السينما وقضايا الجماهير

منذ 2021-10-15

الخطاب الفكري الموجَّه إلى الجماهير أو المعبِّر عن أفكارهم، وهمومهم وتطلعاتهم ونفسياتهم؛ أساس في الرؤية السينمائية،

السينما وقضايا الجماهير

مِن أبرز سمات عصرنا أنه عصر الصورة المتحركة في كافة أشكالها: الفيلم السينمائي بأنواعه، والإنتاج التلفازي، والأفلام القصيرة مختلفة الزمن، وغيرها من أشكال الفنون المرئية، التي أصبحت معبِّرة عن الفرد مثلما كان حال الفنان والأديب قديماً؛ يعبِّر عن مشاعره وأحاسيسه وفكره في الدرجة الأولى. أما السينما في عصرنا، فهي تعبِّر عن الفرد والعدد القليل من الناس، وأيضاً عن حركة الجماهير، وما تتوق إليه، وما يشبِع مشاعرها وذائقتها، وشتان بين التعبير عن الفرد والتعبير عن الجمهور.

ولا بد أن ندرك أن الفن السينمائي في أساسه ما هو إلا تطورٌ للفنون المرئية والآداب المكتوبة، فإذا كان المسرح أباً للفنون لأنه يجمع ما بين الكلمة المكتوبة في النص المسرحي المدوَّن، والتعبير عنه بالتمثيل الحركي، والأداء الصوتي للممثلين، بجانب ما يتجلى للمشاهدين من مرئيات تبدو في الديكور المسرحي، بالإضافة إلى ما يصاحب العرض المسرحي من موسيقى وأغانٍ ومؤثرات؛ أي أن حواس المتلقي تكون حاضرة في مشاهدة المسرح، خاصة حاستي البصر والسمع. ولكن يظل المسرح محدوداً في مكانه من خلال بنائه وخشبته وعدد معيَّن من الجمهور تستوعبه المقاعد، ولكنه - بلاشك - عظيم التأثير، لأنه يصهر في تكوينه فنوناً وآداباً عدة، وكلما اتسع الطرح الفكري في فكره الإنساني كانت صدقيته عظيمة.

أما السينما - وهي الفن السابع - فقد عالجت قصور المسرح ومحدودية مكانه وزمانه ومشاهديه، إلى آفاق رحبة تتسع باتساع العالم الذي نعيشه، فقد استوعبت السينما فنون المسرح المكتوبة والمسموعة والمرئية، وأضافت لها فضاءات حركية وزمنية يمكن أن يحققها الفيلم؛ فيمكن أن تكون مَشَاهد الفيلم في عشرات الأمكنة، دون أدنى مشكلة في الخلفيات المكانية، أو النقلات الزمنية.

وعن علاقة السينما بالجمهور، فإن أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» (القاهرة، 2015م)، يتناول هذه العلاقة مؤكداً على أن عصرنا الحديث هو عصر الجماهير؛ إذ صار للجماهير كلمة مسموعة في الحياة السياسية، وهو ما يشكل ضغطاً على أية سلطة من أجل أن تراعيَ مشاعر الجماهير. فنحن نعيش في مجتمع جماهيري، وقد سعت السينما إلى التعبير عن هموم الجماهير، مثلما عمل منتجو السينما وداعموها على استغلال الفنون من أجل إرضاء الجماهير وإمتاعها أو تنويرها، وهذا أمر يصدق على جميع الدول، فلا عجب في ذلك؛ فإذا كانت السينما الأمريكية مزدهرة، فإن السينما في الكتلة الشيوعية كانت أيضاً مزدهرة، على الرغم من التباين بل التناقض في طبيعة السلطة، ومستوى الحريات وحقوق الإنسان، وجوهر الديمقراطية. ولكن الكتلة الشيوعية أنتجت أفلاماً تدعم بها توجهاتها السياسية، وتنشر الفكر الماركسي، وتعرِّف بالثورة الحمراء، فهي أفلام دعائية موجهة وإن كانت مصنوعة بمستوى فني عالٍ. وفي المقابل فإن الغرب الليبرالي ينتج أفلاماً تعزز الليبرالية، وتتغنى بأمجادها وفكرها وحرياتها، وأيضاً تعبِّر بشكل واسع جداً عن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وفي كلتا الحالتين، فإن الجماهير حاضرة في السينما، من خلال صناعة السينما التي هي بطبيعتها تتوجه إلى الجماهير بخطاب فكري، مثلما تعبِّر عن الجماهير وهمومهم.

فالخطاب الفكري الموجَّه إلى الجماهير أو المعبِّر عن أفكارهم، وهمومهم وتطلعاتهم ونفسياتهم؛ أساس في الرؤية السينمائية، وكما يؤكد ألكسندر إليوت في كتابه «آفاق الفن» (القاهرة 1964م) فإن الأفكار بالنسبة إلى الفلاسفة هي نسمة الحياة فيهم. ومن هنا جاء الرأي الفلسفي أن الفن يجب أن يخدم الأفكار، وبخاصة فكرة الجمال، حتى لنكاد نتصور الجمال كمالاً فريداً أبدياً لا يُرى، غير أن الفـن طبقات في أعلاها الكمال النسبي، وفي أسفلها الرخيص والبخس. فأهم ما يميز الفن هو الجمال، بغضِّ النظر عن أشكال الفن: فن تشكيلي، سينما، مسرح، موسيقى... إلخ، فإن الجمال ديدنه، وإن تعددت مستويات الفن، ما بين فن رفيع عميق الفكر، رائع التكوين، وفن وضيع سطحي الفكر، ضعيف التكوين.

وهنا تحضر نظرية كولنجوود الذي يتحدث في كتابه «مبادئ الفن» (القاهرة 1998م) عن التأثيرات والأفكار في الفن؛ فيرى أن الخيال الفني يأتي من خلال تجربة يعيشها الفنان، وتتوالد مشاعر في نفسه نتيجة تلك المعايشة؛ بل إنه يعدُّ الخيال هو الوجه الآخر للتجربة، أو بالأحرى هو صورة التجربة في نفسه، وإن الصِّلات بين المحسوسات هي صِلات بين أفكار. فلا يوجد خيال فني في المطلق؛ إنما هو وليد تجربة ومعاناة ومعايشة، فأية تجربة نعيشها تترسب في وعينا كذكريات، ولكن في وعي الفنان تصبح مصدراً للإلهام سواء كان إلهاماً حالياً، أم إلهاماً مؤجلاً، المهم أنه يختزنها في أعماقه.

ذلك أن الفنان هو إنسان واعٍ، وهذا يعني أنه ليس حرّاً في تقرير أي مشاعرَ ستكون له، إلا أنه حرٌّ في تقرير أي مشاعر سيضعها في مركز وعيه. وما دام واعياً فهو مرغم على التصميم؛ إذ إن هذا التصميم هو الوعي ذاته. وبعبارة أخرى: فإن الإنسان يضع في بؤرة شعوره ووعيه ما يريد أن يكون مركزاً لتفكيره، وإذا كان مبدعاً أو مؤلِّفاً أو فناناً، فإن أحاسيسه وفكره ينضج، ويتحول إلى إلهام فني.

إن الانتباه إلى المشاعر يعني الإمساكَ بها أمام العقل، وتحريرَها من سيل الإحساسات البحتة، والاحتفاظَ بها أطول مدة قد تكون ضرورية حتى نستطيعَ أن نلحظها، وهذا يعني تثبيت الفعل الذي نعتمد عليه في شعورنا بها. فالنفس الواعية لا تظل خاضعة لمشاعرها؛ إذ هي تستطيع الانتقاء، وعزل أي عنصر متضمن في هذه المشاعر، وتركيز الانتباه عليه.

إذن: يكون السؤال متعلقاً بالأفلام الدرامية المعتمِدة على قصص، ويصاغ في سردية سينمائية وَفْق ما هو معروف في فن كتابة السيناريو، وهو ما يتطلب مزيداً من النقاش؛ إذ إن الفن أساسه الخيال، وهذا لا يعني أن الفنان يعيش بخياله في واقعه؛ وإنما الواقع يتجلى في خيال الفنان، بمعنى: أن الفنان - كيفما كان إبداعه - يعايش الواقع، وينفعل مع أحداثه، ومِن ثَمَّ يعيد إنتاجه بخياله في إبداعه، فهو لا يبتعد عن الواقع، إلا بمساحة تتيح له أن يعبِّر عما في الواقع من أزمات وأحداث.

وكما يشير ألكسندر إليوت، فإن الخيال بكل أحواله يلعب بين الذات والموضوع، وهو يساهم في الذهن (ومن طبعه أن يجرِّد) ويساهم كذلك في المواضيع وهي مجسَّدة. ولذا فإن الأعمال العظيمة التي تتسم بخصب الخيال قد تكون حرة ومجردة وموضوعية رغم ذلك؛ أي أنها دائماً من نوع خاص.

فربما يشكك المؤرخ والسياسي في قضية الخيال والتخييل في الفن، ويرى ألَّا علاقة بينها وبين الحدث التاريخي أو الثوري، ولكن التشكيك هنا لا معنى له، لأن الخيال أساس في الفن، ولكنه الخيال الإبداعي، الذي يمتاح، ويعبِّر، ويصف الواقع؛ بمعنى أن التخييل في السينما لا ينفصل عن الواقع، ولكن لا يمكن أن تكون الكاميرا ناقلة لكل ما في الواقع؛ وإنما تأخذ موضوعاً منه، ثم تعيد تكوينه بما يتناسب مع بنية الفيلم السينمائي. فهل يمكن للسينما أن تصف وتصور كلَّ ما حدث في ميدان التحرير خلال ثمانية عشر يوماً من الاعتصام الثوري؟

إنه من الصعب أن يتم تصوير حركة مئات الآلاف، وكلماتهم، ومشاعرهم، وأفكارهم؛ وإنما تكون براعة الفنان السينمائي (السيناريست، المصور، المخرج...) في التقاط المميز والصادق من هذا الزخم الكبير. ولذا، نتفق مع إليوت في أن الأعمال الفنية العظيمة خصبة في خيالها، وأيضاً مجردة وحرة وموضوعية، شريطة الصدق والمصداقية؛ لأنها لا تعبِّر عن شعور فرد، وإنما شعور المجموع. وفي الحدث الثوري، فإن المجموع هو الجماهير، وتكمن صدقية العمل الفني في قدرته على الاقتراب من نبض الجماهير، والتعبير عنهم؛ فكم من الأفلام السينمائية كانت رائعة في تكوينها الفني، ولكنها بلا مصداقية لأنها لا تعبِّر عن الجماهير، وإنما كانت مجرد أداة سياسية أنتجتها السلطة، لتزييف الوعي الجماهيري العام. وعلى النقيض، هناك أفلام كانت ميزانياتها قليلة، ولكنها عظيمة التأثير والعمق والدلالة.

إذن: السينما الدرامية تخييلية، ولكنها تخييلية مقننة بأبجديات صناعة السينما، وتستند قصصها إلى أحداث واقعية - أو شبه واقعية - من حياة الجماهير والناس، وتعيد صياغتها في إبداعها المرئي.

 ________________________________________________
الكاتب: 
مصطفى عطية جمعة

  • 2
  • 0
  • 795

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً