وليال عشر
فَضْلُ الله على أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم غَدِقٌ عظيمٌ، ومِن أجلِّ هذه الأفضالِ –وكلُّها جليلٌ-أنْ جعلَ لهم مواسمَ للخيرِ سابغةً؛ تُضاعَفُ فيها الأجورُ، وتُحَطُّ الأوزارُ، وتَنْعمُ الرُّوحُ بالقربِ مِن مولاها، وتذوقُ مِن برْدِ عفوِه وكرمِه ما تَطيبُ به حياتُها، ويكونُ لها زادًا في سيرِها إلى اللهِ..
فَضْلُ الله على أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم غَدِقٌ عظيمٌ، ومِن أجلِّ هذه الأفضالِ –وكلُّها جليلٌ-أنْ جعلَ لهم مواسمَ للخيرِ سابغةً؛ تُضاعَفُ فيها الأجورُ، وتُحَطُّ الأوزارُ، وتَنْعمُ الرُّوحُ بالقربِ مِن مولاها، وتذوقُ مِن برْدِ عفوِه وكرمِه ما تَطيبُ به حياتُها، ويكونُ لها زادًا في سيرِها إلى اللهِ، وتصحيحًا لعِثَارِ المسيرِ.
وعشْرُ ذي الحِجَّةِ أَجَلُّ هذه المواسمِ، وأوفرُها مِن الخيرِ حظًا، أبانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عظيمَ هذا الفضلِ في محاورةٍ علميةٍ ذاتِ بُعْدٍ عمليٍّ جَرَتْ بينه وبين أصحابِه؛ بُغْيةَ العلمِ بقدْرِ هذه الأيامِ؛ كيما تُوفَّى كِفَاءَها من العملِ الصالحِ؛ إذ إدراكُ الفضائلِ سبيلُ إدراكِها، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما العملُ في أيامٍ أفضلَ منها في هذه»؟ قالوا: ولا الجهادُ؟ قال: «ولا الجهادُ، إلا رجلٌ خَرَجَ يخاطِرُ بنفسِه ومالِه، فلمْ يرجعْ بشيءٍ» (رواه البخاريُّ)، وفي روايةِ أبي داودَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ»، يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».
بهذا التفضيلِ الكليِّ لهذه العشرِ فَهِمَ الصحابةُ أنَّ العملَ الصالحَ فيها هو المقدَّمُ المفضَّلُ على غيرِه بإطلاقٍ، فسألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ طلبًا لتأكيدِ فَهْمِ ذلك الإطلاقِ، عن فَوْقِ عملِ العشرِ وأفضليتِه على ذِرْوَةِ سنامِ الإسلامِ؛ الجهادِ في سبيلِ اللهِ؛ إذ فيه مِن المشقةِ والخطرِ ما ليس في غيرِه، فأبانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنها تفوقُه إلا في صورةٍ مفردةٍ نادرةِ الحُدُوثِ؛ حين يخرجُ المجاهدُ بروحِه ويستاقُ كلَّ مالِه؛ ممّا ثَقُلَ وخفَّ، وكَثُرَ وقَلَّ؛ فلمْ يدعْ منه شيئًا؛ فتزهقُ روحُه وينفضُّ مالُه في سبيلِ اللهِ؛ فلا تبقى له نفسٌ ولا مالٌ، فذلك هو العمل الوحيد الذي يفوق ثوابُه ثوابَ العملِ الصالحِ في عشرِ ذي الحجةِ.
عبادَ اللهِ!
إنَّ صالحاتِ العشرِ ذاتُ موْقعٍ ومحبةٍ عندَ اللهِ؛ فحَظِيتْ بالزكاءِ والقداسةِ والتعظيمِ المطْلَقِ؛ فكان أجرُها بالتعظيمِ مطلقًا، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما مِن عملٍ أزكى عندَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ولا أعظمَ أجرًا مِن خيرٍ يعملُه في عشرِ الأضْحى» رواه الدارميُّ وجوّدَه الألبانيُّ، وقال:" ما مِن أيامٍ أعظمَ عندَ اللهِ، ولا أحبَّ إليه مِن العملِ فيهنَّ مِن هذه الأيامِ العشرِ، فأكثروا فيهنَّ من التهليلِ، والتكبيرِ، والتحميدِ "؛ رواه أحمدُ وجوّدَه المنذريُّ، وقال كعبُ الأحْبار: "اختارَ اللهُ الزمانَ، وأحبُّ الزمانِ إلى اللهِ الأشهرُ الحُرمُ، وأحبُّ الأشهرِ الحرمِ إلى اللهِ ذو الحجةِ، وأحبُّ ذي الحجةِ إلى اللهِ العشرُ الأولُ ".
وبذلك يَظهرُ سِرُّ تعظيمِ اللهِ لها حينَ أقسمَ بها؛ إذِ القَسَمُ لا يكونُ إلا بعظيمٍ، قال اللهُ –تعالى-: {وليالٍ عشْرٍ} [الفجر: 2]، قالَ مسروقٌ: " هي أفضلُ أيامِ السَّنَةِ ". وبَيَّنَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ سببَ اختصاصِها بهذا التفضيلِ فقالَ: " والذي يظهرُ أنَّ السببَ في امتيازِ عشرِ ذي الحجةِ؛ لمكانِ اجتماعِ أمهاتِ العبادةِ فيه، وهي الصلاةُ، والصيامُ، والصدقةُ، والحجُ، ولا يتأتَّى ذلك في غيرِه ".
وقال ابنُ رجبٍ: " لمّا كان اللهُ –سبحانه وتعالى- قد وضعَ في نفوسٍ المؤمنين حنينًا إلى مشاهدةِ بيتِه الحرامِ، وليس كلُّ أحدٍ قادرًا على مشاهدتِه في كلِّ عامٍ؛ فَرَضَ على المستطيعِ الحجَّ مرةً واحدةً في عُمُرِه، وجعلَ موسمَ العشرِ مشترَكًا بين السائرين والقاعدين؛ فمَن عَجَزَ عنِ الحجِّ في عامٍ قَدِرَ في العشرِ على عملٍ يعملُه في بيتِه يكونُ أفضلَ مِن الجهادِ الذي هو أفضلُ مِن الحج ".
وممّا يَحْفَزُ المؤمنين على اهتبالِ منْحةِ العشرِ استشعارُ قِلِّةِ أيامِها وسرعةِ انقضائِها، على ما فسَّر به ابنُ عباس –رضي اللهُ عنهما- قولَه تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] بأنها عشرُ ذي الحجةِ.
عبادَ اللهِ!
والاستعدادُ الصادقُ في استقبالِ العشرِ مؤْذِنٌ بحُسْنِ استغلالِها، وخيرُ ما تُستقبَل به العشرُ تقديمُ التوبةِ النصوحِ بين يديها؛ إذ الذنوبُ أثقالٌ؛ تُعِيقُ المرءَ عن السيرِ إلى اللهِ، وتُقْعِدُ همَّتَه عن لُحوقِ رَكْبِ الأخيارِ. وعزيمةُ الرُّشْدِ على العملِ الصالحِ في هذه العشرِ مِن الصدقِ الذي لا يُخيِّبُ اللهُ به سعْيَ صاحبِه، ويَفْتَحُ به عليه الخيرَ مِن أوسعِ أبوابِه وأقربِها، كما قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُم} [محمد: 21]. وإدمانُ الدعاءِ بالافتقارِ إلى اللهِ بُغيةَ توفيقِه للعملِ الصالحِ في هذه العشرِ سبيلٌ مؤكَّدٌ للظفَر بخيرِها العظيمِ. وتعْظُمُ الاستفادةُ من موسمِ العشرِ بحُسْنِ تقسيمِ الوقتِ، والتنويعِ بين العباداتِ من صلاةٍ ودعاءٍ وتلاوةِ القرآن وذكرٍ ودعوةٍ إلى اللهِ ومحاسبةِ النفسِ وتفكُّرٍ في آياتِ اللهِ ومخلوقاتِه وتذكُّرِ القبورِ واليومِ الآخرِ وصدقةٍ وعفوٍ عنِ الناسِ وصلةِ الأرحامِ وتعاهدِ الجيرانِ وبذلِ السلامِ والتبسمِ في وجوهِ المؤمنين وبذلِ المعروفِ وأداءِ مناسكِ الحجِّ وإعانةٍ عليها وقيامٍ بشعيرةِ الأضحيةِ.
أيها المؤمنون!
حين أدركَ السلفُ الصالحُ نفاسةَ أيامِ عشرِ ذي الحجةِ، وسرعةَ تفصِّي زمنِها، وعظيمَ ثوابِ العملِ الصالحِ فيها؛ شمَّروا عن ساعدِ الجِدِّ في التقربِ إلى اللهِ بالطاعاتِ فيها؛ قال أبو عثمانَ النَّهْدِيُّ: " كانوا يعظِّمون ثلاثَ عَشْراتٍ: العشرَ الأخيرَ من رمضانَ، والعشرَ الأُوَلَ من ذي الحجةِ، والعشرَ الأُوَلَ من محرَّمٍ "، وكان ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ –رضي اللهُ عنهما-يخرجان إلى السوقِ في أيام العشرِ يُكَبِّرَان، ويُكَبِّرُ الناسُ بتكبيرِهما، وكان سعيدُ بنُ جبيرٍ -وهو أحدُ رواةِ حديثِ فضلِ العشْرِ- إذا دخلَ العشرُ اجتهدَ اجتهادًا حتى ما يَكادُ يُقْدَرُ عليه، وكان يقول: لا تطفئِوا سرجَكم لياليَ العشرِ؛ تُعْجُبُه العبادةُ، وقال الأثرمُ: " أتينا أبا عبدِاللهِ –يعني الإمامَ أحمدَ في عشرِ الأضحى، فقال: قال أبو عوانةَ: كنَّا نأتي سعيدَ الجُرَيْرِيَّ في العشرِ، فيقولُ: هذه أيامُ شغلٍ، وللناسِ حاجاتٌ ".
عبادَ اللهِ!
إنَّ استشعارَ تعظيمِ اللهِ لعشرِ ذي الحجةِ، وعظيمِِ فضلِها، وعِظَمِ أجرِ العملِ الصالحِ فيها، واستصحابَ قِصَرِ الدنيا وسرعةِ انقضائِها، ودوامِ البقاءِ في الدارِ الآخرةِ، ومسيسِ حاجةِ المرءِ يومَ الدينِ لِحَسَنَةٍ تبْقى له وسيئةٍ تُمحى عنه، وأنَّ الجزاءَ في الآخرةِ على ما أسلفَ العبدُ في الدنيا، كما يقالُ لأهلِ الجنةِ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] - إنَّ ذلك كلَّه من التوفيقِ الإلهيِّ للعبدِ؛ ممّا يصونُ به عمرَه من ذهابِه سدى، أو أنْ تنفَصِلَ عنه أيامُ العشرِ بَدَدًَا؛ فلا تفوتنَّكم!.
- التصنيف: