هل تعطيل السبت شعيرة أم عادة؟
وحريٌّ بالمسلمين وهم الأكثرية أن يكون عندهم من الاعتزاز بدينهم ما يحول بينهم وبين التشبُّه بغيرهم، وأن يَتبعهم اليهود فيما قيل: إنه مصالح دنيوية، لا أن تتبع خير أمة أُخرجت للناس أمة المغضوب عليهم فيما هو من شعائر دينهم.
وقفت على كلام لفضيلة الشيخ الدكتور: محمد بن عبدالعزيز الفراج، أستاذ الحديث بجامعة القصيم - حفِظه الله تعالى وسدَّده - يجيز فيها التعطيل يوم السبت، ولا يراه من التشبه المذموم، ويرى فيه مصلحة أكثر من التعطيل يوم الخميس.
ولأن العلم رحم بين أهله، ولجواز مباحثة المفضول للفاضل، فإني أتطفل على مقام الشيخ الجليل بهذه المباحثة في الموضوع؛ عسى الله تعالى أن ينفع بها كاتبها وقارئها.
ومبنى كلام الشيخ على أصل هو: أن التعطيل يوم السبت عادة وليس عبادة، فإذا زالت الخصوصية في العادات، زال التحريم، ولا يكون تشبُّهًا.
قال الشيخ حفظه الله تعالى: دعوى منع ذلك؛ لوجود التشبه بالكفار، ليس ظاهرًا، فليس جميعهم يعطلون السبت، ثم أكثر الدول الإسلامية والعربية يعطلون السبت، فانتفت الخصوصية، وزال حقيقة التشبه!
قلت: يصح تقرير الشيخ في زوال حقيقة التشبه بزوال الخصوصية، لو كان التعطيل في السبت عادة فقط، وسيأتي بيان أنه ليس عادة.
قال الشيخ: نعم لو تم الاكتفاء بيوم السبت وحده في الأجازة أسبوعيًّا عن الجمعة، فالتشبه ظاهر، فأما مع الجمعة، فلا.
قلت: هذا فيه نظر؛ لأن الواقع أن المسلمين كانوا مخالفين لليهود بالعمل يوم السبت، والتعطيل يوم الجمعة، فوافقوهم بالتعطيل في السبت مع بقاء الجمعة، ويصح قول الشيخ لو كان العكس، بمعنى لو كان المسلمون يُعطلون السبت ويعملون الجمعة، فقصَدوا مخالفتهم بالتعطيل في الجمعة كما حصل في عاشوراء.
قال الشيخ: ثم اعتبار السبت عيدًا بمجرد عدم الدوام فيه، فيه نظر؛ فإن العيد ما كان يعتقد فضله، ويفرح به، ويترك صومه، ويحصل فيه اجتماع، ولا يكون هذا في السبت، وإنما في الجمعة وحدها، وليس من معاني العيد الأجازة وترْك العمل، بل الجمعة أكثر الأيام عملاً، وما كان النبي وأصحابه يخصون الجمعة بترك العمل جملة بتاتًا، وكذا السلف، وكذا أجدادنا وآباؤنا، فالإسلام دين عمل وهِمة وحركة ونشاط، إلا لأسباب خاصة ومسوغات نادرة قُبيل الجمعة لأجل الاستعداد والتهيؤ لها، بمعنى أن ولي أمر المسلمين لو رأى فقرَّر أن جميع أيام السبوع دوامًا - بما فيها الجمعة - لمصلحةٍ ما رآها، فهل يعتبر فعله إلغاء لعيدية الجمعة لمجرد الدوام، فيصير محرَّمًا؟!
قلت: يستفاد من كلام الشيخ جملة أمورٍ:
الأول: أنه لا يلزم من التعطيل في يوم أن يكون ذلك اليوم عيدًا.
الثاني: أن يوم الجمعة يوم عمل في الأصل، وما كان النبي - عليه الصلاة والسلام - والصحابة يخصونه بترك العمل فيه.
الثالث: أن العمل يوم الجمعة لا ينفي كونه عيدًا.
وكلها تقريرات حسنة فائقة لا غبار عليها، بيد أن تحريم التعطيل في السبت لا لكونه يكون عيدًا بمجرد التعطيل فيه، وإنما لأن مجرد التعطيل فيه شعيرة عند اليهود، إضافة إلى كونه عيدًا عندهم، وفيه شعائر أخرى غير التعطيل، وكل واحدة من هذه الثلاث لا يلزم منها الأخرى. كما أن الشيخ نفى أن يلزم من كون الجمعة عيدًا أن يكون عطلة.
وأما إثبات أن مجرد التعطيل في يوم السبت شعيرة من شعائر اليهود غير شعيرة كونه عيدًا، فإليك جملة من نصوص التوراة المحرَّفة أنقل شيئًا منها:
1- في سفر الخروج: 20: 8-11: يجب أن نستريح في اليوم السابع؛ لأن الله استراح فيه من الخليقة.
2- في سفر التكوين: 2: 1-3: بارك الله يوم السبت وقدسه؛ لأن فيه استراح الرب من جميع أعماله.
3- في سفر الخروج: 16: 22-30: منع الله نزول المن لإسرائيل في اليوم السابع حتى يستريحوا.
4- في سفر الخروج: 20: 8-11: في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر، وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع.
5- في سفر الخروج: 16: 22-23: أن موسى قال لهم: هذا ما قال الرب: غدا عطلة سبت مقدس للرب.
6- في سفر التثنية: 5: 12-15: كان يجب على الجميع أن يكفوا عن العمل في ذلك اليوم.
7- في سفر الخروج: 31: 14 وكانت عقوبة تدنيس يوم السبت بعمل أي عمل فيه هي الموت.
8- في سفر العدد: 15: 32-36: والرجل الذي وجد يجمع حطبًا يوم السبت، رُجِم حتى الموت.
9- في سفر العبور: 4: 1-11: إن السبت اليهودي لم يكن سوى رمز لراحة الله التي هي ميراث لكل شعب الله، فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة.
وفي دائرة المعارف الكتابية ما يفيد أن معتقد بني إسرائيل في تعطيل السبت، كان معروفًا لديهم قبل نزول التوراة؛ ينظر: 4/332.
وكانوا يمتنعون فيه عن القتال والدفاع عن أنفسهم، ويفضلون الموت على أن يدنسوا السبت، حتى أفتاهم الكاهن متتيا بن يوحنا بحمل السلاح في يوم السبت دفاعًا عن أنفسهم؛ كما في سفر المكابيين الأول: 2: 31-41.
وقد رد الله تعالى على معتقد اليهود الباطل بقوله - سبحانه -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38].
قال قتادة - رحمه الله تعالى -: أكذب الله اليهود والنصارى، وأهل الفِرى على الله، وذلك أنهم قالوا: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استراح يوم السابع، وذلك عندهم يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة؛ اهـ؛ تفسير الطبري نسخة أحمد شاكر: 22 / 376.
وفي قاموس الكتاب المقدس ص453: سبت: كلمة عبرانية معناها (راحة)، وقد بدأ التفكير في يوم السبت على أنه اليوم الذي يترك فيه الإنسان أشغاله المادية حتى يستريح قديمًا، وذلك تذكارًا لليوم السابع من الخليقة.
وفي دائرة المعارف الكتابية 4/330: كان السبت اليهودي يوم راحة لكل الشعب، ولم يكن مسموحًا بأي نوع من العمل في أيام السبت اليهودي.
وإذا ثبت أن مجرد التعطيل من العمل في يوم السبت، واتخاذه راحة، شعيرة من شعائر اليهود كما في النصوص السابقة؛ كان تعطيل المسلمين فيه تشبهًا باليهود فيما هو من شعائرهم، ولو لم يتَّخذوه عيدًا، وهذا محرم مطلقًا، كما لو انتشر بين المسلمين لُبس الصُّلبان، فإنه لا يصير حلالاً بذلك؛ لأنه شعيرة من شعائرهم.
ذكر الشيخ - حفظه الله تعالى -: أن في إجازة الخميس ودوام السبت، تضييعًا لفرص ومصالح تجارية من أسهم وصفقات عالمية، كان بإمكانهم تحصيلها بإجازة السبت، ودوام الخميس.
قلت: هذه العلة أظهر في الأحد من السبت؛ فإن عامة الدول النصرانية، وبقية دول العالم لها تبعٌ، يعطلون الأحد تعطيلاً كاملاً، وأما التعطيل يوم السبت، فتعطيل جزئي عدا إسرائيل، وإذا كان كذلك، فالأحد أَوْلَى بالتعطيل من السبت لأجل المصالح، ولأنه لا يناسب أن يكون السبت فاصلاً بين الجمعة والأحد، ومراعاة للمصالح بشكل كامل سيقال: يعطل السبت والأحد بدل الجمعة والسبت، وسيكون من جهة المصالح الدنيوية أولى بالرعاية من تعطيل الجمعة والسبت، ولا سيما أن الشيخ - حفظه الله تعالى - قد قرر أن يوم الجمعة لم يرد التعطيل فيه، وأنه في الأصل يوم عمل.
ذكر الشيخ - وفَّقه الله تعالى -: أن جعل بداية الدوام الأحد، وجعله أول الأسبوع يوافق الفطرة وطبيعة الأيام، وتسميتها ليصبح واحدًا (١) وبعده الاثنين يصير (٢)، وهكذا بقيتها حتى آخرها الخميس هو (٥).
قلت: لا يصح تقرير ذلك؛ لأن أسماء الأيام ليس توقيفية فيما أعلم، بل لا يعرف من أين جاءت، وروايات المؤرخين مختلفة في ذلك، فكيف يجعل البَدء من الأحد موافقًا للفطرة لمجرد تسمية لا يعلم أصلها؟!
ثم إن ما قاله الشيخ الكريم متوافق مع معتقد النصارى، ولو لم يقصد ذلك؛ ففي قاموس الكتاب المقدس ص455: ويخبرنا تاريخ الكنيسة أنها حفِظت اليوم الأول من الأسبوع بناءً على أوامر الرسل، وقد كتب إعناطيوس داعيًا بحفظ يوم الأحد؛ كيوم الرب الذي به قيام الحياة لنا، وقال الشهيد جستينوس: نجتمع سوية يوم الأحد؛ لأنه اليوم الأول الذي فيه غير الله الظلمة إلى نور، والعدم إلى وجود، وفي هذا اليوم قام مخلصنا يسوع المسيح من الأموات؛ اهـ.
تنبيه: ذكر عضو هيئة كبار العلماء فضيلة الشيخ عبدالله المنيع - سدَّده الله تعالى - في حديث له لصحيفة عكاظ، أنه لا إشكال شرعًا في تغيير العطلة الأسبوعية إلى الجمعة والسبت، ونفى أن يكون استبدال السبت بالخميس لغرض التشبه باليهود في إجازتهم، وإنما الغرض من ذلك الارتباط بالعالم في معاملاته والاتصالات، والنقل الجوي وغيره، ولو كان الغرض التشبه بهم لقلنا إنه لا يجوز؛ اهـ.
قلت: لا يشترط القصد في تحريم التشبه، لكن يرتفع الإثم حتى يعلم المتشبه أنه وقع في التشبه، كما لو أن امرأة أعجبتها قلادة صليب، فلبِستها لجمال صنعها، لا لأنها شعيرة من شعائر النصارى، لوجب الإنكار عليها، وتأثم بإصرارها على لُبسها بعد عِلمها، ولا أثر لنيَّتها في ذلك، وقد تبين بما سبق أن مجرد تعطيل العمل في يوم السبت شعيرة من شعائر اليهود، تتابعوا عليها إلى يومنا هذا.
وحريٌّ بالمسلمين وهم الأكثرية أن يكون عندهم من الاعتزاز بدينهم ما يحول بينهم وبين التشبُّه بغيرهم، وأن يَتبعهم اليهود فيما قيل: إنه مصالح دنيوية، لا أن تتبع خير أمة أُخرجت للناس أمة المغضوب عليهم فيما هو من شعائر دينهم.
- التصنيف: