الاستشارة والاستخارة
قال رحمه الله: لو أقدمت على عمل، فينبغي أن تستشير أهلك لأُمور ثلاثة:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فعندما يحدث للإنسان مواقف وأشياء تشكل عليه, فينبغي عليه أن يستشير من يثق بعقله وعلمه, حتي يتبين له وجه الصواب, والاستشارة يتعلق بها عدد من المسائل, تكلم عليها العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في عدد من مصنفاته, وقد يسّر الله الكريم فجمت بعضاً مما ذكر, أسأل الله أن ينفع الجميع بها.
وجوب المشاورة إذا لم يتبيَّن للإنسان وجه الصواب:
قال الشيخ رحمه الله: قال الله عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وهذا الأمر للوجوب حين لا يتبيَّن وجه الصواب، أما إذا تبيَّن وجه الصواب فلا حاجة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائمًا يمشي لوجهه ولا يشاور؛ لكن إذا اختلف وجه الصواب عند الإنسان وأشكل عليه فحينئذٍ تجب المشاورة في الأمور العامة المشتركة، فيُشاور من شاركه في هذا الأمر، ولا تجب المشاورة في الأمور الخاصة.
مشروعية الاستشارة وإن كان الإنسان ذا عقلٍ ومشورة:
عن أنس رضي الله عنه « أن النبي أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين قال:وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبدالرحمن بن عوف: أخوف الحدود ثمانون، فأمر به عمر» [متفق عليه]قال الشيخ رحمه الله: من فوائد هذا الحديث: مشروعية الاستشارة، حتى وإن كان الإنسان ذا عقلٍ ومشورة فليستشر.
شاور سـواك إذا نابتـك نائبة *** يومًا وإن كنت من أهل المشوراتِ
فلا تقل: أنا عندي ذكاء، وعندي فكر، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، وإذا كان عمر رضي الله عنه، وهو من هو، يستشير الصحابة، فمن دونه من باب أولى.
وقال رحمه الله: وعمر على سداد رأيه، ورجاحة عقله، كان لا يستغني عن المشاورة، فجاء يستشير النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن شئت حبست أصلها، وتصدَّقت بها» .
الاستشارة في الأمور التي تدعو الحاجة إلى الاستشارة فيها:
قال الشيخ رحمه الله: لا تستشر إلا في أمورٍ تدعو الحاجة إلى الاستشارة فيها، فالإنسان يستشير في أموره الخاصة، ويستشير في الأمور العامة.
من بركة المشاورة أن يوفق الإنسان للصواب والحق:
قال الشيخ رحمه الله: لما سمِع عمر رضي الله عنه بخبر الوباء استشار الصحابة - كعادته رضي الله عنه - هل يرجع أو يقدم؟ فأشار بعضهم بالرجوع، وأشار بعضهم بعدم الرجوع، ثم عزم على الرحيل، بناء على ترجيح أكثر الصحابة رضي الله عنهم، وفي أثناء ذلك جاء عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه - وكان في حاجة له - فحدَّثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمِعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه» ، فانظر كيف كانت بركة المشورة؛ أن وُفِّقُوا للصواب والحق.
وقال رحمه الله: لا شك أن الاستشارة استنارة في الواقع؛ لأن الإنسان بشر، يخفى عليه كثير من الأمور، فإذا اجتمعت الآراء ونوقشت بعلم وعدل - لا هوى - فإن الله عز وجل يوفقهم للصواب.
ذكر الأمر الذي تطلب الشورى فيه على حقيقته:
قال الشيخ رحمه الله: ينبغي للمستشير أن يذكر الأمر على ما هو عليه حقيقة، لا يلوذ يمينًا وشمالًا؛ بل يذكر الأمر حقًّا على ما هو عليه حتى يتبيَّن للمستشار حقيقة الأمر، ويبني مشورته على هذه الحقيقة.
صفات من يُستشار:
قال الشيخ رحمه الله: يجب أن يكون رجال الشورى من أهل الخير والصلاح؛ لقول عمر رضي الله عنه: "الذين تُوفي عنهم رسول الله وهو راضٍ عنهم".
وقال رحمه الله: لا بد فيمن تستشيره، أن يكون ذا رأي وخبرة في الأمور، وتأنٍّ وتجربة وعدم تسرُّع.
فمن ليس له رأي لا تستفيد منه، وكثير من الناس إذا استشرته في شيء لا يعطيك ردًّا؛ بل ربما يقول لك كل ما تختاره فهو جيد، ويقول العامة: "إذا أردت أن تحيره فخيِّره" والقصد من الاستشارة أخذ الرأي؛ لا أن يخيرك أنت.
وأن يكون صالحًا في دينه؛ لأن من ليس بصالح في دينه ليس بأمين، حتى وإن كان ذكيًّا وعاقلًا ومحنَّكًا في الأمور، إذا لم يكن صالحًا في دينه فلا خير فيه، وليس أهلًا لأن يكون من أهل المشورة؛ فلا تستشر إلا إنسانًا أمينًا، يُحبُّ لك ما يحبُّ لنفسه، فغير الأمين قد يُودي بك ويضرُّك.
مشروعية استشارة الرجل في طلاق الزوجة:
عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه، قال: «قلتُ: يا رسول الله، إني لي امرأة، فذكر من بذائها، قال: ((طلقها))، قُلتُ: إن لها صُحبةً وولدًا، قال: ((مرها أو قُل لها، فإن يكُن فيها خير ستفعل، ولا تضرب ظعينتك ضربتك أمتك))» «» [أخرجه أبو داود وأحمد].
قال الشيخ رحمه الله: فوائد الحديث: مشروعية استشارة الرجل للنُّصح، والرأي في طلاق الزوجة؛ لأن هذا الصحابي استشار النبي صلى الله عليه وسلم في حال امرأته الذي حصل منها البذاء.
على المُستشار أن يتقي الله، وأن يُشير بما يرى أنه حق ونافع:
قال الشيخ رحمه الله: يجب على المستشار أن يتقي الله عز وجل فيما أشار فيه، وألَّا تأخذه العاطفة في مراعاة المستشير؛ لأن بعض الناس إذا استشار الشخص، ورأى أنه يميل إلى أحد الأمرين أو الرأيين ذهب يُشير عليه به.
ويقول: أنا أحبُّ أن أوافق الذي يرى أنه يناسبه، وهذا خطأ عظيم؛ بل خيانة، الواجب إذا استشارك أن تقول له: ما ترى أنه حق، وأنه نافع، سواء أرضاه أم لم يرضه، وأنت إذا فعلت هذا كنت ناصحًا، وأدَّيت ما عليك، ثم إن أخذ به، ورأى أنه صواب فذاك، وإن لم يأخذ برأيك فقد برئت ذِمَّتُك، مع أنك ربما تستنتج شيئًا خطأ؛ قد تستنتج أنه يريد كذا وهو لا يريده، فتكون خسرانًا من وجهين: من جهة الفهم السَّيِّئ، ومن جهة القصد السَّيِّئ.
وقال رحمه الله: الإشارة عند المشاورة إلى ما يكون أحسن، وهذا واجب، فكل من استشارك في أمرٍ، فإنه يجب عليك أن تنظر ما هو الأصلح في حاله، وقد تُشير على شخص بشيء، وتشير على آخر بخلافه، والمقصود أنه في المشورة يجب على الإنسان الذي استُشير أن ينظر إلى حال من استشاره، ما الذي يصلح له؟
مناقشة من تستشير:
قال الشيخ رحمه الله: وإذا استشرته، فهل تستسلم لما يقول أو تناقشه؟
الجواب: بل تناقشه حتى يستبين الأمر؛ لأنه قد يشير عليك بما يرى أنه المصلحة؛ لكنه لا يدري ما وراء ذلك مما هو عندك أنت، فلا حرج أن تناقشه، وقد يغضب بعض الناس أن تستشيره ثم تجادله، فقل له: أنا ما جادلتك اعتراضًا؛ لكني جادلتك حتى يتبين الأمر ويحصحص الحق؛ لأن الإنسان قد يبدو له شيء وتغيب عنه موانعه، فإذا وجد من يعارضه تبيَّن تمامًا.
فوائد استشارة الإنسان لأهله:
قال رحمه الله: لو أقدمت على عمل، فينبغي أن تستشير أهلك لأُمور ثلاثة:
أولًا: أنَّك إذا استشرت أهلك رفعت من معنويَّاتهم، وتواضعت لهم، وهذه فائدة عظيمة، وعرف أهلُك أنَّ لهم قيمةً عندك وقدرًا.
ثانيًا: رُبما يكُون لديهم رأي خير من رأيك، فكثير ما يكون القاصر عنده من العلم ما ليس عند الكامل؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكمل من كُلِّ وجهٍ، والقاصرُ لا يمكن أن يكون قاصرًا من كلِّ وجهٍ، فقد يكون عند أهلك من الرأي ما ليس عندك، ويكون رأيُهم هو الصواب.
ثالثًا: في مشاورة الأهل في الأمر الذي يُهمُّك ويُهِمهم أن تقنعهم إذا كان رأيك هو الصواب، من أجل أن يستقرُّوا ويطمئنوا ويقبلوا العمل الذي تقوم به وإياهم بِانشراح صدر.
والإنسان مع استشارة غيره قد يحتاج كذلك إلى الاستخارة, وبعد الاستخارة يفعل خير الأمرين إذا تبين له, فإن لم يتبين له, فتوجد أمور تبين له ما خير الأمرين, ذكرها العلامة ابن عثيمين, قال الشيخ رحمه الله: الاستخارة: طلب خير الأمرين، والإنسان في أفعاله إما أن يتبيَّن له خير الأمرين فيفعله، ولا يحتاج إلى استخارة، وإما أن يتردَّد ويُشكل عليه الأمر، فحينئذٍ يحتاج إلى استخاره؛ لأنه لا يدري ما خير الأمرين؟ وإنما العالم بذلك هو الله سبحانه وتعالى؛ لكن كيف نعلم أي الأمرين خير؟
الجواب: نعلم ذلك بأمور:
الأمر الأول: أن ينشرح صدره لأحد الأمرين، فيأخذ بما انشرح له صدرُه.
الأمر الثاني: أن يرى رؤيا تُؤيِّد أحد الأمرين.
الأمر الثالث: أن يُشير عليه أحد من أهل النُّصْح بأحد الأمرين، فنعلم أن الله تعالى استخار له ذلك.
الأمر الرابع: أن يتفاءل بأن يسمع شيئًا يُؤيِّد أحد الأمرين، فهنا يأخذ به.
الأمر الخامس: أن يُفتح عليه التفكُّر والتأمُّل، فيتأمَّل من وقع له مثل هذا، فأقدم على هذا فغنم، أو أقبل على الثاني فندم، فيأخذ بما فيه الغنم من باب الاعتبار.
فكلُّ هذه الأسباب تُرجح للمستخير أحد الأمرين، فإن لم يوجد مُرجِّح، فإنه يُعيد الاستخارة مرةً ثانية حتى يتبيَّن له الأمر، وهذا لا يضرُّه؛ لأنه إذا أعادها فإنما يزداد عملًا صالحًا ودعاءً-والدعاء من العبادة-وافتقارًا إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال أهل العلم: إذا استسقى الناس فسُقوا فقد حصل المطلوب، وإن لم يسقوا أعادوا الاستسقاء مرةً ومرةً ومرةً إلى أن يسقوا، فكذلك الاستخارة نقول فيها كذلك.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: