رجب رحمه الله: «والكربة هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أنْ يخفَّفَ عنه منها، مأخوذ من تنفيس الخناق، كأنه يرخى له الخناق حتى يأخذ نفَساً. والتفريج أعظم من ذلك، وهو أنْ يزيل عنه الكربة، فتنفرج عنه كربته، ويزول همه وغمه. فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج»[14].

وكما أنَّ التراحم مطلوب من عموم المؤمنين؛ فهو مطلوب بشكل أخص من أهل الدعوة والتربية، الذين جمعتهم كلمة التقوى ومظلة العمل لدين الله، كما كان الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  في الحديبية أحرى الناس بهذه الصفة من بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  الكثيرين. بل ألمس من قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ارتباط التراحم بالمعية، فحين تكون منظومة ما أو كيان ما فإن التراحم بين أفراده يصبح استحقاقاً يطالِب به الأفراد. اتلُ الآية من جديد، وتأمل فيها وتدبرها.. فإذا فعلت ذلك فهل ستوافقني؟

حين ينبعث التراحم في كيانات أهل الدعوة وتجمعاتهم فإنَّ الأفراد يشعرون بإشباع حاجاتهم من الأمان والتقدير والدفء العاطفي، وسيؤول ذلك بهم إلى التشبث بهذا الكيان وتحمُّل مسؤوليات الانتماء إليه. إنَّ هذا الكيان يقوم مقام الوالد والولد والأسرة والقبيلة. بل أكثر؛ لأن روابطه معتمدة على الإيمان محفوفة بالبركة والسعادة وحلاوة الإيمان.

أفانين التراحم:

مظاهر الرحمة تأخذ أشكالاً عديدة ومتنوعة، تزيِّن المجتمعات وتضيء أركانها، وتؤلف بين أفرادها في نسيج واحد.

والبيئة التربوية في أي موقع كانت.. هي أولى بالتراحم من سائر البيئات داخل المجتمع، لأنها اتخذت من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم  منهجاً للحياة. وقد أفاضت الآيات والأحاديث في ذكر مظاهر التراحم وسلوكياته في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم  مما يدفع إلى الاهتداء بهما في هذا الأمر، للوصول إلى المستوى المأمول من التراحم الإيماني.

من مظاهر التراحم في البيئات التربوية: المواساة. والمواساة تخفيفٌ من الأحزان والأثقال النفسية الناتجة عن الأمراض والمصائب ومشاقِّ الحياة، حيث يجد من أصيب بشيء من ذلك في نفسه ألماً وفي قلبه تمزقاً. ومن التراحم الإيماني في البيئة التربوية أنْ يجد هذا المصاب من يخفف عنه ويسليه ويسري عنه أحزانه وهمومه، سواء بالكلمة الطيبة والتعزية والحديث الدافئ، أو بالوقوف مع المصاب في محنته، ومساعدته في تجاوزها بسلام، أو التخفيف من غلوائها، وإرشاده إلى خطوات معالجتها.

والعناية بالمريض في البيئة التربوية واجب أخلاقي وهي لون من ألوان المواساة. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: «مرضت مرضاً، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم  يعودني وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجداني أغمي علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم  ثم صب وضوءه علي، فأفقت. فإذا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي، كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث»[15]. لم يمنع فارق السن بين النبي صلى الله عليه وسلم  وبين جابر من عيادة النبي صلى الله عليه وسلم  له ومحاولة التخفيف عنه، لأنَّ جابراً جزء من الكيان. 

ابن حجر رحمه الله يذهب إلى أبعد من هذا؛ يقول: «ومجرد عِلْم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة عليه، لأنَّ وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد، ووضع يده على المريض والمسح على جسده، والنفث عليه عند التعويذ»[16]. وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص أن أباها قال: «تشكَّيت بمكة شكواً شديداً، فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، فقلت: يا نبي الله! إني أترك مالاً، وإني لم أترك إلا ابنة واحدة، فأوصي بثلثي مالي وأترك الثلث؟ فقال: «لا» . قلت: فأوصي بالنصف وأترك النصف؟ قال: «لا». قلت: فأوصي بالثلث وأترك لها الثلثين؟ قال: «الثلث. والثلث كثير». ثم وضع يده على جبهته، ثم مسح يده على وجهي وبطني، ثم قال: «اللهم اشف سعداً، وأتمم له هجرته». فما زلت أجد بردَه على كبدي - فيما يخال إلي - حتى الساعة»[17].

ليس هذا فحسب، بل الوقوف مع المريض في مرضه نوع من المواساة المتقدمة، لاسيما إذا اندرج هذا المرض في ما يسمى اليوم «إصابات العمل»، وذلك لاعتباره جزءاً من الكيان، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أصيب سعدٌ يوم الخندق. رماه رجل من قريش يقال له: حبان بن العرقة، وهو حبان بن قيس من بني معيص بن عامر بن لؤي، رماه في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم  خيمة في المسجد ليعوده من قريب»[18].

ومن المواساة دلالة الإخوان وإرشادهم إلى ما يعينهم على تجاوز عقبات الحياة التي يكابدونها، إذ ليس من التراحم أنْ ننظر إلى إخواننا وهم عُرضة لأخطار الحياة ومشاقها، دون أنْ نقدِّم لهم يد العون والمساعدة. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم  ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: «يا أبا أمامة! ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة»؟. قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: «أفلا أعلمك كلاماً؛ إذا أنت قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك»؟. قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال». قال: ففعلت ذلك فأذهب الله همي وقضى عني ديني»[19].

ومن مظاهر التراحم في البيئات التربوية: العناية بالجانب الأسري للأفراد. ذلك أنَّ الأسرة تمثل النصف الآخر لواقع الأفراد المنتمين إلى الكيانات التربوية، وإغفال تأثيرها على واقع العمل الدعوي والتربوي قصور في النظر والتفكير. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  في بعض الظروف يساوي بين إسناد العاملين وإسناد أسرهم! كما وقع ذلك في مسألة الإنفاق في سبيل الله. 

عن زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «من جهَّز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا» [20]. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم  مقتل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه واسى أهله. عن عبد الله بن جعفر قال في سياق قصة أمراء مؤتة: «ثم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: «لا تبكوا على أخي بعد اليوم» ثم قال: «ادعوا لي بني أخي» فجيء بنا كأنا أفرخ. فقال: «ادعوا لي الحلاق» فأمره فحلق رءوسنا، ثم قال: «أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي» ثم أخذ بيدي، فشالها فقال: «اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه»، قالها ثلاث مرار، قال: فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا، وجعلتْ تُفرِح له، فقال: «العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة» [21].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «هلك أبي وترك سبع بنات - أو تسع بنات - فتزوجتُ امرأة ثيباً. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزوجتَ يا جابر»؟ فقلت: نعم. فقال: «بكراً أم ثيباً»؟. قلت: ثيباً. قال: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك»؟ قلت: إن عبد الله هلك وترك بنات، وإني كرهتُ أنْ أجيئهن بمثلهن، فتزوجتُ امرأة تقوم عليهن وتصلحهن. فقال: «بارك الله لك» أو «خيراً» [22]

قال ابن حجر رحمه الله: «وفيه سؤال الإمام أصحابه عن أمورهم، وتفقده أحوالهم، وإرشاده إلى مصالحهم، وتنبيههم على وجه المصلحة، ولو كان في باب النكاح وفيما يستحيى من ذكره»[23]. وفي موقف آخر لجابر رضي الله عنه يدلل على هذا النوع من التراحم.. عن ابن كعب بن مالك أنَّ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره أنَّ أباه قُتل يوم أحد شهيداً، فاشتد الغرماء في حقوقهم. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم  فكلمته، فسألهم أنْ يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي، فأبوا. فلم يعطهم ولم يكسره لهم، ولكن قال: «سأغدو عليك إنْ شاء الله». فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل فدعا في ثمره بالبركة، فجددتُها، فقضيتهم حقوقهم، وبقي لنا من ثمرها بقية. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو جالس فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  لعمر: «اسمع -وهو جالس-  يا عمر». فقال: ألا يكون قد علمنا أنك رسول الله؟ والله إنك لرسول الله[24].

وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم  سودة بنت زمعة وزينب بنت خزيمة وأم سلمة وحفصة بعد وفاة أزواجهن، كما ضم إليه عيال أبي سلمة رضي الله عنهم.

قد تؤدي حركة الأفراد داخل الكيان التربوي إلى مضاعفات سلبية على أسرهم، بشكل وبآخر، وهذا مما يسترعي الانتباه ويوجب اليقظة؛ حتى يجد الفرد سنداً اجتماعياً مناسباً يطمئن إليه في ظل انشغاله بعمله.

ومن مظاهر التراحم في البيئات التربوية: نصرة المظلوم والسعي في رفع الظلم عنه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله»[25]. وفي رواية ابن عمر: «لا يظلمه ولا يسلمه»[26]. قال ابن حجر رحمه الله: «(ولا يسلمه) أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم»[27]. والمنافحة عن قضايا التظلُّم في البيئات التربوية واجب أخلاقي، إذ ليس الظلم محصوراً في القضايا المالية والاجتماعية، كلا! فهو يشمل التقويم الخاطئ والحكم الحائد عن الصواب وإهمال الأفراد وتهميشهم، وغير ذلك مما هو محل خصومة ونزاع داخل الكيانات التربوية.

إلى غير ذلك من مظاهر التراحم التي ينبغي بثها في البيئات التربوية، والتي تنحو نحو تلمس الاحتياجات البشرية والنفسية؛ مما لا غنى للأفراد عن إشباعها وتلبيتها.

حين يتغوَّل الجفاف

جفاف العاطفة كرياح فصل الخريف؛ مؤذية جافة، تتساقط على إثرها أوراق الشجر، وتنتهي بها مرحلة عمرية من النباتات التي كانت قبل ذلك غضة طرية.

جفاف العاطفة.. إذا حل في روح أذبلها، وإذا حل في أسرة فرَّقها، وكذلك إذا حل بالكيان التربوي آذن بتصرمه.

جفاف العاطفة.. شطبٌ لمعالم الجمال، وزلزلة في أرض المحبة، وتقويضٌ لأركان العلاقات.

حين يتغوَّل الجفاف في المحاضن التربوية، ويستشري في الكيانات والمؤسسات.. فلا تسلْ عما بقي من صالح العمل فيها! وإذا كان المتخصصون يزعمون أنَّ نسبة عمليات التواصل في المؤسسات تقارب الـ 85% من مجمل الأعمال المؤسسية؛ فهذا يعني أنه لم يتبق من العمل في الكيانات الجافة سوى 15%. وحتماً ستكون هذه الكيانات باباً مشرعاً للمتسربين، وخلايا فاعلة للنجوى والتحريش، ومقبرة يؤمها الأفراد زرافات ووحداناً.

الكيان الذي يهمل التراحم جسد بلا روح.. بلا وهج.. بلا حياة.. بلا ابتهاج! وإنَّ الذين يرون ألا مكان للعلاقات الإنسانية في الكيانات والمؤسسات، أو لا يرون أنها ذات أهمية فإنهم يسيرون بها نحو الهاوية.

استقطعوا أيها الأحبة في محاضنكم وفي مؤسساتكم وفي إداراتكم.. استقطعوا جزءاً من جداول العمل في زرع ابتسامة أو قضاء حاجة أو بيع أفراح أو توزيع ابتهاج.. وإياكم والعبوس!

إياكم والعبوس في الوجه، وجدول العمل، وإنجاز المهمات.. فكل ذلك عبوس.


[1] التحرير والتنوير 26/203.

[2] تفسير القرطبي 16/193.

[3] معالم التنزيل 4/190.

[4] تفسير الطبري 21/321.

[5] انظر التحرير والتنوير 26/205.

[6] أخرجه البخاري 2/153، كتاب الحرث والمزارعة، باب إذا قال اكفني مؤونة النخل وغيره وتشركني في الثمرة، ح2325.

[7] أخرجه الترمذي 4/653، كتاب صفة القيامة، ح2487.

[8] الطبقات الكبرى 3/484.

[9] أخرجه مسلم 2/704، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، ح1017.

[10] الكامل في التاريخ 2/453.

[11] أخرجه مسلم 4/1999، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، ح2586.

[12] كشف المشكِل من حديث الصحيحين 2/212.

[13] أخرجه مسلم 4/2074، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، ح2699.

[14] جامع العلوم والحكم 2/286.

[15] أخرجه البخاري 4/25، كتاب المرضى، باب عيادة المغمى عليه، ح5651.

[16] فتح الباري 10/119.

[17] أخرجه البخاري 4/27، كتاب المرضى، باب وضع اليد على المريض، ح5659.

[18] أخرجه البخاري 3/119، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم  من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم، ح4122.

[19] أخرجه أبو داود 2/93، كتاب الصلاة، باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستعاذة، ح1555.

[20] أخرجه البخاري 2/317، كتاب الجهاد والسير، باب باب فضل من جهز غازياً أو خلفه بخير، ح2688.

[21] أخرجه أحمد في المسند، ح1750 (الشامي: 5/580 ح 8441).

[22] أخرجه البخاري 3/428 كتاب النفقات، باب عون المرأة زوجها في ولده، ح5367.

[23] فتح الباري 9/26.

[24] أخرجه البخاري 2/237، كتاب الهبة، باب إذا وهب ديناً على رجل، ح2601.

[25] أخرجه مسلم 4/1986 كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، ح2564.

[26] أخرجه البخاري 2/190 كتاب المظالم والعصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، ح2442. ومسلم 4/1996 كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ح2580.

[27] فتح الباري 5/117.

____________________________________________________
الكاتب: فايز بن سعيد الزهراني

  • 1
  • 1
  • 5,074

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً